نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الشيخ راغب.. المسجديّ الـثـائـر


عماد عواضة


المسجد هو عنوان حياة وجهاد الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه). فلقد كان ديدنه، وحضوره، ومنطلقه في مسيرة حياته كلّها ووجدانه كلّه، وكان منذ نعومة أظفاره عاشقاً له. سكنه بشغف المحبّ روحاً وقلباً، ومضى في رحلة الوصال مع الله تعالى قانتاً، راكعاً، ساجداً في محرابه، لا يغادره في صلاة ولا في لحظات الدعاء والتهجّد. عاش في رحابه محلّقاً، عابداً، منتظراً لأذان الجماعة والجمع المصلّي.

•المسجد العتيق
كان مسجد شيت في جبشيت قديماً، هذا المسجد العميق في روح ذلك الجيل الذي عايشه، بُني من الصخر والطين، جدرانه ونوافذه وأبوابه صخريّة قديمة جدّاً، وفيه بئر الماء القديمة والحبل الممدود إلى عمقها لسحب الماء إلى أباريق الصلاة الحمراء والصفراء والخضراء والزرقاء، وفي وسط ساحته نخلة قديمة و"مسطبة" للجلوس عليها للوضوء، وبعدها يدخلون إلى المسجد للصلاة، هذا المسجد الذي سكنته أنفاس العابدين المهاجرين إلى محراب جميل. وقد أحبّ الشيخ راغب ذلك المسجد وعشقه، وكان يأتيه فتى يافعاً عاشقاً للصلاة والدعاء.

•أوّل صلاة جمعة
المسجد في حياة الشيخ راغب هو الخندق والمحراب، وباب الثورة، والقيام، والانتفاضة في وجه الظلم والاحتلال؛ لذلك شكّل في حياته مركزاً ومنطلقاً للقضايا السياسيّة والاجتماعيّة. فالمسجد عند الشيخ هو المكان الذي منه نستطيع تعبئة الشباب، وزرع ثقافة الإسلام المحمّديّ الأصيل، ثقافة القرآن والولاية. وحكاية الشيخ راغب حرب مع بيت الله حكاية مشبعة بالروح العابقة بنسائم الإيمان، فبعد عودته من النجف الأشرف حاملاً الإجازة المباشرة من آية الله العظمى الشهيد محمّد باقر الصدر بإقامة صلاة الجمعة، وهي صلاة الجمعة الأولى في لبنان (خطبتان وركعتان)، عاد مفعماً بروح التبليغ إلى الله تعالى، عاشقاً لمساجد الجنوب، متنقّلاً من مسجد إلى آخر مقيماً الصلاة جماعةً، ومبلّغاً في العقيدة والأخلاق والفقه والسيرة. وفي أوّل صلاة جمعة، لم يكتمل العدد (5 مصلّين والإمام)، فأرسل للشيخ عبد الكريم عبيد أن يأتي لإكمال العدد، وكانت هذه الصلاة في أوائل شهر حزيران من العام 1976م.

•توسيع المسجد
وبدأت رحلة الصلاة تكبر رويداً رويداً إلى أن ضاق مسجد شيت بها. عندها، قرّر الشيخ راغب إعادة بناء المسجد وتوسعته من جديد. وبالفعل، باشر بذلك، فقام بعملية التجريف، ووضع الخريطة لمباشرة البناء، إلى أن رفعت قواعد المسجد الجديد. وعندما كان الشيخ يُسأل عن سبب توسيع المسجد، كان يقول: "لعلّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يصلِّي فيه". انتقلت صلاة الجماعة إلى الحسينيّة، حينها كانت بداية نسائم الثورة الإسلاميّة في إيران، فقرّر الشيخ إشراك كوادر العمل الإسلاميّ في لبنان في بناء مسجد، فذهب إلى بيروت، ودعاهم جميعاً إلى المشاركة والتطوّع في حفر قواعد المسجد، فلبّى الإخوة النداء، وجاؤوا بالعشرات إلى جبشيت، كالنائب الحاج محمّد رعد، وسماحة السيّد هاشم صفيّ الدين، والشهيد القائد مصطفى بدر الدين (السيّد ذو الفقار)، وغيرهم، واتّخذوا من مدرسة الإخاء اللبناني منامةً لهم. ونذكر هنا أنّهم كانوا يقيمون كلّ يوم سهرة ونظام المرصوص على تغريدة وترنيمة الشهيد القائد مصطفى بدر الدين، وخصوصاً ذلك النشيد: "لبّيك يا علم الهداية... كلّنا جندٌ لك".

