نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مع الإمام القائد: رسالة رمضان التقوى



نص خطاب ولي أمر المسلمين وقائد الثورة الإسلامية سماحة آية اللّه العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظله) في ذكرى البعثة النبوية الشريفة
الحمد للّه رب العالمين أحمده وأستعينه وأستغفره وأتوكّل عليه وأصلّي وأسلِّم على حبيبه ونجيبه وخيرته في خلقه سيد رسله وخاتم أنبيائه، بشير رحمته ونذير نقمته، سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين المعصومين المكرّمين، لا سيما بقية اللّه في الأرضين...

قال اللّه في كتابه: ﴿ااتَّقُواْ اللّهَ.
وقال أمير المؤمنين السلام في كلام له: "إنّ مَنْ فارق التقوى أُغري باللذات والشهوات ووقع في تيه السيئات ولزمه كثير التبعات".
أدعو جميع الأخوة والأخوات الأعزاء إلى التزام التقوى الإلهية، ومعرفة أهمية شهر رمضان الذي هو شهر الوصول إلى التقوى. وصيام هذا الشهر هو السويلة التي تعين الإنسان على سلوك طريق التقوى فلنقترب بأنفسنا إلى هذه الدرجة من التدين التي تسمى بـ "التقوى"، وفائدة التقوى في حياة الإنسان تشمل كثيراً من الأمور.

إذا استطاعت الأمم صيانة نفسها من الانحراف بالتقوى وهي في قمة اقتدارها فإنها ستخرج من الامتحان مرفوعة الرأس
إحدى هذه الأمور هي أنّ الإنسان المتقي يستطيع صيانة نفسه من منزلقات ومطبات الحياة، بينما الإنسان غير المتقي لا يمكنه ذلك، وباستطاعة الإنسان أن يمتلك روح التقوى التي هي عبارة عن مراجعة الإنسان الدائمة لنفسه وأعماله وحتى أفكاره وما يفعله وما يتركه التي تُنسب إليه وعدم الغفلة وما يتركه التي تُنسب إليه وعدم الغفلة عن ذلك. وإذا استطاع الإنسان أن يوجد هذه الحالة في نفسه فإنّه سوف يفوز في الامتحانات الإلهية التي يمرّ بها في حياته.

أيّها الأخوة والأخوات إن الجميع يمرّون بهذا الامتحان فالأمم تمتحن بما هي أمم والأفراد يمتحنون بما هم أفراد.
الاختبارات متباينة لكنّها قائمة على أيّة حال. فعندما تُعرض على النفس لذّة مخالفة للشرع تميل النفس إليها، فهذا من مواضع الامتحان والاختبار، وعندما يعرض على الإنسان مال يستطيع الحصول عليه خلافاً للشرع والتشريع الإلهي فهذا موضع آخر للامتحان الإلهي، وعندما يتحدّث الإنسان بحديث يستبطن مصلحة شخصيّة فهو حديث باطل في الحقيقة، وحين يصبح الكلام واجباً شرعياً على الإنسان رغم ما يتبعه من مخاطر ومتاعب أخرى فهذا اختبار آخر للإنسان.

وحينما نقيس هذه القضية بمقياس الشعوب والأمم فالنتيجة مماثلة لذلك أيضاً، فعندما تحصل أمة على الثروة والرفاه وتكسب القوة والنصر وتحقق التقدم العلمي فهذا امتحان واختبار لتلك الأمة. وإذا استطاعت الأمم صيانة نفسها من الانحراف وهي في قمّة اقتدارها فإنها ستخرج من الاختبار مرفوعة الرأس.
وأمّا إذا أصيبت الشعوب والمجتمعات بالغرور والابتعاد عن اللّه سبحانه نتيجةً لحصولها على الراحة والرخاء فستخرج خاسرة من الامتحان الذي تتعرض له، لذلك فإنّ القرآن يخاطب النبي في سورة "النصر" القصيرة، ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا.

 هذه هي قمّة اقتدار نبي من الأنبياء عندما ينزل اللّه عليه النصر والفتح ويدخل الناس أفواجاً في دينه، هنا يجب على الإنسان أن يراقب نفسه، لذلك فإنّ القرآن يقول: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا، يعني عليك أن تذكر اللّه في ساعة النصر وتحمده وتسبّحه لأنّ هذا النصر كان من اللّه وليس منك.
لا تنظر إلى نفسك بل انظر إلى قدرة اللّه سبحانه، فقائد إلهي وحكيم كالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يسعى في مثل هذه الظروف أن لا تخرج الأمّة عن الطريق القويم، وهنا يأتي دور التقوى التي تستطيع أن تنقذ الأمة من الضلال والانحراف.
إن كلّ البعيدين عن طريق التقوى في العالم سواء كانوا أفراداً أو شعوباً يجب عليهم أن ينتظروا سقوطهم الحتمي الذي لا بدّ له أن يتحقق، فالسقوط هو النتيجة الحتمية للابتعاد عن طريق التقوى، ومن الطبيعي فإنّ السقوط يسبقه الإنحراف والخراب والفساد.

والآن أتعرض لجزء يسير من التجربة القرآنية الخاصة بأصحاب النبي نوح السلام والمؤمنين به؛ لأن المؤمنين بنوح السلام كانوا من الصفوة المختارة بالتأكيد. وقد أمعنت النظر في الآيات الواردة في سورة هود والتي تحدّثت طويلاً عن النبي نوح السلام وعن أصحابه.
لقد دعا نوحٌ قومه تسعمائة وخمسين سنة فكانت النتيجة لهذه السنوات الطويلة من الدعوة والتبليغ إيمان عدد قليل من أفراد ذلك المجتمع الجاهل والطاغي فقط ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيل. إنّ ساعة البلاء "الطوفان" كانت قد اقتربت من ذلك المجتمع.

بدأ نوح السلام بصنع السفينة في اليابسة فكان ذلك سبباً لسخريّة كلّ الذين كانوا يمرّون عليه؛ لأنّ المفروض أن تُصنع السفينة قريباً من ساحل البحر وليس في اليابسة التي كانت تفصلها مسافة بعيدة عن البحر. إذ كيف يُعقَل أن تُصنع سفينة كبيرة يُراد لها أن تحمل جماعة من الناس بعيداً عن ساحل البحر. ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ.
ولكن المؤمنين بنوح السلام تحمّلوا كلّ هذا الاستهزاء والسخرية من غير أن يعرفوا الغاية التي من أجلها تُصنع السفينة، ولم يكن أحد يعرف ما سيحدث من طوفان وفوران للماء من الأرض والسماء.
فهؤلاء المؤمنون كان إيمانهم من القوة بحيث استطاعوا الصمود أمام كلّ ذلك الاستهزاء والسخرية وضغط الرأي العام الذي كان يوجّهه المتسلّطون في ذلك المجتمع، وكان أولئك المؤمنون من الطبقة السفلى في المجتمع وهم أراذلنا بادي الرأي ولعلّهم كانوا يعتبرون من مواطني الدرجة الثالثة أو الرابعة لذلك المجتمع.
الآن أنتم تصوّروا فئة قليلة مستضعفة تقف مقابل فئة كبيرة تمتلك جميع وسائل القوّة والاقتدار من ثروة وقوّة ووسائل إعلام.

كانت الإهانة والسخرية توجّه إلى هذه المجموعة الصغيرة المحيطة بالنبي نوح السلام ولكنّها كانت تصبر وتتحمل وكان هذا يتطلب ايماناً قوياً من الإنسان، وعندما جاءت مسألة صنع السفينة تبيّنت قوة إيمانهم أكثر من السابق فلم يأتوا إلى نبيّهم ويعترضوا عليه لأنّه يصنع السفينة في اليابسة بعيداً عن البحر وأصبح بذلك سبباً للسخرية منهم بل تحمّلوا ذلك وصبروا عليه.
تصوّروا شخصاً يريد أن يصنع سفينة في إحدى الساحات العامة لإحدى المدن الكبرى مثل طهران التي يفصلها مئات الفراسخ عن ساحل البحر فهل هناك تبرير لهذا التصرف الغريب.
لقد كان يدو أنّ الحقّ مع الذين كانوا يستهزؤون من هذا التصرّف. لكن الذين آمنوا بنوح تحمّلوا هذا الاستهزاء الذي كان يبدو منطقياً، وهذا كان يتطلّب إيماناً قوياً وثابتاً.
وبعد كلّ ذلك بدأت الأمطار تهطل من السماء وتفجّرت الأرض عيوناً، أمر نوح أصحابه بركوب السفينة، فأركبوا الحيوانات أوّلاً وركبوا هم بأسلوب يوحي بأنّ المياه سوف تُغرِق الدنيا بأجمعها  ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ، فقد كان من الواضح أنّ البلاء في هذه الحادثة سوف لا يرحم أيّ شيء في الدنيا. ركبوا في السفينة فجرت بهم وقد عمَّ الماء جميع أرجاء الكرة الأرضية، فأغرق الناس وجميع الحيوانات، ولم يبق سوى هذه المجموعة الصغيرة التي آمنت بنوح السلام.
وبهذا فإنّ امتحان الكفّار كان قد انتهى. بينما امتحان المؤمنين قائم ومستمر. كانت تلك الفترة فترة امتحان وتحمّل المتاعب والسخرية والاستهزاء والصبر على ما كانوا يتعرّضون له في عهد النبي نوح السلام.

كان هذا امتحان فترة الشدة والعسرة وقد تجاوزوه بسهولة، فامتحان مرحلة الشدة يكون أهون من امتحان مرحلة الرخاء والرفاهية لا في بعض الأحيان، وقد تجاوز البعض بنجاح مرحلة المواجهة الصعبة مع "إسرائيل" الغاصبة وبعد مرور عدة سنوات على هذا الاختبار الصعب وبفضل بعض المواقف استطاع هذا البعض كسب احترام الأمة والحصول على الأموال الطائلة، ولكنّهم فشلوا في اختبار المرحلة الأخرى وهي مرحلة الراحة والاستراخاء وإلقاء السلاح وابتعاد خطر الموت، وتراجعوا تراجعاً خطيراً أفقدهم كلّ مصداقيتهم.

لقد شاهدتم فضيحة بيع فلسطين ـ ويوجد العديد من القضايا من هذا القبيل ـ وقد شاهدت بنفسي بعض المناضلين ممّن تجاوز مرحلة الشدّة لكّل نزاهة لكنّه سقط وانحرف بعد ذلك في مرحلة الرفاه والاسترخاء.
أنّ مستنقع الاختبار يصعب عبوره، فنفس الثلة القليلة التي آمنت بنوح السلام وتحمّلت تلك الشدائد والمصائب تدخل الآن مرحلة الرخاء ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ انتهى الطوفان ورست السفينة وكان من المقرّر أن ينزلوا إلى دنيا خالية من الشرك والطغيان.

والامتحان امتحانٌ يشمل جميع طبقات المجتمع، لكنّه أشقّ على من يفترض بهم تقدمي خدمات أكبر للمجتمع (لأجل زيهم أو منصبهم أو ظاهرهم أو حديثهم)، فيجب على هؤلاء مراقبة أنفسهم أكثر من الآخرين لأنّ انحرافهم أقبح وآلم للمجتمع، لكنّ هذا الامتحان يشمل الجميع على أيّة حال. وكما يُمتحن الفرد تُمتحن الأمّة أيضاً كما امتحنت في عهد النبي نوح السلام وقد رأيتُ رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشرح فيها لأمير المؤمنين السلام معالم انحراف الأمّة الإسلامية وفي آخر الرواية يدور محور الكلام حول التقوى.
وفي نفس الآيات الواردة في قصّة النبي نوح السلام بعد الآية التي قرأتها يقوا اللّه تعالى: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ . فالعاقبة الحسنى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة التقوى، وفي قصة نوح كانت الآية تشير إلى أنّ العلّة الأساسية لسقوط أولئك الذين سقطوا هي ابتعادهم عن طريق التقوى.
أيّها الأخوة والأخوات الأعزّاء نحن نعيش الآن في أمان تحت راية الإسلام وهذا هو اختبارنا اليوم، وفي ما مضى لم يكن أحد يجرؤ على أن يتفوّه بكلمة حق واحدة، كان الباطل مسيطراً على كلّ شيء، واليوم بفضل اللّه وببركة الإسلام فإنّ كلمة الحقّ هي السائدة في البلاد. وحتى أهل الباطل لديهم الفرصة لإظهار باطلهم.
فانتبه أيّها المؤمن يا من ركبت سفينة نوح في أحلك الظروف، إسع لأن تخرج مرفوع الرأس من هذا الاختبار. الطريق الوحيد للنجاة هو التزوّد بالتقوى، ومراقبة الإنسان لنفسه. قد يشتبه أحياناً فيرتكب بعض الذنوب؛ إلاّ أنّ المهم أن تراقبوا أنفسكم وتقرّروا أن لا ترتكبوا معصية بعد الآن.
هذه هي رسالة شهر رمضان المبارك فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ هو مقدّمة للحصول على التقوى، والتقوى هي الغاية المنشودة.
اللّهم بحق محمد وآل محمد نوِّر قلوبنا بالتقوى، اللّهم اجعلنا من المتّقين ولا تحرمنا من بركات التقوى ولا من بركات شهر رمضان.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
﴿وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع