صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

رحمةٌ في بلاء

الشيخ خضر ديب

عندما يتعرض الإنسان للبلاء، كثيراً ما يسأل: لم تعرض له؟ لمَ يتم اختباره؟ وهل هناك شيء خفي عنه حتى يظهر له بهذا الامتحان؟ أم أنّ السبب متعلّق بالإنسان نفسه؟ مجموعة أسئلة سنحاول، إن شاء الله، الإجابة عنها في هذه المقالة المختصرة(1).

*أشدّ الناس بلاءً
عَنْ عَليِّ بْنِ إبْراهيمَ، عَنْ أبيهِ، عَنْ ابْنِ مَحْبُوب، عَنْ سَماعَةَ، عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قالَ: إنَّ في كِتاب عَليٍّ عليه السلام: "إنَّ أَشَدّ النّاسِ بَلاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، وَإِنَّما يُبْتَلَى المُؤْمِنُ عَلى قَدرِ أَعْمالِهِ الحَسَنَةِ، فَمَنْ صَحَّ دِينُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، اشْتَدَّ بَلاؤُه؛ وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيا ثَواباً لِمُؤْمِنٍ وَلا عُقُوبَةً لِكافِرٍ، وَمَنْ سَخُفَ دينُهُ وَضَعُفَ عَقْلُهُ، قَلَّ بَلاؤهُ، وَإِنَّ البَلاء أسْرَعُ إِلَى المُؤْمِنِ التَّقِيِّ مِنَ الْمَطَرِ إِلى قَرارِ الأْرْضِ"(2).

ويستفاد من قوله عليه السلام: "وذلك أنّ الله عزّ وجلّ لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن ولا عقوبة لكافر" أنه لو جعلها كذلك لما منع المؤمن من الدنيا ولما اختبره بالبلاء، ولما سقى الكافر فيها شربة من الماء وإنّما جعل الآخرة كذلك، وليس للمؤمن الفقير الممتحن بالبلاء أن يغتمّ لأنّه مشارك للأنبياء والأولياء، ولا للغنيّ أن يغترّ ويفتخر لأنّه مشاركٌ للكفرة والجهلاء(3).
والمقصود بالناس عمومُ البشر، والبلاءُ هو الاختبارُ والامتحان، إن كان في الحسن أو في القبيح، في الخير أو الشر. يقول الحقُّ تعالى: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال: 17).

ويمكن لنا أن نستنتج من الرواية أنّ فلسفة البلاء على المؤمن هي بلحاظ أنّ محلّ الثواب للمؤمن، في الآخرة، فما يزيد هذا الثواب يكون حسَناً ومطلوباً، وهذا تماماً ما يفعله البلاء في الدنيا، فكلّما عظم البلاء، عظم الأجر في الآخرة، ومن هنا نفهم لماذا جعل البلاء منزلة ودرجة وسلّماً للكمال، ونفهم أيضاً لماذا كان الأنبياء والأوصياء على رأس هذه المنزلة والدرجة.

*فلسفة البلاء
إنّ المصائب والمشاكل التي تحيط بالإنسان في هذا الوجود نوعان:
1 - نتيجة عمل الإنسان:
على أساس قانون العلّيّة. وهي تأديب للظلّام، وهذه الحقيقة تحدّدها الآية الكريمة: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (الشورى: 30). إذ نلاحظ أنّ كثيراً من المصاعب والابتلاءات ناتج عن سوء استخدام الإنسان لحرّيّة الأفعال التي وهبها له الله سبحانه وتعالى، وما نراه في زماننا من مشاكل صحيّة وبيئيّة ناتجٌ عن سوء استخدام الإنسان(4).
وفيما خصّ الأقوام الذين كذّبوا وحاربوا رسلهم، قال تعالى: ﴿َفكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (العنكبوت: 40). فالحاصب: الإعصار، كان عقاب قوم "عاد"، والصيحة عقاب "ثمود"، والخسف كان عقاب قارون المغرور، أما الغرق فهو إشارة إلى فرعون وهامان وجنودهما.

2 - سرّ تكامل الإنسان:
وهذه فلسفة وجوده. فالإنسان ذو بعدين: جسد وروح. فما المؤدّي إلى تكامل كلٍّ منهما؟
أ - الجسد: ليس الرخاء هو الذي يجعل الجسم قوياً ومتكاملاً، بل الشدائد والمصاعب تخلق التكامل؛ وفي ذلك يتحدّث أمير المؤمنين عليه السلام: "ألا وإنّ الشجرة البرّيّة أصلب عوداً، والرواتع الخضراء أرقّ جلوداً، والنباتات العذيّة [البرّيّة] أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً"(5) فالشجرة التي تنبت في البرّ الذي لا ماء فيه، هي أصلب عوداً من الشجرة التي تنبت في الأرض النديّة. ثمّ قال: (والنابتات العذيّة) أيّ الزرع لا يسقيه إلّا ماء المطر، وهو يكون أقلّ أخذاً من الماء من النبت سقياً. فتكون أقوى وقوداً، ممّا يشرب الماء السائح أو الماء الناضح. فلا بدّ أن يرى الإنسان في دنياه الشدائد حتى يتعلّم طريق الخلاص منها، ولا بدّ له أن يواجه الصعوبات؛ حتى ينضج ويتكامل.

ب - الروح: الروح كما الجسد تقوى بالشدائد؛ وفي هذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله ليغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذّي الوالدة ولدها باللبن"(6). وعلى هذا تكون الابتلاءات سرّ تكامل الإنسان.

*البعد التربوي للبلاء والاختبار
إنّ مفهوم الاختبار الإلهيّ يختلف عن الاختبار البشري. اختباراتنا البشريّة تستهدف رفع الإبهام والجهل، والاختبار الإلهيّ قصده "التربية".
تحدّث القرآن في أكثر من عشرين موضعاً عن الاختبار الإلهيّ، باعتباره سنّة كونيّة لتفجير الطاقات الكامنة، ونقلها من القوّة إلى الفعل، وبالتالي، فالاختبار الإلهيّ هو من أجل تربية العباد؛ فكما أنّ الفولاذ يتخلّص من شوائبه عند صهره في الفرن، كذلك الإنسان يخلص وينقى في خضمّ الحوادث، ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحدّيات. ومن أجل تصعيد معنويّات القوّات المسلّحة، يؤخذ الجنود إلى مناورات وحرب اصطناعيّة، يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحرّ والبرد والظروف الصعبة والحواجز المنيعة. يقول سبحانه في كتابه العزيز: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور (آل عمران: 154).

ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في بيان سبب الاختبارات الإلهيّة: "... وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحقّ الثواب والعقاب" (7). أي إنّ الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلا بدّ أن تظهر من خلال أعمال الإنسان. ولو لم يكن الاختبار الإلهيّ لما تفجّرت هذه القابليّات، ولما أثمرت الكفاءات؛ وهذه هي فلسفة الاختبار الإلهيّ في منطق الإسلام(8).

إذاً، المصائب على قسمين: فرديّة ونوعيّة، ولأعمال الإنسان دور في وقوع المصائب والبلايا، وهي جميعاً موافقة للحكمة وغاية الخلقة، وإنّ الغرض من خلقة الإنسان وصوله إلى الكمالات المعنويّة الخالدة، وتلك المصائب جرس الإنذار للغافلين وكفّارة لذنوب المذنبين وأسباب الارتقاء والتعالي للصالحين. هذا في جانب الغرض الأخروي، وأمّا من ناحية الحياة الدنيويّة، فيجب إلفات النظر إلى أمرين:
أ - ملاحظة منافع نوع البشر المتوطّنين في نواحي العالم، بلا قصر النظر إلى منافع الفرد أو طائفة من الناس.
ب - ملاحظة ما يتوصّل إليه الإنسان عند مواجهته للمشاكل والشدائد من الاختراعات والاكتشافات الجديدة المؤدّية إلى صلاح الإنسان في حياته المادّيّة(9).

من هنا نلاحظ أنّ الكثير من الأمور التي نعدّها شرّاً على المستوى الفرديّ، أو بحسب النظرة السطحيّة، هي ليست كذلك بالنسبة إلى المجتمع، ويقرّب هذه الفكرة الآية الكريمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (البقرة: 216).

*تمييز المؤمن من المنافق
قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (محمد: 31).
إن التكامل الأخلاقي رهن المحن والمصائب، كما أنّ التفتّح العقلي رهن البلايا والنوازل. والإنسان الواعي يتّخذها وسيلة للتخلّي عن الغرور، كما يتّخذها سلّماً للرقيّ إلى مدارج الكمال العلميّ، وإذ لا يستفيد منها شيئاً يعدّها مصيبة وكارثة في الحياة (10).


وعليه، فالهدف من الفتن والبلاءات في الحياة:
أ - تمييز المؤمنين حقاً عن المدّعين.
ب - تخليص إيمان الناس من شائبة الشرك والنفاق والكذب.
ج - تمييز المجاهدين والصابرين على الضرّاء والبأساء عن غيرهم.


1.لمزيد من الفائدة مطالعة كتاب "العدل الإلهيّ، مسألة الشرور" تأليف الشهيد مطهري قدس سره، إعداد وتلخيص الشيخ خضر ديب، والنسخة موجودة على الإنترنت.
2.الوافي، الكاشاني، ج5، ص764.
3.شرح أصول الكافي، المازندراني، ج9، ص219 -220.
4.نلاحظ مثلًا أنّ الكثير من التشوّهات عند الأطفال ناتجٌ عن تناول الأمّهات بعض الأدوية التي كانت سبباً في هذا التشوّه.
5.نهج البلاغة، من كلام له 45.
6.بحار الأنوار، المجلسي، ج78، ص195.
7.نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 93.
8.الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج1، ص442-443.
9.محاضرات في الإلهيّات، الشيخ جعفر السبحاني، ص181-182.
10.الإلهيّات، الشيخ جعفر السبحاني، ص284.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع

آجركم الله

ملاك

2014-04-09 02:23:19

آجركم الله على هذا الطرح القيم جداً. الحقيقة أن الكثير من الناس يتساءلون حين يصيبهم البلاء عن سببه، فيجيبهم البعض بأنه عقاب على ذنوبهم، ما يجعل الصبر أصعب. والبعض قد يخسر إيمانه بسبب هكذا تعليلات وتفسيرات. لكن هذا الطرح الواضح والمدعوم بالأحاديث والروايات عن رسول الله وأهل بيته صلاة الله وسلامه عليهم سيساهم بإذن الله بطمأنة قلوب المؤمنين وتثبيتهم على الصبر على المصيبة. ولا ننسى مصاب الإمام الحسين وأهل بيته صلاة الله وسلامه عليهم في كربلاء؛ فلو كانت درجة الإيمان تحمي من البلاء لما حصلت واقعة كربلاء أصلاً.