من الإشكالات المطروحة في المجتمعات الغربية وهي مستشرية بقوة فيما بينهم أنه لا يمكن إثبات وجود الله تعالى. لأن الشيء الذي يمكن إثباته والتحقيق بشأنه، كما يزعمون، لا بد أن يكون خاضعاً للتجربة والملاحظة الحسية، فالمنهج التجريبي هو المنهج الوحيد الذي يمكن أن يوصل الباحث إلى نتيجة يقينية قاطعة، وأما سائر المناهج ـ كالمنهج العقلي المعتمد على القياس ـ فإنه لا يوصل إلى العلم واليقين، وبما أن الله تعالى لا يمكن إخضاعه للتجربة، فالتحقيق بشأنه ـ نفياً أو إثباتاً، هل هو موجود أو ليس بموجود ـ خارج عن قدرة الإنسان.
وقبل الإجابة على هذا الإشكال، تجدر الإشارة إلى أن الإثبات له معانٍ متعددة، فقد يأتي بمعنى ما يدل على الشيء أو يعرف عنه فيشمل المعرفة الفطرية والحضورية بالإضافة إلى المعرفة الاستدلالية، وقد يأتي بمعنى الاستدلال الذي ينقل الإنسان من حالة الجهل أو الشك إلى حالة العلم والقطع.
وعادة لا يستخدم علماء الإسلام الإثبات بالمعنى الثاني بشأن الله عزّ وجلّ، لأنه يستبطن أن الأصل هو الشك في وجود الله تعالى والدليل هو الذي يطرد هذا الشك ويثبت وجوده تعالى، والحق أن الأصل هو الإيمان لأنه موجود عند الإنسان بالفطرة، وما الأدلة والبراهين سوى تنبيه للغافل وتذكير للناسي وإلفات لغير الملتفت.
نعم، إن قصور التعاليم الدينية عامة والكنسية خاصة التي سادت المجتمعات الغربية، وعدم وصول المعارف الفلسفية والعلوم العقلية عندهم إلى مرحلة النضج والبلوغ، إذ أن فلاسفتهم لم يتجاوزوا الطفولة بالنسبة إلى الفلسفة الإسلامية على حد تعبير الشهيد مطهري قدس سره بالإضافة إلى ظروف وعوامل أخرى تعرضت لها هذه المجتمعات جعلت الأصل عندهم الشك في وجود الله، بل الشك في كل شيء حتى البديهيات، لقد وصل الشك إلى مستوى السيادة في الوسط المعرفي في الغرب حتى صار الشك في وجود الله، بل الشك في كل شيء حتى البديهيات، لقد وصل الشك إلى مستوى السيادة في الوسط المعرفي في الغرب حتى صار الشك في وجود العالم والنفس وكل شيء هو الأساس، وكل شيء يحتاج إلى دليل، وقد وصل الأمر إلى أن يحاول ديكارت ـ وهو أحد كبار فلاسفتهم ـ أن يشيد البناء المعرفي اليقيني على أساس الشك حيث اعتبره أنه الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يشك فيه الإنسان، وبغض النظر إلى أي مدى كان موفقاً، إلا أن محاولته هذه كان لها الكثير من الآثار الإيجابية في المجتمع الغربي.
وعلى كل حال، لم تكن المشكلة الوحيدة عندهم أن الأصل في وجود الله تعالى هو الشك، ولكن الأخطر من ذلك الذي هو الأساس لهذه المشكلة وسواها هو هذا الاستسلام التام والانسحاق أمام الأسلوب التجريبي في المعرفة والاستدللا بحيث أنهم لم يعودوا يثقون بأي طريق آخر سوى التجربة. لقد اعتبروا أن كل شيء لا تثبته التجربة، أو لا يمكن أن تثبته التجربة فإنه لا طريق آخر لإثباته، وبما أن الله تعالى لا ينال بالتجربة، ولا يمكن اكتشافه في المختبرات ولا من خلال المراصد فإنه لا يمكن إثبات وجوده.
يقول أحد الباحثين الماديين: "كل معرفة حقة مرتبطة بالتجارب، بحيث يمكن فحصها أو إثباتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة"(1) وبناءً عليه يعقب هيوم فيقول: لقد رأينا الساعات وهي تصنع في المصانع ولكننا لم نرَ الكون وهو يُصنع، فكيف نسلم بأن له صانعاً؟"، وانتهى هكسلي إلى القول: "إذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين طبيعية فلا ينبغي أن ننسبها إلى أسباب فوق الطبيعة"(2).
نعم، في أحسن الأحوال يمكن توجيه موعظة أخلاقية للبشر، كما يفضل الفيلسوف كانت، مفادها أنه من الأنفع لهم الإيمان بوجود الله تعالى لأنه ـ أن الإيمان ـ يوفر لهم الأمل والاطمئنان والاستقرار النفسي ويدفع عنهم اليأس والقنوط، طبعاً مجرد الإيمان وليس الله عزّ وجلّ هو الذي يفعل كل ذلك لأنه بحسب زعمهم ليس معلوماً "بالتجربة" أن الله موجود أم لا.
ولكن هل حقاً أن الإنسان لا يستطيع إثبات على نحو القطع واليقين إلا عن طريق التجربة؟ وهل هذا النمط من التفكير صحيح؟
في الواقع إن هذا النمط من التفكير خاطئ تماماً (وخاصة بشأن الله عزّ وجلّ)، لأنه أولاً لا حاجة في هذه المسألة بالذات للإثبات والاستدلال، فالأصل هو الإيمان بالله تعالى، وثانياً فإن حصر طريق العلم واليقين بالتجربة لا برهان عليه، بل البرهان على خلافه بل إن وجود معارف يقينية عند الإنسان غير خاضعة للتجربة ولا تعتمد عليها هو أمر ضروري وبديهي لا يحتاج إلى برهان، إن المشكلة الحقيقية عند علماء الغرب هي هذا التقديس المتورم للتجربة وإقحامها فيما يعنيها وما لا يعنيها حتى وقعوا في الكثير من المطبات، لقد أخذ الغربيون على الكثير من أتباع أرسطو التقديس الزائد للعقل وإقحامه حيث يجب أن تكون الملاحظة والتجربة هي الأساس، ولكنهم وقعوا فيما أخذوه على غيرهم واقترفوا ما اتهموا به غيرهم.
يقول الشهيد مطهري: طرحت في العصر الحاضر ـ خصوصاً في أوروبا ـ مسألة بشأن الخالق تعالى، حيث قالوا بأن هذه المسألة غير قابلة للخل... فالتحقيق فيما وراء المحسوسات نفياً وإثباتاً خارج عن قدرة البشر، ولذا فلا ينبغي للإنسان الدخول في مثل هذه الأبحاث"(3).
ويضيف الشهيد رضي الله عنه معترضاً على هذا الزعم فيقول: إن هذا التفكير خاطئ جداً لأن تصديقاتنا بما وراء الحس لا تنحصر بمسألة وجود الله تعالى، بل تشمل الكثير من المسائل التي نصدق بها مع عدم الإحساس بها"(4) ويذكر الشهيد في هذا المجال ثلاثة مسائل: قانون العلية، مفهوم الاستحالة، الدور، ونحن سوف نتعرض لكل واحدة منها بالشرح والتوضيح.
* قانون العلية:
يعتقد جميع العلماء والمفكرين. بل وجميع البشر على الإطلاق ـ بقانون العلية. وهذا القانون من البديهيات التي سلّمت بها جميع المذاهب الفكرية والعلمية لشدة وضوحها من جهة، ولحاجة أي بناء علمي ومعرفي إليه من جهة ثانية، لأن من ينكر هذا القانون يعني أنه ينكر كل هذا الصرح العلمي الشامخ سواء على المستوى الفلسفي أو التجريبي، وعلى كل حال فالمذاهب الإلهية والمادية بأجمعها تسلّم بهذا القانون.
لكن الاختلاف في مسألة أخرى وهي كيف توصل الإنسان إلى هذا القانون، يقول العلماء الماديون إن التجربة هي التي أوصلت الإنسان إلى الاعتقاد بهذا القانون، فنحن مثلاً كنا نشاهد الاحتراق دائماً بعد حصول النار، ولذلك توصلنا من خلال الحس والتجربة إلى أن النار هي علة للاحتراق، وعندما اصطدمت الكرة(أ) بالكرة(ب) تحركت الكرة (ب)، فمن خلال هذه الملاحظة الحسية توصلنا إلى أن علة حركة(ب) هو اصطدام(أ) بها، وهكذا فهذا القانون قانون تجريبي ونحن نعتقد به من خلال التجربة.
ولكن التحقيق على خلاف هوى التجريبي فليس الأمر بهذه البساطة التي يصورها، ولتوضيح الأمر لا بد من الوقوف عند حقيقة قانون العلية ولو إجمالاً.
عندما نتحدث عن علّية شيء لشيء ونقول مثلاً: (أ) علة لـ(ب)، و(ب) معلول لـ(أ) فماذا نعني من كون (أ) علة و(ب) معلولاً؟ فهل المقصود فقط أن وجود (ب) يحل بعد وجود(أ) وانتهت القضية؟ وهو ما يعبر عنه بالتوالي أي أن المعلول يلي العلة في الوجود، فهذا الليل يحصل بعد النهار ولا أحد يقول بأن النهار هو علة لليل والليل معلول للنهار، أم أن هناك شيئاً بالطبع هناك شيء آخر وهو ما يعبر عنه بالضرورة، فنحن نعتقد بأنه إذا ما وجدت العلة بكل شرائطها فإنه حتماً وضرورةً سوف يوجد المعلول، وإذا ما اكتشفنا أن المعلول موجود فهذا يدلنا حتماً وضرورة على وجود العلة لأنه يستحيل وجود المعلول من دون علته.
فهناك إذاً أمران: الأول: الحتمية والضرورة، فالعلية تعني أنه بعد وجود النار ـ مثلاً ـ بكل شرائطها يصبح وجود الاحتراق ضرورياً وحتمياً ولا يمكن أن لا يحدث الاحتراق.
والثاني: الاستحالة، فإذا علمنا بوجود الاحتراق فهذا يكشف لنا بالضرورة على وجود النار لأنه يستحيل حصول الاحتراق من دون علته.
نعم من لوازم الضرورة بين العلة والمعلول التوالي أو المعية في بعض الأحيان، ولكن لا يمكن أن نختصر العلية بالتوالي أو المعية، والمقصود من التوالي أن يحصل المعلول بعد العلة زماناً ومن المعية أن يحصل المعلول مع العلة في نفس الزمان. وهنا يدرك العقل أمراً ثالثاً وهو استحالة حصول المعلول قبل العلة زماناً.
والتدبر هنا يوصل إلى أن نهاية ما يدركه الحس هو التوالي أو المعية، ولكننا عرفنا أن التوالي لا يعني العلية، فالحس كما يدرك حصول الاحتراق بعد النار، يدرك حصول الليل بعد النهار ولا فرق بينهما بالنسبة إليه، ولكن العقل هو الذي يدرك الضرورة في الأولى وبالتالي يحكم بالعلية بينهما، وينفيها عن الثانية، وبالتالي لا يحكم بالعلية بينهما، فقانون العلية إذاً عقلي وليس حسياً، وقد تفطن إلى هذه النكتة دايفيد هيوم من علماء الغرب فأثار هزة معرفية كبيرة زادت من سيادة الشك في أوساط ذلك المجتمع.
وظلّت كذلك حتى جاء "كانت" حيث عمل على رتق بعض ما فتقه هيوم معتبراً أن العلية من الإدراكات غير التجريبية التي يدركها العقل بالفطرة.
والأمر الثاني في قانون العلية هو استحالة وجود المعلول من دون علته، وكذلك استحالة وجوده قبل علته زماناً، هذا الإدراك أيضاً ليس حسياً، فالشيء المستحيل هو الذي لا يمكن أن يحصل، وإذا لم يحصل فكيف يطالها لحس، وكيف نخضعه للتجربة؟ يقول الشهيد مطهري: إن مفهوم الاستحالة هذا هو بحد ذاته مفهوم غير محسوس وهذا أصل من أصول الفكر البشري(5).
* مسألة الدور:
ومن المسائل التي يدركها العقل البشري من دون الاستعانة بالحس والتجربة مسألة الدور، والدور بالمعنى الفلسفي هو توقف وجود شيء على وجود شيء آخر معلول له، فإذا قلنا بأن(أ) علة لـ(ب)، و(ب) علة لـ(أ) في نفس الوقت فهذا دور والإنسان يدرك بالبداهة والضرورة استحالة هذه القضية، أي أن تكون (أ) علة لـ(ب) وفي نفس الوقت (ب) علة لـ(أ)، وهذا مسلَّم عند الجميع، ونحن نسأل: كيف يمكن للإنسان أن يجرب مثل هذا الأمر؟ يقول الشهيد مطهري:
"لا بد أنكم سمعتم بمسألة "الدور". يقول الفلاسفة ـ وكذلك غير الفلاسفة ـ إن كل إنسان يدرك عقلاً بأن الدور محال، والمحالات ليست محسوسة أصلاً، لأنها لو كانت محسوس لزم أن تكون موجودة لكي يمكن الإحساس بها، ولو كانت موجودة لم تعد محالاً، ومع أنها ليست محسوسة فإن علم أي إنسان باستحالة الدور ليس بأضعف من علمه بوجود الشمس في رابعة النهار"(6).
وهكذا هناك الكثير من المسائل التي يدركها العقل بالبداهة والضرورة وقد سلم بها جميع البشر ومع ذلك فهي ليست محسوسة ولا خاضعة للتجربة. وبالتالي فليس صحيحاً أن نقول إننا لا نستطيع إثبات وجود الله تعالى ـ ولا نفيه ـ لأنه غير محسوس والإنسان لا يستطيع التحقيق في الأمور غير المحسوسة، "فهذا الكلام" كما يقول الشهيد رضي الله عنه "لا يصلح دليلاً على النفي، فإنه قد يكون الشيء معقولاً وليس بمحسوس وفي الوقت نفسه قابل للإثبات".
(1) قاموس الفلسفة/ ص 285.
(2) الدين بدون قناع/ ص 58.
(3) التوحيد/ ص 23.
(4) التوحيد/ ص 24.
(5) التوحيد/ ص 24.
(6) التوحيد/ ص 26.