مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قيادة الإمام الصادق عليه السلام: نظرتان خاطئتان



الإمام الخامنئي(حفظه الله)


بحث كتبه سماحة الإمام الخامنئي قبل انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران اخترناه لقرائنا الكرام لما فيه من مطالب تحقيقية مهمة حول حياة الإمام الصادق عليه السلام.

ثمة نظرتان خاطئتان بشأن الإمام الصادق عليه السلام، ناشئتان عن لونين من التفكير؛ ومن الغريب أنّهما على اختلافهما تتقاربان في الشكل والمحتوى والمنشأ، بل يمكن القول أنّ النظريتين تشتركان في بعض المحاور اشتراكاً تاماً:

النظرة الأولى: مدافعة يبديها أولئك الذين يخالون أنّهم من أتباع الإمام ومواليه.. إنّها نظرة شيعة الإمام الصادق عليه السلام بالقول، لا بالعمل، وتتلخّص بما يلي:
إنّ الإمام الصادق عليه السلام توفرت له ظروف لم تتوفر لإمام من قبله ولا من بعده، استطاع أن يستغلها لنشر أحكام الدين، وأن يفتح أبواب مجلسه لطلاب العلم. جلس في بيته، وفتح صدره للمراجعين، وتصدّى للتدريس ونشرِ المعارف، وارتوى كل من قصده من طلاب العلم وناشدي الحقيقة. اشترك في مجلس بدرسه أربعة آلاف تلميذ، وعن طريق هؤلاء التلاميذ انتشرت علوم الإمام الصادق، منها العلوم الدينية: كالفقه والحديث والتفسير، ومنها العلوم الإنسانية: كالتاريخ والأخلاق وعلم الاجتماع.
وتصدّى الإمام لمناقشة المنتمين إلى الأفكار الدخيلة، والردّ على الزنادقة والماديين والملحدين، مباشرةً أو عن طريق تلاميذه، وقارع أصحاب النحل المنحرفة بقوة. ولكل مجالٍ من مجالات الدين، ربّى كوكبةً من الطلبة والمتخصصين.

ويقول أصحاب هذه النظرة أيضاً؛ إنّ الإمام – وحرصاً على استمرار هذا المشروع العلمي – اضطر إلى عدم التدخل في السياسة، فلم يُقدِم على أيّ عمل سياسي، بل وأكثر من ذلك فإنّه سلك طريقاً يتماشى مع سياسة خلفاء زمانه لاسترضائهم، ولاستبعاد أية شبهة يمكن أن تحول حول نشاطه. لذلك لم يجابههم، ومنع أيضاً أن يجابههم أحد. وقد تستلزم الظروف أن يذهب إليهم وينال جائزتهم وحظوتهم، وإن حدث أن أساء الحاكم به الظن – نتيجة حدوث حركة ثورية أو تهمة لفّقها نمّام- يتجه الإمام عليه السلام إلى استمالة الحاكم ومجاملته.
ويورد أصحاب هذه النظرة شواهد تاريخية، من ذلك رواية ربيع الحاجب وأمثالها، التي تصوّر الإمام في مجلس المنصور وهو يبدي الاعتراف بالتقصير وإعلان الندم، وتنقل عن الإمام عبارات مدح وثناء يبديها تجاه الخليفة المنصور، مما لا يشك الإنسان في كذب صدورها عن الإمام الصادق عليه السلام تجاه طاغية كالمنصور. هذه العبارات تصور المنصور بأنّه كيوسف وسليمان وأيوب، وتطلب منه أن يصبر على ما يرى من إساءات الإمام أو إساءات بني الحسن: "إنّ سليمان أعطي فشكر، وإنّ أيوب ابتلي فصبر، وإنّ يوسف ظلم فغفر، وأنت من ذلك السنخ..".
هذه نظرة تصور الإمام عالماً، باحثاً، وأستاذاً كبيراً انتهل من بحر علمه أبو حنيفة ومالك و.. لكنّه كان بعيداً كلّ البعد عن كلّ مقاومة لعدوان السلطة على الدين، وعن كلّ ما تتطلبه مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام السلطان الجائر... كان بعيداً كلّ البعد عن الثوار من أمثال: زيد بن علي ومحمد بن عبد الله والحسين بن علي شهيد فخ، بل عن الجنود المقاتلين مع هؤلاء الثوار، ولم يكن يبدي أي رد فعل تجاه ما يحل بالمجتمع الإسلامي، ولا يكترث بما كان يكتنزه المنصور من أموال طائلة، ولا بما كان يعاني منه أبناء رسول الله في جبال طبرستان ومازندران، وفي رساتيق العراق وإيران من جوع، بحيث لا يجدون ما يسدّ رمقهم، ولا ما يسترهم إذا أرادوا الصلاة جماعة!! ولا يهتمّ بما كان يتعرض له أتباعه من قتل وتعذيب وتشريد وهم صفر اليدين من كلّ متاع يتنعم به الأفراد العاديون من أبناء المجتمع آنذاك!!
في ظنّ أصحاب هذه النظرة أنّ الإمام الصادق لم يبدِ أيّة حساسية تجاه هذا الوضع، بل كان قانعاً بأن يأتيه مثل ابن أبي العوجاء، فيقارعه بالحجج والبراهين ويغلبه، ويخرج من بيته مهزوماً .. دون أن يؤمن طبعاً.
هذه هي صورة الإمام الصادق كما يرسمها أصحاب النظرة الأولى.

