صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

منازل الآخرة: الأهوال والمنجيات‏

السيد بلال وهبي‏

 


ليس الموت نهاية الحياة كما لم تكن الولادة بدايتها ، إن بدايات الرحلة الإنسانية تبدأ قبل تلك وتنتهي بعد ذلك. فهناك الكثير من المراحل والأطوار يقطعها الإنسان من حين أن يكون نطفة إلى أن يصبح وليداً يدب على الأرض. وهناك الكثير من المنازل عليه أن يمر بها ليصل إلى النهاية التي خلق لأجلها، ليصل إلى اليوم الآخر حيث الحياة الحقيقية التي دل عليها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (العنكبوت: 64).

في مقالنا هذا سنعرض بإيجاز لتلك المنازل التي سنمر عليها، ولن نكثر الحديث عن أهوالها ومشاقها ومتاعبها وآلامها وضيقها وعنتها فهذا أمر مفروغ منه، إنما سأركز الحديث عن الأمور المنجية من تلك الأهوال لأن هذا ما يعنينا بالفعل. حيث يكون المطلوب العمل بالوسائل المتاحة كافة التي هدى إليها الدين للخلاص من تلك الأهوال والعظائم. وقبل الشروع في ذلك يجب أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى ملاحظة هامة جداً وهي: أن على القارئ أن لا يستبعد أي أمر أو تفصيل تذكره النصوص لعالم الموت وما بعده وصولاً إلى يوم القيامة، فإن هذه الأمور وتلك التفاصيل لا مجال للعقل أن يقول رأياً فيها لأن تكليف العقل يتوقف عند إثبات وجوب المعاد ووجوب الجزاء ثواباً وعقاباً للمطيع والعاصي، أما ما وراء ذلك، كيف يكون الثواب والعقاب، وما هي طبيعة الجنة وما فيها والنار وما تحتوي عليه فذلك لا سبيل لمعرفته إلا من طريق الآيات الكريمة أو النصوص الواردة عن أهل العصمة عليهم السلام. ويجب التأكيد هنا أيضاً على أن عالم ما بعد الموت يختلف جذرياً عن عالم ما قبله، في قوانينه وظروفه وأحداثه، وما لا يمكن هنا ليس بالضرورة أن يكون كذلك هناك، فالمستبعد حدوثه هنا لا يستبعد حدوثه هناك لاختلاف العالمين. إن الإلتفات إلى هذه الملاحظة جدير بحل الكثير من الإشكالات والتساؤلات التي تطرح حيال ما يجري فيما بعد الموت، لأن المستشكلين يحكمون على مجريات الأحداث هناك بقياسها على ما يجري في عالم الدنيا. بعد هذا أعود للحديث عن المنازل والمحطات التي سنعبرها وصولاً إلى اليوم الآخر الذي نسأل اللَّه تعالى أن يكون مآلنا فيه إلى الجنان لا إلى النيران.

* الموت
هو أول منزل من منازل الآخرة، ولعل الأنسب أن نعبر عنه بالمعبر بدل المنزل واللَّه العالم، فهو البوابة التي يدخل منها الإنسان إلى عالم آخر مختلف تماماً عن العالم الذي عاش فيه، مختلف في قوانينه وظروفه وطبيعته. فآلامه مختلفة ولذاته كذلك، وشقاؤه وسعادته غير ذلك الشقاء وتلك السعادة اللذين اعتاد عليهما في دنياه. ولعل نفس هذا الانقلاب والتغيير والانتقال يكون سبباً كبيراً للمشقة والآلام والأهوال، لصعوبة الانتقال من نظام إلى نظام ومن حياة ألفها الإنسان إلى أخرى لم يعتد عليها.

* سكرات الموت‏
تحدثت الآيات القرآنية عن الحالة التي تعتري الميت أثناء هذا الإنتقال من دنياه إلى عالمه الجديد فعبرت عن ذلك بسكرة الموت حيث قالت: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) (ق: 19). والسكرة هي حالة من الاضطراب والتبدل والإنقلاب تعتري الإنسان وتستولي على عقله وتسلبه شعوره، ومسلَّم أن تكون حالة المحتضر كذلك ما دام يبدل عالماً بعالم قاطعاً كل علائقه بما سبق رابطاً علائق أخرى بعالم جديد. ويصف أمير البيان الإمام علي عليه السلام هذه الحالة فيقول: اجتمعت عليهم سكرة الموت ولحظة الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيرت لها ألوانهم، ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم ومنطقه وإنه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه على صحة من عقله وبقاء من لبه يفكر فيما أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره(1)؟ ويروى أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله حين كان يحتضر كان يدخل يده في إناء فيه ماء ثم يضعها على وجهه وهو يقول: لا إله إلا اللَّه، ثم يردف قائلاً: إن للموت سكرات(2).

* ما يهوِّن السكرات‏
إن هذه السكرة طبيعية وستصيب جميع بني آدم حتى الأنبياء والأولياء كما تقدم في الرواية الآنفة الذكر، لأن الجميع قاطع لعلائقه بالدنيا مغادر لها إلى عالم آخر، فمن الناحية المادية لا بد أن ذلك حادث لجميع بني الإنسان، لكن هذه السكرات تارة تكون مهولة فظيعة عنيفة وأخرى تهون على الإنسان بفعل أمور هدى إليها الدين من قبيل: بر الوالدين وصلة الأرحام: فقد ورد الكثير من النصوص في هذا المجال أذكر منها قول الإمام الصادق عليه السلام من أحب أن يخفف اللَّه عزَّ وجلَّ عنه سكرات الموت فليكن لقرابته وَصولاً، وبوالديه باراً فإذا كان كذلك هون اللَّه عليه سكرات الموت ولم يصبه في حياته فقر أبداً(3). وقد أرشدت النصوص الشريفة إلى الكثير من الوسائل المنجية من سكرات الموت من قبيل أن يقرأ المحتضر كلمات الفرج، وصيام أربعة وعشرين يوماً من شهر رجب، والإكثار من قراءة سورة الزلزلة. وهناك كثير من الأدعية والأذكار والصلوات التي تعطي هذه النتيجة ذكرتها النصوص، لا أجد مجالاً للإستفاضة بذكرها في هذه العجالة (يمكن للقارئ مراجعة كتاب منازل الآخرة للشيخ عباس القمي).

* العديلة عند الاحتضار
دلت النصوص الشريفة إلى ما يسمى بالعديلة حالة الاحتضار حيث يحضر الشيطان عند المحتضر موسوساً له ليعدل عن الإيمان إلى الكفر، فيشككه في إيمانه ليلقى ربه كافراً به بدل أن يلقاه مطمئن القلب ثابت الإيمان، وقد وردت الكثير من الأدعية التي ينبغي أن يواظب عليها المؤمن في الحياة لتشكل حائلاً بينه وبين الشيطان كي لا يوسوس له حين الاحتضار، وبعض هذه الأدعية سمي بدعاء العديلة.

* القبر
ولئن كان الموت في الواقع يشكل معبراً إلى عالم آخر فإن القبر في الحقيقة هو المنزل الذي يتوسط العالمين، عالم الدنيا وعالم الآخرة وهو بهذا اللحاظ معبر أيضاً لأنه لا دوام له وإن امتد وطال، وهو عالم له خصوصياته التي يمتاز بها عما سبقه وما سيليه، وكل الذين ماتوا من لدن آدم إلى يوم البعث هم أهل هذا العالم، الذي سماه القرآن الكريم بالبرزخ حيث قال تعالى: ﴿... وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون: 100). بيت الغربة،  وينبغي أن ألفت هنا إلى أمر في غاية الأهمية، إن الإنتقال إلى القبر لا يعني فقدان الإنسان الميت للشعور والإحساس، على الأقل في الساعات الأولى لدخوله القبر، ففي الكثير من النصوص أن الروح ترد إلى الميت لساعات ثم تغادر من جديد، وهذا يعني شعوره بما يجري داخل القبر، وإذا لم نقل بهذا ونحن نقول به فالثابت أن ما يموت في الإنسان جسده وليس روحه لأنها أمر مجرد عن المادة فهي باقية لا تموت بموت الجسد، بل جل ما في الأمر أنها تغادره، وعلى هذا فهو سيبقى الميتَ يتحسس ويشعر بكل ما يجري عليه في القبر. إن القبر مهول ومهول وما يجري فيه عظيم وعظيم، يصف صادق أهل البيت الإمام جعفر بن محمد عليه السلام هذا الأمر قائلاً: إن للقبر كلاماً في كل يوم يقول: أنا بيت الغربة أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، أنا القبر، أنا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران(4).

* وحشة القبر
وأول ما يحدث للميت في قبره تلك الوحشة الهائلة التي يشعر بها في قبره الذي بات فيه وحيداً فريداً لا أهل ولا خلان، فقد بات منقطعاً كلياً عن عالم أحبه وانشدَّ إليه، عالم يضج بالرفاق والأحبة، فطبيعي أن يعيش تلك الوحشة المهولة. ويصور أمير البلاغة صاحب العلم اليقين علي عليه السلام تلك الوحشة وذاك الهول الذي يلقاه الميت في قبره فيقول: ... ثم ألقي على الأعواد رجيع وصب(5)، ونضو سقم(6)، تحمله حفدة الولدان(7)، وحشدة الأخوان، إلى دار غربته، ومنقطع زورته(8)، ومفرد وحشته(9). وفي موضع آخر يقول سلام الله عليه: وبادروا الموت وغمراته ... قبل بلوغ الغاية ما تعلمون: من ضيق الأرماس(10)، وشدة الإبلاس، وهول المطلَّع، وروعات الفزع، واختلاف الأضلاع، واستكاك الأسماع، وظلمة اللحد، وخيفة الوعد، وغم الضريح، وردم الصفيح(11). هذا حال القبر وتلك حالة وحشته وأية وحشة؟! لك أخي القارئ أن تتصور فظاعتها حين تتخيل تلك الساعة التي تصبح فيها رهين حفرتك، ويكفيك بعده أن تتوقع عظمة الحال.

* ما ينجي من وحشة القبر
فأما ما ينجيك من هذه الوحشة ، فهو ما أكتفي بذكره من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حيث قال: لا يأتي على الميت ساعة أشد من أول ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلِّ أحدكم ركعتين يقرأ فيهما فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة وقل هو اللَّه أحد مرتين وفي الثانية فاتحة الكتاب مرة وألهاكم التكاثر عشر مرات ويسلم ويقول: اللهم صل على محمد وآل محمد وأبعث ثوابها إلى قبر فلان بن فلان فيبعث اللَّه من ساعته ألف ملك إلى قبره مع كل ملك ثوب وحلّة، ويوسع في قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور، ويعطى المصلي بعدد ما طلعت عليه الشمس حسنات ويرفع له أربعون درجة(12). ومما ينجي من وحشة القبر: الولاية للأئمة الأطهار عليهم السلام والتبري من أعدائهم والسير في ركبهم وعلى خطاهم، وكيف تصيب الموالي وحشة في قبره وهم عليهم السلام الذين يحضرون عنده ساعة يسأله منكر ونكير كما أثبتت الروايات الشريفة وبشكل متضافر؟!!، وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أنه قال: يا علي أبشر وبشر فليس على شيعتك حسرة عند الموت ولا وحشة في القبور ولا حزن يوم النشور(13). وهناك الكثير من وسائل النجاة ذكرتها النصوص من أرادها فليراجعها في مظانها.

* ضغطة القبر
وهناك هول آخر أو عقبة أخرى على الحي منا أن يعمل على تلافيها والنجاة منها في القبر عنيت بها ضغطة القبر. وهي ذلك الضيق الذي يشعر به الميت في قبره بعد أن تسد عليه فرجه ونوافذه، فهب أنك هناك وتصور مدى الضيق والضنك ويكفيك هذا لتوقن عظمة الهول. فأما الوسائل المنجية من هذا فهي كثيرة، أشير إلى أن منها المواظبة على قراءة سورة النساء كل جمعة، وهكذا سورة الزخرف، كما ورد في الروايات أن من مات ما بين زوال الشمس من يوم الخميس إلى زوال الشمس من يوم الجمعة كان ذلك أماناً له من ضغطة القبر، وورد أيضاً أن من بعض بركات المواظبة على صلاة الليل النجاة من الضغطة، كما أن رش الماء على قبر الميت عدته الروايات من المنجيات.

* سؤال منكر ونكير
وبعد هذه المرحلة يصل الدور إلى هول آخر، إلى أمر عظيم عظيم، المساءلة، سؤال منكر ونكير، يسألان الميت عن دينه ونبيه وكتابه وقبلته وإمامه، وهذا مما اتفق عليه الأعلام، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا المعراج، والمساءلة في القبر، والشفاعة(14). وروي عن الإمام علي عليه السلام: إن العبد إذا أدخل حفرته أتاه ملكان اسمهما منكر ونكير فأول ما يسألانه عن ربه ثم عن نبيه ثم عن وليه فإن أجاب نجا وإن عجز عذب(15). إن تلقين الميت شهادة أهل الإيمان من أبرز المنجيات، فعن يحيى بن عبد اللَّه قال: سمعت أبا عبد اللَّه الصادق عليه السلام يقول: ما على أهل الميت منكم أن يدرؤوا عن ميتهم لقاء منكر ونكير. فقلت: وكيف نصنع؟ فقال عليه السلام: إذا أفرد الميت فليتخلف عنده أولى الناس به فيضع فاه على رأسه ثم ينادي بأعلى صوته: يا فلان بن فلان، ويا فلانة بنت فلان هل أنت على العهد الذي فارقناك عليه من شهادة أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله سيد النبيين، وأن علياً أمير المؤمنين وسيد الوصيين، وأن ما جاء به محمد حق، وأن الموت والبعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن اللَّه يبعث من في القبور، فإذا قال ذلك قال منكر لنكير: إنصرف بنا عنه فقد لقن بها حجته(16). وقد ذكرت النصوص الشريفة الكثير من المنجيات كإحياء ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، وصوم تسعة أيام من شهر شعبان، وغير ذلك من الأعمال والنوافل.

* البرزخ:
وهو العالم الفاصل بين عالمي الدنيا والآخرة، إنه عالم القبر الممتد إلى آماد لا يعلم نهايتها إلا اللَّه تعالى، إليه يرد علم الساعة.. إنه مقام طويل وطويل جداً: قال تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(المؤمنون: 100). وقد سأل رجل الإمام الصادق عليه السلام: وما البرزخ؟ فقال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة(17).

هدية الأموات‏
والثابت لدينا أن الميت في هذا العالم لا ينقطع عن عالم الدنيا بل يبقى له نحو من الإرتباط به، فهو يأتي أهله بأشكال مختلفة، ويستفيد من عطاياهم له، يستفيد من صدقاتهم وأدعيتهم واستغفارهم وكل عمل يهدى ثوابه إليه ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: أهدوا لموتاكم، فقلنا يا رسول اللَّه وما هدية الأموات؟ فقال: الصدقة والدعاء. وروي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: إن أرواح المؤمنين تأتي كل جمعة إلى السماء الدنيا بحذاء دورهم وبيوتهم، ينادي كل واحد منهم بصوت حزين: يا أهلي ويا ولدي ويا أبي ويا أمي ويا أقربائي: أعطفوا علينا يرحمكم اللَّه بالذي كان بأيدينا والويل والحساب علينا والمنفعة لغيرنا، وينادي كل واحد منهم إلى أقربائه: اعطفوا علينا بدرهم، أو برغيف، أو بكسوة يكسوكم اللَّه من لباس الجنة(18).

* مكانة الشهداء
وللشهداء في عالم البرزخ مكانة عظيمة وكرامة كبيرة اختصهم اللَّه بها حباهم فيها بأنواع المكرمات، وكثير الألطاف، عيش رغيد ونهاية سعيدة ورضوان منه تعالى عليهم، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران: 171-169). فالشهداء في عالم البرزخ أحياء حياة حقيقية لكنها تختلف في نظامها عن حياتنا في الدنيا، نعم لقد فارقونا ظاهراً وما هم كذلك، بل هم على تواصل دائم مع عالمنا هذا، فرحين بما آتاهم ربهم من فضله، ويستبشرون بمن يلتحق بقافلتهم المقدسة، قافلة الشهداء، قافلة السابقين الذين بادروا للقيام بما أوجب اللَّه عليهم حماية لدين الأمة وشرف أبنائها، والذين سارعوا إلى أداء المهمة، إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، بل ينظرون إلى بقية القافلة من عليائهم يرصدونهم، يرون ما بهم، يتمنون لهم البقاء على العهد والوفاء بالوعد.

ودعني قارئي الكريم أترك لعلي أمير المؤمنين عليه السلام أن يعرض لنا مشهد الشهداء في البرزخ، فعن الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء قال: بينما أمير المؤمنين عليه السلام يخطب ويحضهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل اللَّه فقال عليه السلام: كنت رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل، فسألته عما سألتني عنه فقال صلى الله عليه وآله: الغزاة إذا هموا بالغزو كتب اللَّه لهم براءة من النار. فإذا تجهزوا لغزوهم باهى اللَّه بهم ملائكته. فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من الذنوب، ويكتب لكل منهم كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون اللَّه. وإذا صاروا بحضرة عدوهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب اللَّه لهم. فإذا برزوا لعدوهم وأشرعت الأسنة وفوقت السهام وتقدم الرجل إلى الرجل حفتهم الملائكة بأجنحتها يدعون اللَّه بالنصرة والتثبيت، فينادي منادٍ: الجنة تحت ظلال السيوف، فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف. وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث اللَّه إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد اللَّه له من الكرامة، فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الذي خرج من البدن الطيب، أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويقول اللَّه: أنا خليفته في أهله من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني(19).

* القيامة: يوم الفزع الأكبر
وهي من أعظم المنازل وأكثرها هولاً وعظمة وخوفاً وفزعاً وما بعدها أعظم بكثير مما سبق في المنازل المتقدمة عليها، يكفي أن نقرأ الآية التالية ولنتصور بعدها ذلك الهول، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(الحج: 2 1). وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله: إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميت إلا حشر ولا حي إلا مات، إلا ما شاء اللَّه ثم يصاح بهم صيحة أخرى فينشر من مات، ويصفون جميعاً، وتنشق السماء وتهد الأرض، وتخر الجبال هداً، وترمى النار بمثل الجبال شرراً، فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه، وذكر دينه وشغل بنفسه إلا ما شاء اللَّه(20). أكتفي بنقل ما تقدم لأنه لا مجال أبداً في هذه المقالة لسرد الآيات والنصوص الشريفة التي تعرض لمشاهد الآخرة وأهوالها وعظائم أمورها، ويكفي أن القرآن الكريم سماها الآزفة، والحاقة، والقارعة، والطامة الكبرى، والصاخة، والغاشية، ويوم التغابن، ويوم الحسرة، ويوم الفزع الأكبر. ولك بعد هذا قارئي الكريم أن تتصور ما تشاء من عظائم أمورها. وقد ذكرت النصوص الشريفة الكثير من الأعمال المنجية من أهوال هذا اليوم أو المخففة منها على الأقل، فهناك سور عديدة من القرآن الكريم تنجي المواظبة على قراءتها من أهوال القيامة، كما ذكرت النصوص بعض الأمور المنجية مثل: كظم الغيظ، وتوقير ذا الشيبة، والموت في الحج، والدفن في الحرمين المكي والنبوي، واجتناب الفاحشة مع القدرة على إتيانها، وأن يمقت الإنسان نفسه دون أن يمقت الناس، وإغاثة الملهوف، وقضاء حوائج الأخوان.

* الخروج من القبور
وهو منزل من منازل الآخرة، وهول من أهوالها، وهو مشهد لنا أن نتخيل فيه الكثير من اللقطات المرعبة: مليارات من الخلق لا يحصيها إلا اللَّه تبارك وتعالى تخرج من قبورها، تنبت من الأرض في محفل واحد ولحظة واحدة يسرعون كلهم إلى صعيد واحد قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (المعارج: 43 - 42). ويحدث ذلك عندما يصاح بالأموات صيحة الإحياء والبعث، أو ما عبر القرآن عنها بالنفخة قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (يس: 53 - 51). وقد ذكرت النصوص الشريفة أعمالاً من فعلها نجا من هول البعث والقيامة، كتشييع الجنازة، وتنفيس كربة المؤمن، وإدخال السرور عليه، وقراءة دعاء الجوشن الكبير.

* الحشر: وجوه مسفرة وأخرى مستبشرة
والحشر من المنازل التي تذهل العقول وتروع القلوب حتى تبلغ الحناجر إذ يساق الخلق كلهم إلى أرض المحشر في يوم الفزع الأكبر حفاة عراة، يعرض هذا المشهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فيقول: وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، لنقاش الحساب وجزاء الأعمال، خضوعاً قياماً قد ألجمهم العرق، ورجفت بهم الأرض، فأحسنهم حالاً من وجد لقدميه موضعاً ولنفسه متسعاً(21). يحشرون جميعاً: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (الكهف: 47). حتى الطير والوحش وكل من دب على الأرض، ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (التكوير: 5). وهم يومئذ صنفين، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (عبس: 41 - 38). ويكفيك هذا قارئي الفاضل.

* السؤال ووزن الأعمال:
وهو من المنازل الأساسية التي سيمر بها الناس كل الناس: قال تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (الأعراف: 9 - 6). وواضح من الآيات الكريمة والنصوص الشريفة أن السؤال سيكون عن كل شي‏ء. ستسأل الأعضاء والجوارح، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه فسر قوله تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً. فقال: يسأل السمع عما سمع، والبصر عما يطرف، والفؤاد عما يعقد عليه(22). وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: لا تزول قدماً عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله مما اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت(23). وبعد السؤال ستوزن أعمال العباد، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (الأنبياء: 47). ولعل من أهم الأعمال التي تثقل الميزان تكرار الصلاة على محمد وآل محمد فعن الإمام الصادق عليه السلام: ما في الميزان شي‏ء أثقل من الصلاة على محمد وآل محمد وإن الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به فيخرج صلى الله عليه وآله الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيرجح به(24).

* الصراط:
وهو من منازل الآخرة المروعة لما فيه من العقبات التي لا بد للعبد من المرور عليها، ويراد به الجسر الذي ينصب على جهنم وعلى جميع الخلق أن يمروا عليه، وهو دقيق دقيق، أدق من الشعرة وأحد من السيف، وأهل الجنة يمرون عليه سريعاً، بينما ستكون أمام أهل النار عقبات كثيرة عليهم أن يجتازوها، فإذا بلغ الواحد منهم عقبة لم يتلافاها في دنياه سقط في جهنم وبئس المهاد. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: واعلموا أن مجازكم على الصراط، ومزالق دحضه، وأهاويل زلله، وتارات أهواله(25). قال الشيخ الصدوق: وعلى الصراط عقبات تسمى بأسماء الأوامر والنواهي، كالصلاة والزكاة والرحم والأمانة والولاية، فمن قصر في شي‏ء منها حبس عند تلك العقبة، وطولب بحق اللَّه فيها، فإن خرج منها في عمل صالح قدمه، أو رحمة تداركته، نجا منها إلى عقبة أخرى، فلا يزال كذلك حتى إذا سلم منها جميعاً إنتهى إلى دار البقاء، فيحيا حياة لا موت فيها أبداً، ويسعد سعادة لا شقاوة معها أبداً، وإن لم يسلم زلت قدمه عن العقبة فتردى في نار جهنم(26).

* تجهزوا رحمكم اللَّه‏
وأخيراً وبعد هذه الجولة على منازل الآخرة، أنصت وإياك قارئي الكريم لعلي أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقول: تجهزوا رحمكم اللَّه! فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلوا العرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد، فإن أمامكم عقبة كؤوداً، ومنازل مخوفة مهولة، لا بد من الورود عليها، والوقوف عندها، وأعلموا أن ملاحظ المنية نحوكم دانية، وكأني بمخالبها وقد نشبت فيكم، وقد دهمتكم فيها مفظعات الأمور، ومعضلات المحذور، فقطعوا علائق الدنيا، واستظهروا بزاد التقوى(27).


(1) نهج البلاغة، خطبة 109.
(2) تفسير روح المعاني، ج‏9، ص‏118.
(3) الكافي، ج‏3، ص‏253.
(4) الكافي، ج‏3، ص‏242.
(5) الرجيع الرجوع من سفر إلى سفر بحيث يكل من ذلك والوصب: التعب.
(6) نضو، مهزول.
(7) الحفدة: أبناء الأبناء.
(8) منقطع الزورة حيث لا يزار.
(9) نهج البلاغة، خ 83.
(10) الأرماس، القبور.
(11) نهج البلاغة، خ 190.
(12) فلاح السائل، ص‏86.
(13) تفسير فرات الكوفي، ص‏348، ح‏375.
(14) أمالي الشيخ الصدوق، ص‏242.
(15) بصائر الدرجات، ص‏145.
(16) من لا يحضره الفقيه، ج‏1، ص‏173.
(17) الكافي، ج‏3، ص‏242، ح‏3.
(18) جامع الأخبار 169.
(19) مجمع البيان.
(20) الإرشاد للشيخ المفيد.
(21) نهج البلاغة الخطبة 102.
(22) تفسير العياشي، ج‏292 ,2.
(23) الخصال للشيخ الصدوق، 253.
(24) الكافي، ج‏494 ,2.
(25) نهج البلاغة خطبة 83.
(26) إعتقادات الصدوق: 71.
(27) نهج البلاغة، خطبة 204.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع