كلّ بني البشر يرغبون في العيش في مجتمع مثالي ونموذجي، وكلّ الشعوب تسعى من أجل مجتمع صالح جديد، وهي تحلم على الدوام بذلك اليوم الذي تنشئ فيه هذا المجتمع. وقد قدمت المذاهب الفكرية بدورها سبلاً متنوعة لإقامة مثل هذا المجتمع وطرحت لذلك مناهج مختلفة، وهي تحاول أن تحقّق للبشرية حلمها القديم وتصنع لها تلك الجنة التي تريدها.
وقد بذل العلماء والباحثون جهوداً كبيرة من أجل بلوغ المجتمع البشري بمساعيه لإقامة المدينة الفاضلة وقدموا الكثير من المشاريع والخطط التي تطرح الأسئلة الآتية وتحاول الإجابة عنها في طريق تحقّق هذه الأُمنية العظيمة:
- أبالإمكان تحقيق المدينة الفاضلة؟
- هل تتوافر إمكانية إيجاد الجنة المطلوبة في عالم البشر؟
- كيف يمكن يا ترى خلق مجتمع صالح ونموذجي؟
- وهل يمكن بالتعاون والتعاضد بلوغ هذه الأمنية العظيمة؟
- وهل يتيسر باللامباليات والأنانية وحب الذات وبروح الانعزال والغفلة تحقيق مجتمع نموذجي لا مكان فيه لمختلف المفاسد الأخلاقية والاجتماعية؟
والإجابة عن هذه الأسئلة توضحها البحوث القيمة التي ينطوي عليها "نهج البلاغة" في مجال الأخلاق الاجتماعية. ولبلوغ هذه المرحلة نحتاج إلى أساليب ومراحل جديرة.
-كيف يمكن يا ترى خلق مجتمع صالح ونموذجي؟
-وهل يمكن بالتعاون والتعاضد بلوغ هذه الأمنية العظيمة؟
-وهل يتيسر باللامباليات والأنانية وحب الذات وبروح الانعزال والغفلة تحقيق مجتمع نموذجي لا مكان فيه لمختلف المفاسد الأخلاقية والاجتماعية.
والإجابة عن هذه الأسئلة توضحها البحوث القيمة التي ينطوي عليها "نهج البلاغة" في مجال الأخلاق الاجتماعية. ولبلوغ هذه المرحلة نحتاج إلى أساليب ومراحل جديرة بالاهتمام مثل:
* أولاً: معرفة المسؤوليات الاجتماعية "الوعي الاجتماعي".
يتطلب منهج "نهج البلاغة" معرفة المسؤوليات الاجتماعية أولاً، ثم السعي المتواصل للخروج بها إلى الواقع الموضوعي، إذ لا يمكن بالعزلة واللامبالاة والجهل اتخاذ حتى خطوة إيجابية واحدة نحو إعادة بناء المجتمع.
وقد دعا الإمام علي عليه السلام في الخطبة (127 شرح صبحي الصالح) أفراد المجتمع كافة إلى المعيشة الجماعية وبناء مجتمع توحيدي سليم، كما عرض في الخطبة (3) المسؤوليات الاجتماعية واعتبرها من الواجبات الملقاة على عواتق الناس كافة، وأعلن في الرسالة (78) أنّه ما من أحد يؤمن مثله أو يعتقد بضرورة الحياة الإجتماعية ووحدة الأمة الإسلامية وتماسكها. وقال في الرسالة (28): "وما أردتُ إلاّ الإصلاحَ ما استطعتُ، وما توفيقي إلاّ بِالله، عليه توكّلْتُ وإليهِ أُنيب".
وقال عن معرفة المسؤوليات الاجتماعية:
"ولكنّني آسى أن يَليَ أمرَ هذِهِ الأُمّةِ سُفَهاؤها وفُجّارُها فَيتّخدوا مالَ اللهِ دُولا وعِبادهُ حُولاً".
* ثانياً: الهدفية في بناء المجتمع:
بعد معرفة ضرورة الحياة الاجتماعية والمسؤوليات المرتبطة بها، لا بد أن تكون أهدافنا في عملية بناء المجتمع واضحة: لماذا نحن نهدف إلى بناء مجتمع نموذجي؟ لماذا لا يمكننا القبول بكثير من الأنظمة الاجتماعية السائدة؟ يشير الإمام علي عليه السلام في الخطبة 131 إلى بعض تلك الأهداف، فيقول:
"اللهم إنّكَ تَعلمُ أنّهُ لَم يَكنِ الذي كانَ مِنّا مُنافَسَةً في سُلطانٍ ولا التماسَ شيءٍ من فضولِ الحطام".
ثم يبين أهدافه العامة والقيّمة في بناء المجتمع، فيقول: "ولكن لِنَردَ المعالِمَ من دينكَ، ونُظهرَ الإِصلاحَ في بلادِك فَيأمَنَ المظلومونَ مِنْ عبادِك، وتُقام المعَطلةُ مِن حدودِك".
* ثالثاً: الاطلاع على الصيغ الناجحة:
بعد الوعي والهدفية ينبغي لنا أن ندرس الصيغ الناجحة وغير الناجحة المتعلقة بالأزمنة الغابرة، لنعرف لماذا جرّت الصيغ الخائبة المجتمع نحو التعاسة والإخفاق؟ ولماذا عجزت عن بناء مجتمع مثالي؟ وكيف حقّقت الصيغ الناجحة مجتمعاً صالحاً وعظيماً؟ وكيف تمكنت من النجاح في بناء المجتمع؟
الإمام علي عليه السلام يعرّف لنا الصيغ والرموز الناجحة وكذلك الرموز المخفقة طبقاً للأساليب العملية والتجريبية ودورها في بناء الأفراد، وينصحنا بأن نعتبر بتاريخ الماضين ونأخذ منه ما يلزمنا من دروس.
أ- الاهتمام بالصيغ الناجحة: يوصي الإمام عليه السلام ولده الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بالاهتمام بالصيغ الناجحة، فيقول له: "وصيّتي تقوى الله.. والأخذُ بما مضى عليه الأوّلون من آبائكَ والصالحونَ من أهلِ بيتكَ، فإنّهم لم يَدعُوا أن نَظَروا لأنفسِهِم كما أنتَ ناظِرٌ، وَفَكّروا كما أنتَ مُفكِرٌ".
وقال عليه السلام في عهده الشهير إلى مالك الأشتر:
".. ثُمّ ألصِق بذوي المُرواءاتِ والأحسابِ، وأهلِ البُيوتاتِ الصالحةِ والسَوابقِ الحَسَنَةِ، ثُمّ أهلِ النجدةِ والشّجاعةِ والسّخاءِ والسّماحةِ، فإنّهُم جِماعٌ مِنَ الكَرَمِ وشُعَبٌ مِنَ العُرفِ".
ب- أخذ العبر من الصيغ المخفّقة: ولكي لا تتكرّر لدينا أخطاء الماضين، ونمارس تجارب الآخرين، من الضروري أيضاً الاهتمام بالصيغ المخفقة، غير الناجحة.
قال الإمام علي عليه السلام:
"..فاعتَبِروا بما أصابَ الأمَمَ المُسْتَكْبرين مِنْ قَبلِكم مِنْ بأسِ الله وصولاتِهِ".
وقال عليه السلام في كلام قيّم آخر له:
"واحذَرُوا ما نَزَلَ بالأمَم قَبلِكُم مِنَ المَثُلاتِ بِسوءِ الأفعالِ وَذَميمِ الأعمالِ فَتَذكّروا في الخيرِ وَالشر أحوالَهُم واحذروا أن تَكُونوا أَمثالَهُم".
وأشار عليه السلام في الخطبة (230) إلى أسباب سقوط الماضين وزوالهم قائلاً:
"ولا تَغُرنّكم الحياةُ الدُنيا كما غرّت مَن كانَ قَبلكم من الأُمَم الماضية والقرون الخالية، الذينَ احتلَبوا دِرّتَها وأَصابوا عِزّتها".
* رابعاً: ضرورة بناء الذات:
بعد معرفة المسؤوليات الاجتماعية والهدفية الصحيحة في بناء المجتع والاهتمام الدقيق والدائم بالصيغ الناجحة والمخفقة، يصل بنا البحث إلى واحدة من أهم القضايا في بناء المجتمع، وهي ضرورة بناء الذات، فلا يمكن دون بناء أفراد المجتمع ومشاركة عامة الناس وإشرافهم على إصلاح بيئتهم الحياتية وبنائها، خطو أيّ خطوة إيجابية نحو إصلاح المجتمع وجعله مجتمعاً صالحاً ومثالياً. فكلّ أساليب بناء المجتمع ومراحله المهمة ترتبط ارتباطاً تاماً ببناء الذات ومشاركة عامة الناس في هذا البناء.
يقول الإمام علي عليه السلام بهذا الشأن: ".. فحاسِب نَفسَك لِنَفْسِك فإنّ غَيرَها من الأنفُسِ لها حَسيبٌ غيرُك". ويوصي ولده الإمام الحسن عليه السلام فيقول: "وأَكرِم نَفسَكَ عَن كُلّ دَنيّةٍ، وإن ساقَتْك إلى الرّغائب، فإنّكَ لن تَعتاضَ بما تَبذُل مِن نفسِكَ عِوضاً".
فلو أقدم كلّ أفراد البشر على بناء ذواتهم وطبقوا توجيهات الإمام علي عليه السلام التي هي أشبه بالوحي، وابتعدوا عن الصفات الذميمة والأخلاق السيئة، لسار المجتمع نحو الفضائل شيئاً فشيئاً ولبلغ تكامله الحقيقي.
قال الإمام عليه السلام في تحذير له مليئ بالعبر: "يا أسرَى الرّغبةِ اقصِروا".
* خامساً: التمسك بالعمل:
بعد طي المراحل السابقة وتحقّق مبدأ البناء الذاتي الجماعي القيم، ينبغي الامتناع عن طرح أيّة شعارات غير واقعية وأية مزاعم كاذبة، بل الاهتمام بالعمل واتخاذ الإجراءات الإيجابية والضرورية، أي أن ينصب الاهتمام على الفعل، لا القول وحمل الشعارات، فعلى كل فرد من أفراد المجتمع أن يبدأ عملياً بإصلاح نفسه ومجتمعه، ومحاربة أي شكل من أشكال الانحراف والفساد.
يقول الإمام علي عليه السلام في ضرورة الاتجاه العملي لدى الواعين والعلماء في المجتمع:
"... وإنّ العالِمَ العامِلَ بغيرِ علمِهِ كالجاهلِ الحائِر الذي لا يَستَفيقُ مِن جَهلِهِ".
ويقول في كلام قيّم آخر له:
"إنّ أفضَلَ الناسِ عِندَ اللهِ مَنْ كانض العملُ بالحقِ أحَبّ إليه وإن نقصَهُ وكرثَهُ مِنَ الباطِل وإن جَرّ إليه فائدةً وزادَهُ".
ويقول مخاطباً مالكاً الأشتر:
"فَليكُن أحَبّ الذخائرِ إليكَ ذَخيرَةُ العَمَلِ الصالِح فَاملك هَواك وشُحّ بِنَفسِكَ عمّا لا يحلّ لَكَ".
* سادساً: التفكير الجماعي (ضرورة الحياة الاجتماعية):
بعد الحصول على المعلومات اللازمة وبلوغ الأهداف التكاملية، ينبغي الإيمان إيماناً راسخاً بضرورة الحياة الاجتماعية. إذن إنّ نمو كلّ فردٍ وتكامله وسعادته ترتبط ارتباطاً تاماً بحياته الاجتماعية. يقول الإمام علي عليه السلام بهذا الشأن:
"وَالزَموا السَواد الأعظَمَ فإنّ يَدّ اللهِ مَعَ الجَمَاعةِ".
ثم يدين في الخطبة (167) كل أشكال اللامبالاة والانزواء والانعزال ويتحدث عن المسؤوليات الاجتماعية فيقول:
"اتقوا اللهَ في عِبَادِهِ وبلادِهِ فإنّكُم مَسؤولونَ حَتّى عَن البقاعِ والبَهائم".
بعد الانتهاء من حرب الجمل دخل الإمام البصرة وسأل عن عاصم بن زياد فقيل له إنّه آثر الانزواء والانعزال وترك الدنيا وهو منهمك في العبادة والدعاء في الصحارى القريبة من المدينة وإنّه ابتعد عن الحياة الاجتماعية.
فتألم الإمام عليه السلام من عمل عاصم هذا وأمر باستدعائه. وحين دخل عاصم بن زياد على الإمام في مجلسه، نظر الإمام إليه نظرة حادة وخاطبه قائلاً:
"يا عُدَيّ نَفْسِهِ، لَقَدش استَهامَ بِكَ الخَبيثُ أَما رَخمتَ أهلَكَ وَوَلدَكَ؟
أَتَرى الله أحلّ لَكَ الطيباتِ وَهُو يَكرهُ أن تَأخُذَها".
* سابعاً: ضرورة الوحدة والأخوة:
إنّ إعادة بناء المجتمع وإصلاح البيئة الاجتماعية رهين بالمساعي والهمم العالية لكلّ فرد من أفراد البشر، فلو انبرى كلّ الأفراد لبناء المجتمع الإسلامي واستنفروا كل قدراتهم من أجل ذلك، وواصلوا جهودهم ومساعيهم في هذا المجال، لأصبح تحقيق المجتمع المثالي والنموذجي أمراً ميسوراً.
لقد أجرى الإمام عليه السلام مقارنة قيّمة اعتبر فيها العظمة والعزة اللتين حصل عليهما العرب بعد الإسلام رهينتين بالوحدة والأخوة وقيام المجتمع الإسلامي الصالح، فقال:
"... والعَرَبُ اليومَ وإن كانُوا قَليلاً فَهُم كَثيرون بالإسلام عَزيزونَ بِالإجتماعِ".
ثم يحذرهم ويقول لهم إن كل شيء سيتغير في الأمة المتكاملة وستسقط، إذا ما قضي فيها على الوحدة وروح التعاون والأخوة، فيقول:
"فإن انقطَع النظامُ تَفَرّقَ الخَرَزُ وَذَهَب ثُمّ يَجتمِع بِحَذافِيرهِ أَبَداً".
للبحث صلة