النظرة الثانية: وفي المقابل نظرة متحاملة على الإمام ترى أنّه عليه السلام وقف تجاه ما كان يحيق بالمجتمع من ظلم موقف عدم اكتراث. فالمجتمع في زمانه كان يضجّ بالمظالم الطبقية والطغيان السياسي والسيطرة المقيتة على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم، وأكثر من ذلك على عقولهم ونفوسهم وتفكيرهم ومشاعرهم. حتى لم تعد الأمة تتمتع بأبسط الحقوق الإنسانية، بما في ذلك القدرة على الانتخاب. مقابل هذا كان الطواغيت يتلاعبون بمقدرات الناس كيفما شاؤوا، ويبنون القصور الفارهة، مثل قصر الحمراء جوار آلاف الخرائب التي يعيش فيها البؤساء من عامة الشعب... في مثل هذا المجتمع المليء بألوان التعسف والاضطهاد يتجه الصادق عليه السلام إلى البحث والدراسة وتربية الطلبة، ويصبّ اهتمامه على تخريج الفقهاء والمتكلمين..!!
إن كلا النظرتين مجحفتان، لا تقومان على أساس ولا تستندان إلى دليل واقعي. غير أنّ النظرة الأولى أشد إجحافاً وأكثر ظلماً للإمام الصادق عليه السلام لأنّها صادرة عن لسان من يدّعي أنّه من شيعته وأتباعه.
لا أريد أن أنهج هنا أسلوب البحث العلمي المتداول في الدراسات بعرض جميع النصوص الواردة عن حياة الإمام الصادق عليه السلام وأُقارن بينها من حيث المتن والسند لأخرج بنتيجة، فذلك له مجاله في مجالس البحث العلمي.
أريد هنا أن أطرح نظرة ثالثة مقابل تينِك النظرتين... وأقرن هذه النظرة بأدلة مستقاة من مصادر موجودة بين أيديكم، كي تستطيعوا – مثل حَكَم محايد – أن تتطلعوا من خلالها إلى الوجه الحقيقي للإمام عليه السلام.
وقبل أن أدخل في صميم البحث يلزمني أن أُشير إلى أن كلا النظرتين لا تقومان على أساس صحيح موثوق به.
فكما ذكرت أن النظرة الأولى تستند إلى عدد من الروايات (المرسلة وغير الموثوقة). وهذه الروايات تنسجم طبعاً من طالبي الراحة ومحبّي العافية، فيتذرّعون بها باعتبارها حجّة قاطعة. إنّها كافية لأن تكون مبرّراً للانتهازيين من ذوي النفوس الضعيفة المهزوزة.
فهذه الروايات تصور الإمام بأنّه راح يتملّق المنصور لحفظ حياته، مع أنّه كان قادراً أن يحتوي الموقف بأسلوب حكيم. وإذا كان ذلك شأن القدوة فما بالك بالمقتدي؟

نعتقد أنّ نصّ هذه الروايات كافٍ لإثبات زيفها. فالإمامُ كان قادراً على دفع شرّ المنصور عنه بطرق أُخرى كما حدث في مواقف عديدة تنقلها روايات موثوقة، فلا دليل إذاً على أن يعمد الإمام إلى هذا الملق الزائف والثناء الكاذب، ليضفي على المنصور خصالاً ليست فيه ومكانة لا يستحقها. فمكانة الإمامة أرفع من ذلك بكثير دون شك، وأسمى من أن تتلوث بمثل هذه المواقف المنحطّة.
ومن حيث السند، فإن تحرّي الدقّة في الرواة يكشف لنا عن أشياء كثيرة. ففي عدد من هذه الروايات نرى الإسناد ينتهي بالربيع الحاجب. والربيع حاجب المنصور! وما أعدله من راوٍ؟! ويظهر من المصادر أن الربيع كان أقرب الناس إلى المنصور وأكثرهم زلفة لديه.
استوزره المنصور سنة 153 ه (5 سنوات بعد وفاة الإمام الصادق)، أي نال رفعة في المقام... (ولعلّه نال هذا الترفيع ثمناً لما نسبه للصادق عليه السلام من أكاذيب).
مثل هذا الشخص الذي ثبت إخلاصه ووفاؤه لجهاز الخلافة لا يستبعد منه أن يختلق الأكاذيب، فينسب كلام الملق إلى الإمام الصادق أو يغيّر كلاماً حاداً قاله الإمام إلى كلام تضرّع والتماس. هذا ليس بغريب على هذا الحاجب، لكن الغريب أن يصدق عاقلٌ قولَ أحد بطانة الخليفة بشأن عدو الخليفة، ومقولة تشيّع هذا المفتري، وهي مقولة تشكل جزءاً من المؤامرات الدنيئة.

والنظرة الثانية أيضاً واهية بالدرجة نفسها وغير علمية. إنّها تشبه أحكام المستشرقين عن غرض أو جهل، ومن روح مادية محضة لا تنسجم إطلاقاً مع طبيعة الأحداث الإسلامية. ولقد شاهدنا تلك الأحكام الفجّة التافهة التي تصدر عن بعض المستشرقين تجاه الإسلام وأئمة أهل البيت عليه السلام. كقول أحدهم عن الإمام الحسن المجتبى أنّه باع الخلافة بالمال! وقضى عمره بين العطر والمرأة والترف! وقول مستشرق آخر: إنّ الإسلام نقل المجتمع من مرحلة الرقية إلى مرحلة الإقطاع!!
والنظرة الثانية التي نتحدث عنها تشترك مع أقوال هؤلاء المستشرقين في السطحية والتسرّع والمنطلق المادّي.
والطريف أنّ الوثائق التي يعتمد عليها أصحاب النظرة الثانية ليس سوى ما يلفّقه أصحاب النظرة الأولى من أحكام!!
في الحلقة القادم: النظرة الصحيحة.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع