ماهر حسين
(374 ـ 447هـ)
احتشدت في ساحات القرنين الرابع والخامس الهجري شخصيات علمية وفكرية وثقافية متميزة لم يسبق أن شهد التاريخ الإسلامي في المرحلة السابقة عليها نظيراً لها، ولا زالت آثار ما أنتجته عقول هذه المجموعة ظاهرة حتى الآن في مجالات عدة (فقه، أصول، علم كلام، فلسفة، شعر...) ولعله إلى هذه الفترة التاريخية تعود بعض أهم الآراء والقواعد الفقهية والأصولية، باعتبار أن هذه الفترة انتهت مع بدايتها مرحلة مهمة من الاتصال بالإمام المعصوم عليه السلام وبالتالي توقف عصر النص لدى الشيعة وانفتح المجال أمام عصر الاجتهاد والتقليد. وبمعنى آخر لقد شكلت هذه الفترة مرحلة تأسيسية لبعض العلوم الشيعية (علم الأصول...) فالصدوق (ت381) والمفيد (ت413) والمرتضى (ت436) والطوسي (ت460) عاشوا في هذه الفترة الزمنية بالتحديد..
وعلى صعيد آخر فقد أدى الحضور العلمائي الكثيف في الساحة والذيكان نتيجة طبيعية لغيبة المعصوم عليه السلام أدى إلى قيام حركة علمية رائدة كانت سبباً في الاتساع الكبير للرقعة الجغرافية التي ينتشر عليها التشيع من أقصى المشرق الإسلامي إلى أقصى المغرب وبمراجعة الخارطة السكانية على أساس الانتماء الديني للسكان، والعائدة إلى تلك الفترة ومن خلال مقارنتها بالخارطة الحالية يمكن بوضوح ملاحظة مدى الانحسار أو بمعنى آخر أدق مدى التبدل الذي طرأ على هذا التوزع السكاني للمذاهب المختلفة ولا سيما الشيعة.. ومنا لمناطق التي أفل نجم التشيع فيها بعد أن كانت إحدى المراكز والقواعد الشيعية الأساسية في بلاد الشام ولقرون عدة هي منطقة حلب التي نبلغ فيها العديد من الفقهاء سنحاول هنا تسليط الضوء على واحد منهم هو الشيخ أبو الصلاح الحلبي.
* عصره:
ولد تقي الدين بن نجم الدين بن عبيد الله بن عبد الله بن محمد الحلبي في العام 374هـ في حلب المنطقة التي عبرها النبي إبراهيم الخليل عليه السلام خلال مسيره من العراق متوجهاً جنوباً والتي تقع الآن شمال سورية ولا تبعد كثيراً عن حدودها مع تركيا، وقد اكتسبت هذه المنطقة اسمها من اسم الحركة اليومية التي كان يقوم بها إبراهيم عليه السلام على تلك التلة التي تقع عليها قلعة حلب الآن، والتي تشرف على ذلك المنبسط المحيط بها من كل نواحيها. هناك كان الخليل عليه السلام يحلب قطيعه كل يوم ويوزع الحليب على أهل تلك البقعة التي خلد أهلها ذكر إبراهيم عليه السلام من خلال بناء مقامين له يقعان الآن داخل القلعة ودعوا منطقتهم باسم حلب نسبة إلى فعل إبراهيم عليه السلام.
لقد كانت ولادة الشيخ أبو الصلاح في زمن سعد الدولة (أبو المعالي) (ت381) ابن سيف الدولة الحمداني.
وتميز العصر الذي ولد وعاش فيه الشيخ الحلبي بحالة الانتعاش الشيعي العام في مختلف أرجاء العالم الإسلامي آنذاك فقد نشأت على امتداد هذه المنطقة كيانات شيعية مستقلة، الفاطميون في المغرب، الحمدانيون ومن بعدهم المرداسيون في حلب وأجزاء أخرى من بلاد الشام، والبويهيون في إيران والعراق، حتى بغداد عاصمة الدول العباسية كانت هي نفسها تحت حكم وسيطرة البويهيين الشيعة.
وإذا كانت القاعدة الأصلية والأولية التي تنطبق على إمارات الاستيلاء الأخرى فقدانها من الأهل لشرعية وجودها، وتستند في قيامها إلى مبررات الرغبات السلطوية لدى مؤسسيها، مدعمة بقوة على الطغيان والسيطرة، فإن الدولة الحمدانية أكدت ضرورة وجودها من خلال اندفاعاتها الجهادية المشفوعة بتوفيرها الأجواء لحركة علمية وفكرية واسعة فسجل لها التاريخ مآثر لا تمحى في حملها لراية جهاد البيزنطيين. على الجبهة الشمالية الغربية للعالم الإسلامي. ورعاية نهضة علمية كبيرة ساهمت هذه الدولة في قيامها وبلورتها من خلال رعاية رواد هذه الحركة.
لقد كانت صورتها المصغرة تظهر كثافة الجند المزدحم في القلعة وحشد العلماء والشعراء والأدباء في القصر.
أما البويهيون فقد أعطوا هم أيضاً حرية تامة لرواد الحركة الفكرية والعلمية زمن سيطرتهم على بغداد فتنفس أهل العلم الصعداء واستنشقوا عبير الحرية وهكذا تمكن ثلاثة (المفيد، المرتضى، الطوسي) من كبار علماء الشيعة من القيام بدور علمي رائد كاد يكون الأول في مرحلة الظهور العلمي والعلني الشيعي بعد سنوات قليلة فصلتها عن نهاية الغيبة الصغرى. ولم يضع حد لهذه الحركة العلمية إلا السيطرة السلجوقية على بغداد عام 447 وخروج البويهيين منها والذي تبعه فتن مذهبية.
* حياته العلمية:
كانت بغداد محط رحال العلماء ومقر الحوزة العلمية فكان من الطبيعي أن يشد ابن الصلاح رحاله نحوها قاصداً الاستفادة من علمائها، وهنا لا نعرف في أي سنة وصل أبو الصلاح بغداد لأول مرة وهل أنه أدرك الشيخ المفيد (ت413) قبل وفاته أو لا، وهل درس عليه أو على السيد المرضى أثناء حياة شيخه المفيد.
ما هو مؤكد ومقطوع به هو أن أبا الصلاح درس على السيد المرتضى الذي توفي في العام 436هـ وهنا أيضاً لا نعرف مقدار المدة التي قضاها عند السيد ولا المرحلة العلمية التي قطعها على يد السيد. وإضافة إلى دراسته على السيد فقد تتلمذ الشيخ أبو الصلاح على يد الشيخ الطوسي وهنا أيضاً لا نعلم إن حصل ذلك قبل وفاة السيد المرتضى أو بعد ذلك، إلا أن ما يساعد على ترجيح الرأي الأول هو أن الشيخ أبا الصلاح يعرف بأنه خليفة المرتضى في البلاد الشامية، وهذا يعني انتقاله إلى البلاد الشامية قبل العام 436هـ تاريخ وفاة السيد المرتضى وبالتالي يتحصل لدينا أن الشيخ أبا صلاح درس على الشيخ الطوسي في فترة مرجعية السيد المرتضى وليس في فترة مرجعية الشيخ، أي قبل العام 436هـ بالتأكيد حيث لم يعش الشيخ أبو الصلاح بعد هذا التاريخ سوى أحد عشر عاماً، أي حتى العام 447هـ وكان قد بلغ من العمر حين وفاته 73 عاماً أي أن عمره يوم وفاة السيد المرتضى كان بحدود 62 عاماً، يبقى أن نشير إلى أن عمر الشيخ أبا الصلاح يوم وفاة الشيخ المفيد كان 39 عاماً، وهذا يساعد على القول بأن أبا الصلاح كان في الحوزة العلمية في بغداد قبل وفاة الشيخ المفيد وكان يدرس على تلميذه السيد المرتضى في زمن مرجعية الأول.
ومن الناحية العلمية تتميز هذه المرحلة التاريخية بأنها كانت متصلة ومتممة لتلك الحقبة التي شهدت بروز العديد من النوابغ العلمية والفكرية والأدبية إضافة إلى عدد من الشعراء (المتنبي، أبو فراس الحمداني، أبو العلاء، الفارابي، المسعودي، صاحب مروج الذهب، ابن النديم، الطبري...).
فهؤلاء جميعاً إضافة إلى المشهد المتقدم ذكره من الفقهاء فضلاً عن الجو السياسي العام الذي ساعد على هذا النمو العلمي والفكري أدى إلى انتشار الكثير من الآراء والنظريات والأفكار التي تغذي الإنسان المعاصر لها بمخزون فكري كبير، وكان أبو الصلاح واحداً من هؤلاء الذين تشبعوا بنتاج عصرهم ولم يكن بعيداً عنهم ما كانت تضج به الساحة الثقافية والفكرية في ذلك الوقت وكيف لا يكون ذلك وأبو الصلاح يحتل موقعاً مرجعياً متقدماً على صعيد بلاد الشام ككل من قبل السيد المرتضى إضافة إلى ذلك فقد ساهم أبو الصلاح على صعيد حلب في الحركة العلمية لاتباع أهل البيت التي اشتهر عن فقهائها قولهم بوجوب الاجتهاد العيني في الفروع كما أخبر صاحب المعالم، وهذا يدل على وجود مدرسة شيعية قبل الشيخ أبي الصلاح إلا أنها تعززت مع السيد المرتضى في بعث حركة علمية كبيرة وحيث امتد نشاطهم العلمي إلى حلب وذلك من خلال تلامذتهم الحلبيين وغيرهم الذين أخذوا من حلب وبلاد الشام مسرحاً لحركتهم العلمية والتبليغية كأبي الصلاح وأبي جعفر محمد بن الحسن الحلبي وسلار وأبي علي الفارسي، وكان سلار نائباً عن المرتضى في بلاد حلب وكذا كان أبو الصلاح.
* تلامذته وآثاره:
وقد تتلمذ على يد الشيخ أبي الصلاح الكثير الكثير من الطلبة والعلماء، وقد حفظ لنا التاريخ بعض تلامذته وهم: عبد العزيز بن البراج، عبد الرحمن الرازي، الثواب بن الحسن بن أبي ربيعة الخشّاب البصري، وثابت بن أحمد بن عبد الوهاب الحلبي.
كما ترك أبو الصلاح العديد من المؤلفات منها:
ـ الكافي في أصول الدين وفروعه (الكافي في الفقه).
ـ التهذيب.
ـ المرشد في طريق التعبد.
ـ العمرة في الفقه.
ـ تدبير الصحة (صنفه لصاحب حلب نصر بن صالح).
ـ دفع شبه الملاحدة.
ـ البداية في الفقه.
ـ شرح الذخيرة للمرتضى.
ـ تقريب المعارف.
ـ الشافية.
ـ الكافية.
* قيمته العلمية:
شكَّل أبو الصلاح مرجعية محلية في بلاد الشام بالنيابة عن المرجع الأعلى آنذاك السيد المرتضى وكان السيد المرتضى إذا سئل من أحد الشاميين بأمر يقول لديكم أبو الصلاح وهذه شهادة من السيد على مدى ثقته بعلمه وأمانته.
ويقول الشيخ الطوسي (ت460) عن أبي الصلاح في رجاله في باب من لم يرِد عن الأئمة عليهم السلام: "تقي بن نجم الحلبي ثقة، له كتب قرأ علينا وعلى المرتضى".
أما ابن داود (ت707) صاحب الرجال فيصفه بأنه كان "عظيم الشأن من عظماء مشايخ الشيعة".
ويقول الحر العاملي في كتابه أمل الآمل بأنه "ثقة عالم فاضل فقيه محدث له كتب".
أما العلامة فقد وثَّقه وأثنى عليه في الخلاصة.
وقال منتخب الدين بأنه فقيه عين ثقة قرأ على المرتضى علم الهدى وعلى الشيخ أبي جعفر (الطوسي) وله تصانيف.
وقال عنه المحقق بأنه "من أعيان فقهائنا وكان خليفة المرتضى في البلاد الحلبية".
ويصفه الذهبي (ت1348م) بأنه "شيخ الشيعة وعالم الرافضة بالشام".
وفي الحقيقة كان أبو الصلاح من أبرز فقهاء الشيع الذي احتل مكاناً مرموقاً في دولة بني مرداس في حلب خصوصاً في عهد نصر بن صالح ورغم أننا لا نعرف الكثير عن حياته السياسية والعلمية إلا أن آراءه العلمية لا زالت محفوظة في الكتب المعتمدة وهو مارس دوراً كبيراً على صعيد نشر الثقافة الفقهية بين الناس وفق مذهب أهل البيت عليه السلام وكان وكيلاً عاماً للمرجع الأعلى حينذاك السيد المرتضى علم الهدى (رحمه الله) وبالتالي كان صاحب موقع متقدم في بلاد الشام عامة وحلب خاصة وكان الشيعة في هذه البلاد يرجعون إليه لاستفتائه في شؤونهم الدينية إضافة إلى أنه كان يقضي بينهم في الخصومات، وفي أيام حياته في عهد شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس سجل التاريخ أروع انتصار للمسلمين في حلب على قيصر البيزنطيين أرمانوس سنة 421 الذي حاول مهاجمة حلب يعاونه الكثير من أمراء وملوك أوروبا، وقد خلّد الشعراء هذه المناسبة كما خلد ذكر هذه المعركة من خلال بناء مشهد الإمام علي عليه السلام الذي يقال أنه ظهر في المنام على أحدهم وهو يحرس المدينة.
ولكن بعد كل هذه الأمجاد المتعددة العلمية والعسكرية.. والتي سجلها القرنان الرابع والخامس شاءت الأقدار أن لا ينتهي القرن الخامس كما بدأ فقد بدأ نجم التشيع يأفل عن حلب وبغداد وبدأ في الثانية قبل الأولى مع دخول السلاجقة في العام 447هـ بغداد وقضائهم على البويهيين فيها وقد أدى ذلك إلى خروج الشيخ الطوسي ومعه الحوزة العلمية إلى النجف ليغرس هناك حوزة جديدة في نفس العام الذي شهد أيضاً وفاة الشيخ أبي الصلاح الحلبي في الرملة وهو عائد من الحج.
يبقى أن نعترف بأن مرحلة الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والتي عاش أبو صلاح جزءاً أساسياً منها ـ لا سيما مع الأخيرين وكان نتاجاً لهذه المرحلة. تمثل مرحلة ذهبية مميزة في التاريخ العلمي الشيعي ـ لم تتكرر ـ وإن لم تكن هي الأولى ولا الأخيرة إلا أنها استطاعت أن تنجب عظماء علماء الشيعة.
ويمثل أبو الصلاح واحداً من أبناء تلك الحركة، وقد كان دوره مميزاً في نشر التشيع وحفظه في مرحلة زمنية دقيقة في المنطقة التي اتخذها مسرحاً لعمله.