آية الله جوادي آملي
لا شكّ أنّ أفضل ما يُعرف عن أمير المؤمنين عليه السلام على الرغم من كثرة ما قيل في فضله وسمو مقامه من قبل الأعداء والموالين هو ما تحدّث به هو عن نفسه عليه السلام، وكان الشيخ الآملي (حفظه الله) قد كتب بحثاً حول الحكومة عند الإمام علي في نهج البلاغة فقدّم له بيان المقام الشامخ والجامع للإمام في الحكمة بشقيها النظري والعملي بالوقوف على بعض ما ورد عنه في هذا المجال ننشره بشيء من التصرّف في هذا الملف تعميماً للفائدة.
لا بأس – قبل الدخول في البحث – من عرض مقدّمة نشير فيها إلى سمو مقام علي بن أبي طالب عليه السلام ورفعته في الحكمتين النظرية والعملية، إلاّ أنّه مع صعوبة ذلك وعدم تيسره إلاّ لمعصوم مثله فإنّنا سنعرض لتعريف المقام الرفيع لعلي عليه السلام ورفعته، بغية الخروج بفائدة من هذه المعرفة، كما سنستعين بأقواله أيضاً في ذلك، فالإستعانة بكلماته يمكنها أن تعرفنا – إلى حدٍ ما – إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث يذكر بعض خصائصه في نهج البلاغة ممّا يوضح علو مقامه الحكيم.
ففي وصف له وهو يذكر تتلمذه علي يد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يقول عليه السلام:
"يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني به فأراه ولا يراه غيري – أي يرى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم – ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة".
وهذا بين من أن شامة علي عليه السلام هذه التي يشمّ بها نسيم الغيب، هي في الحقيقة عين الشامة التي يمتلكها الأنبياء عليهم السلام .
فعندما قدم إخوة يوسف عليه السلام من مصر وجلبوا قميصه قال يعقوب وهو على بعد فراسخ عديدة (إنّي لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون).
لقد كان يعقوب على يقين من أنّه يشمّ ريح يوسف، إذ أنّ الشامة المنبعثة من الغيب ليست شامة ملكية ولا مادية، إنّها كالنبوة لا علاقة لها بعالم الطبيعة والملك كي تشمّ بالمشام الظاهرية، أمر كهذا لا بدّ له من حاسة شامة ملكوتية غيبية كالنبوة التي هي أمر غيبي.
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يصف نفسه بأنّه يرى نور الوحي والرسالة ويشمّ رائحة النبوّة ثمّ يقول إنّه سأل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن رنّة الشيطان التي سمعها.
"ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه، صلّى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد آيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك لوزير، وإنّك لعلى خير".
أي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول إنّ رنّة الشيطان هذه هي حسرته أطلقها بعد أن عرف أنّه لا يعبد في مكان للوحي وللنبوة والرسالة نفوذ، هكذا عرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، علياً عليه السلام .
أمّا الإمام علي عليه السلام نفسه فيقول: "ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليّ الطير".
وعبارته هذه هي العبارات المعروفة في الخطبة الشقشقية، حيث يصف الإمام علي عليه السلام نفسه فيها بأنّه جبل شاهق تنحدر عنه العلوم، وطبيعي أنّه لا ينحدر السيل عن كلّ جبل إلاّ إذا كان مرتفعاً. فهو يرى أن لا قدرة لطائر أن يرقى ذروته وقمته، ولا قدرة للفكر البشري الاعتيادي أن يصل إلى المقام العالي الذي وصله عليه السلام ، كما أنّ العلوم تنساب من هذا الحكيم الإلهي وتنحدر كانحدار السيل، لذا لا قدرة للأفراد العاديين على هضمها واستيعابها، ولما لم يكن الوقوف أمام السيل ميسوراً فإنّه لا بدّ من الاستفادة من أطرافه وحوافه.
أمّا مقامه العلمي الرفيع فيقول عنه عليه السلام "أيها لاناس! سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض".
وبهذا يشير إلى خصوصيتين له هما من خصائص الكون إذ في الكون عالم ظاهر وعالم باطن.. عالم غيب وعالم شهادة، وتدلل العبارة السابقة على أنّ الجانب الغيبي للإمام علي عليه السلام هو أقوى من جانب الشهادة وأبلغ.
فهو يقول فيها إنّ معرفتي للعلوم والمعارف السماوية أكثر من الشهادة، كما أنّ الموجود المرتبط بعالم الغيب هو أقوى من الموجود المرتبط بعالم الشهادة.
ويقول عليه السلام: "والله لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلّى الله عليه وآله، إلاّ وإنّي مفضيه إلى الخاصّة ممن يؤمن ذلك منه".
إنّ هذه الإحاطة العلمية لعلي بن أبي طالب عليه السلام بعالم الغيب هي الحاكمة على عالم الشهادة عنده.
يقول عليه السلام: "ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم".
فهو يرى عليه السلام أنّ العلم الإلهي يتجلّى في القرآن غير أنّ الناس لا يرون هذا التجلّي الإلهي.
يقول: "فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته".
أي أنّ الله تعالى هو المتكلّم بهذا الكلام المسطور في الكتاب العزيز، وقد تجلّى سبحانه لمستمعيه بكلماته، فالقرآن صفة فعل الله ومظهره الناشئ من ظهور الصفة المنبعثة من ظهور الذات – وهناك عدّة مراتب تفصل بين مقام الفعل ومقام الذات – فالقرآن هو تجلّي فعل الله ومظهر أوصافه، فأمير المؤمنين عليه السلام يرى أنّ الله تجلّى للناس في القرآن، لكنّهم لم يروا هذا التجلّي، وأراهم قدرته فلم يروها، لهذا لا بدّ لنا من شخص يرى تجلّي قدرة الحق وظهورها، ليتمكّن من توضيحها للناس وإبلاغها.
كانت هذه نماذج سلّطت الأضواء على الإحاطة العلمية لعلي بن أبي طالب عليه السلام في مجال الحكمة النظرية.
أمّا فيما يتعلّق بالنماذج والنصوص التي تدلّل على الإحاطة الكاملة لعلي بن أبي طالب عليه السلام بالحكمة العملية.
فيقول عليه السلام: "وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيماء الصديقين" أي أنّ مظهرنا هو مظهر الصديقين في ميدان الاعتقاد والأخلاق والعمل، حيث أنّ الصدق في هذه المحاور الثلاثة ملكة راسخة لأهل البيت عليهم السلام "وكلامهم كلام الأبرار" وقد أشار القرآن الكريم إلى معنى الأبرار ونعتهم خاصة "عمار الليل" أي يقيمون الليل إحياء، فهو عامر بيقظتهم الإيجابية، ومن هنا فهو حي غير خرب، أمّا من يقطع الليل نوماً فإن ليله لا يكون حياً ولا معموراً، إنّ إحياء الليل وإعماره هو الذي يضيء النهار "ومنار النهار" أي أنّ النهار لا يضاء إلاّ بالضمائر النيّرة، فمثلما تنير الشمس الطبيعية فإنّ أولياء الله ينورون المجتمع كما تنير الشمس الطبيعية، فالنهار يستضيء بهم والليل يحيا بهم، إنّهم يمنحون العصر نوراً والأرض بركة.
"متمسكون بحبل الله يحيون سنن الله وسنن رسوله" أي إنّني من قوم يحيون السنن الإلهية ويحكّمون قوانين الله "لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون" إنّهم لا يتكبّرون ولا يتعالون ولا يعتدون، "ولا يفسدون".
ثمّ يقول في نهاية خطبته "قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل" أي قلوبهم في الجنة وأجسادهم منهكمة في العمل والجدّ، فأرواحهم في الملأ الأعلى أمّا أجسادهم فتتحرّك على هذا العالم، فيتزامن نعيم الروح في الجنة مع انشغال الجسم بالعمل.
إنّه عليه السلام من طراز أولئك الأتباع الصادقين للوحي، حيث لم يختلف لحظة واحدة عن السير في طريقه.
يقول عليه السلام: "إنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط" أي لم أمتنع لحظة واحدة عن تنفيذ أمر الله أو عن الانقياد لقيادة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لقد كانت طاعتي طاعة محضة لا يشوبها شيء.
ثمّ يقول عليه السلام: "فوالذي لا إله إلاّ هو إنّ لعلى جادة الحق" أي أقسم بالله أنّي سائر في طريق الحق وفي جادة الحقيقة.
"وإنّهم لعلى منزلة الباطل، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم" أي أنّ أولئك المخالفين ما هم إلاّ في منزلة الباطل، أما أنا فثابت على طريق الحق والحقيقة.
ويقول عليه السلام في بعض خطبه: "نحن شجرة النبوّة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكم".
أي أنّنا شجرة النبوّة الضاربة جذورها في أهل البيت الذين نالوا مقام النبوّة الشامخ وأصبحوا محل نزول فيض الرسالة ومحل رواح الملائكة وغدوها، إنّنا مقر العلم وينبوع الحكم والحكمة معاً.
بل يمكن القول أنّه إذا كان هناك علم فإنّ مركزه وقاعدته ومنطلقه هو علي وأبناؤه، وإذا كانت هناك حكمة – نظرية كانت أم عملية – فمصدرها أهل البيت عليه السلام ، ومثلما أنّ القرآن مبين وشارح دقيق للحكمة النظرية والعملية فإنّ أمير المؤمنين وهو القرآن الناطق هو الآخر مبين نحو دقيق لهما.
وكما أنّ القرآن إذا نزل على جبل لتصدّع من خشية الله فإنّ معرفة علي عليه السلام وحب علي عليه السلام إذا حلّ في قلب جبل لتصجع وتهافت، قال عليه السلام عند وفاة أحد أصحابه المقرّبين: "لو أحبّني جبل لتهافت"، فهو يرى أنّه لو أراد جبل استيعاب محبته وتحمّلها لتلاشى ولم يقدر على إدراك ولاية علي عليه السلام ومعرفتها مثلما هو غير قادر على تحمّل المعاني السامية للقرآن واستيعابها.
*شكا أحدهم حاجته إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأمر الخازن في بيت المال قائلاً: "أعطه ألفاً"، فاستوضحه الخازن: أأعطه ألف مثقال ذهب أم ألف مثقال فضّة؟ فأجاب عليه السلام: كلاهما عندي حجر، أعطه أنفعهما بحاله.