•الحجّ إلى بيت الله
في الوقت الذي تصاعدت فيه وتيرة الثورة الإسلاميّة، والإمام الخمينيّ قدس سره يتوهّج ثورةً، وقيامةً، وانتصاراً، كانت قواعد المسجد تتصاعد أيضاً، والجمعة تتنامى عدداً، وأصبح هناك حضور ومشاركات فعّالة من القرى. ولن ننسى ذلك الرجل العجوز الذي كان يأتي على دابّته من الدوير قاصداً جبشيت، وشباب زبدين الذين كانوا يجتازون الجبل الأحمر إلى الوادي الواصل مع جبشيت سيراً على الأقدام، وذلك الحاج من عدشيت الذي كان يشدّ راحلته إلى حجّ الفقراء (صلاة الجمعة)، حتّى باتت هذه الصلاة تشكّل المحور الفاعل والملتقى لروح العمل الإسلاميّ من القرى كافّة.

•فرح الانتصار
كانت الفرحة الكبيرة بانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، فعمّ السرور ربوع الجنوب، واحتشد المؤمنون في الجمعة الأولى للانتصار، حيث وقف الشيخ وأعلن البيعة والولاء لروح الله المرجع الموسويّ الخمينيّ قدس سره، وبدأ الشيخ يعطي الجمعة عنواناً ولائيّاً للإمام الخمينيّ قدس سره معلناً أنّه المرجعيّة المُلزِم أمرها ونهيها، وجاء بالشعراء لتصدح حناجرهم بعد الصلاة تمجيداً للثورة.

•مشروع الليرة
استمرّ الشيخ راغب في بناء المسجد معتمداً على التبرّعات. وهنا نشير إلى سهرة احتساء الشاي ليلة الجمعة التي كان يقيمها دائماً في مسجد الحاج محمود فوعاني (مسجد الفوعاني)، وهو مسجد قديم وصغير، ويتخلّل السهرة درس فقهيّ جاذب ومفيد للحاج أبو هاني عبد الله، حيث أطلق مشروع الليرة في كلّ ليلة جمعة.

كان الشيخ يجمع بالليرة وبالقروش للمسجد. وأذكر هنا قصّة جميلة؛ ذهبتُ وإيّاه ذات يوم إلى حيّ السراي في النبطيّة لعقد قران كان قد دُعي إليه، وعندما تمّ ذلك تقدَّم والد العريس وقال له: "يا شيخ راغب، هذه هديّة لك"، وكانت عبارة عن مائة ليرة، فقال له الشيخ: "شكراً، لا أتقاضى أجر عقد القران"، ولكنّ الرجل أصرّ على ذلك، فقال له الشيخ عندها: "إذا كنت مصرّاً سوف أنوي هذا المال للمسجد، فنحن بحاجة إليه لبنائه"، فوافق، وقال لي في الطريق: "سنضع هذا المبلغ مع مبلغ أكياس الإسمنت". وكان الشيخ، عندما يدخل إلى المسجد والمكتبة الإسلاميّة، يتفقّد المصاحف والكتب القديمة. كنّا نراه وهو يمسك بالمصاحف ويقوم بتجليدها (بالخيطان والمسلّة)، وكان يقول لنا: "أريد أن أقيم لكم دورة في التجليد لكي نحافظ على كتبنا".

•من صلاة الثورة كان العروج
وكان الاجتياح، فتحوّلت جمعة الشيخ راغب حرب إلى صرخة مدوّية في وجه الاحتلال، وإلى محطّة أسبوعيّة، ومنبر ثوريّ إسلاميّ يُطلق اللاءات ضدّ الصهاينة. هذا الموقف الذي جعل من الجمعة منارة، وانتفاضة أسبوعيّة، وشعارات ثوريّة، فالتحق بها الجميع حتّى باتت ملاذهم. كان الشيخ يصلّي ويخطب، فيما الغزاة يحيطون المسجد بآليّاتهم، ويعلن أنّ القرار الذي يجب أن يستمرّ هو قرار المقاومة في وجه الاحتلال، فشكّلت صلاته النبض والروح في تلك المرحلة، والملتقى الذي يعلن عن الانتماء إلى المقاومة، حتّى تحوّلت إلى محجّة ومزار للأحرار. ومن المحراب خرج الشيخ بعد الصلاة والدعاء، بعد أن أشبع سجوده بالدموع في ليلة الوصال، ليلة الجمعة، ليرتفع شهيداً تعرج روحه إلى حيث الملتقى والمرتجى.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع