إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد

تاريخ البحث في ولاية الفقيه‏

الشيخ مالك وهبي‏


أثار انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران تحت قيادة الإمام الخميني قدس سره تساؤلات جمَّة حول مبدأ ولاية الفقيه، أحدها: هل أن هذه النظرية من بدائع الإمام الخميني قدس سره أم أنها فكرة قديمة في التاريخ الفقهي الجعفري؟. ولم يكن هذا السؤال مختصاً بالمفكرين والباحثين في الساحة الثقافية العامة، بل طرحه أيضاً جملة من طلاب العلوم الدينية.

* تاريخ نظرية ولاية الفقيه‏
وفي الجواب عن هذا السؤال نجد عدة اتجاهات:

الاتجاه الأول: إن هذه النظرية لم تكن معروفة لدى العلماء الأقدمين، وإنما هي من إنتاجات "العلاَّمة النراقي" الذي فصَّل فيها في كتابه "عوائد الأيام"، وفي أحسن التقادير هي من نتائج "المحقق الكركي" صاحب "جامع المقاصد"، وقبل ذلك لا نجد مظاهر تدل على القبول بهذه النظرية أو مناقشتها. ثم أن الذين بحثوا في هذه النظرية لاحقاً قد أنكروها ولم يوافقوا على ما يُدَّعى كونُه أدلَّة عليها.

الاتجاه الثاني: أنها نظرية مطروحة سابقاً إلا أن المشهور بين العلماء السابقين واللاحقين إنكارها، إلا ما يتعلق بمجالات محددة مثل الولاية على القُصَّر والأيتام والخمس.

الاتجاه الثالث: أنها نظرية مطروحة سابقاً والمشهور بين العلماء السابقين واللاَّحقين القبول بها، بل هو محل وفاق بينهم لولا ما ظهر في عصرنا الحالي من تردد لدى بعض المفكرين الشيعة، وإنما اختلفوا في دائرة الصلاحيات الممنوحة للفقيه في هذه الولاية. إلا أن ما اتفقوا فيه يكفي لكي يستند الفقيه إليه كي يدير شؤون الأمة في مجالاتها المختلفة: سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأمنياً. والذي نعتقده أن الاتجاه الثالث هو الاتجاه الصحيح وأن كلا الاتجاهين السابقين ناشئان من عدم بذل الجهد الكافي في معرفة آراء العلماء، ولا في معرفة المصطلحات المتداولة في هذه القضية؛ الدالة على مضمون الولاية. ولقد دلَّنا البحث المعمق على عدم صحة ما ينسب إلى كثير من علمائنا من القول بإنكار الولاية، بمن فيهم الشيخ الأنصاري والسيد الخوئي وآخرين. إن الشبهة الموجودة في الحوزات العلمية حول التساؤل المشار إليه تنحصر لدى طلاب العلوم الدينية أما العلماء فهم لا يرون إلا الاتجاه الثالث.

ولا ندري الزمن الذي تسربت فيه الشبهة إلى طلاب العلوم الدينية، لكن يبدو أنها كانت بتأثير من بعض أساتذة المكاسب للشيخ الأنصاري الذي التقطوا منه عبارة تفيد أن دون إثبات الولاية خرط القتاد، مع أنه لم يكن بصدد نفي الولاية للفقيه إلا بنحو الجعل التشريعي نصاً، لا الولاية ولو بدليل العقل.

* المرجعية والولاية
إن مراجعةً لحياة علمائنا وتاريخ المرجعية تؤكد لنا أنه لم تكن المسألة في المرجعية منفصلة تاريخياً عن مسألة الولاية، وأن المرجع كان يتم اختياره على ضوء شروط لا يقتصر شأنها على ما يتداول الآن من شروط للمرجعية، بل نجد أن من الشروط التي كانت مطروحة عنصر الكفاءة في الشخصية على مستوى قيادة الساحة. وعلى هذا الأساس كان الشيخ المفيد هو زعيم الشيعة ومرجعهم، وعلى هذا الأساس أيضاً انتقلت الزعامة للسيد المرتضى ومن بعده للشيخ الطوسي، فلم يكن تمام المناط الجانب الفقهي بل كان هو، بالإضافة إلى القدرة على التصدي لحاجات الساحة. ولم يكن عن عبثٍ أن يكون اللَّقب الذي يحمله المرجع "زعيم الحوزة العلمية"، فلو كانت المرجعية في المرتكز الشيعي العلمائي والشعبي مجرد مقام فتوى لا غير، لم يكن هناك أي مبرر لاستعمال مصطلح الزعامة.

ومن هنا نجد أيضاً أنهم عندما يبحثون عن قضية العدالة في المرجع يستدلون على ذلك، من جملة أدلتهم، بأن المرجعية إمامة فإذا كانت العدالة شرطاً في إمام الصلاة فبالأولى أن تكون شرطاً في المرجعية، وهذا الدليل لا قيمة له بناء على المعنى المتداول حالياً من المرجعية، إلا إذا ربطناها بالولاية.

يؤكد ما قلناه أن المرتكز الموروث المخبأ في حياة الشيعة أنهم يتعاملون مع المرجع معاملتهم مع الولي، وأن المرجع يجد نفسه غير قادر على الاعتذار بحجة أنه ليس ولياً، بل الكثير من العلماء تدخَّل وأعطى موقفاً سياسياً كان ذا أثرٍ مهم في حياة الناس تحت عنوان أنه مرجع، وهو ما يتضح بأدنى مراجعة للقرن العشرين ودور العلماء فيه. فلم يحصل أي تفكيك بين المرجعية والولاية لا من حين نشوء المرجعية، مع أنه لا دليل على المرجعية بشكل مستقل عن الولاية، ولا في حياة الناس، ولا في صلب الحياة الفقهية للحوزة العلمية، وإنما حصل التفكيك ظاهرياً في النظرية عندما طرحت شروط المرجعية بنحو لا يلحظ أي كفاءة أو قدرة لدى المرجع، حتى في صيانة مال الخمس وكفاءته في إدارته مع أن الخمس يعود إليه أو يجوز إعطاؤه إليه لصرفه على أهله وفي موارده. وهذا التفكيك النظري ربما بدأ عندما شعر العلماء بأنه لا قدرة لديهم على التدخل في حياة الناس، وبالتالي صار النظر مختصاً بنحو شروط لا تتطلبها الولاية، في سهو وغفلة عن أن عدم القدرة على التصدي لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يلغي إدخال الشروط دائماً باعتبار أن مقام المرجعية هو مقام ولاية في الوقت نفسه.

* ولاية الفقيه في حياة العلماء
إن كل ما ذكرنا يحتاج إلى متابعة مفصلة واستقراء واسع لن تتسع له هذه المقالة، ولذا سنختصر البحث لنؤكد على أن مسألة ولاية الفقيه كانت معروفة ومقبولة وأنه تم التعبير عنها بعبارات مختلفة، وإن اختلفوا في الدليل عليها بين قائل بالنص وقائل بالعقل. ففي "المقنعة" للشيخ "المفيد" (ت 413) يعطي حق إقامة الحدود لمن نصبه أئمة الهدى عليهم السلام من الأمراء والحكام ثم يعقب على ذلك بأنهم فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان، وله فيها أيضاً تعبير "الناظر في أمور المسلمين"، وأصرح تعبير له قوله: "وإذا عدم السلطان العادل كان لفقهاء أهل الحق العدول من ذوي الرأي والعقل والفضل أن يتولوا ما تولاه السلطان". وقد وافقه على كل ذلك "ابن إدريس الحلي" (ت 598) في "السرائر" ومثل هذه التعبيرات نجدها عند الشيخ "الطوسي" (ت 460) في "النهاية والخلاف" وهي من المتون الملحقة بالروايات، فيعتبر الحاكم منصوباً لاستيفاء الحقوق وحفظها وترك تضييعها، وقد سماه أيضاً بالناظر في أمور المسلمين. ويعتبر "أبو الصلاح الحلبي" (ت 447) في كتابه "الكافي" أن للفقيه الجامع للشروط النظر في مصالح المسلمين وإحياء السنن وإماتة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن عليه أن يتخير الحكام النائبين عنه في البلاد وعليه أن يختار من الفقهاء فإن لم يجد فعليه تأمين أهل الكفاءة من المؤمنين، وقد وصف المحقق "الحلي" صاحب "الشرائع" (ت 676) الحاكم بأنه منصوب للمصالح، ومثله العلامة "الحلي" (ت 726) في "تذكرة الفقهاء" الذي وصف الفقهاء بنواب الإمام عليه السلام وأطلق، بل ذكر فيها أن السلطان العادل هو الإمام العادل أو من يأذن له الإمام ويدخل فيه الفقيه المأمون القائم بشرائط الاقتداء والحكم. كما أنه نقل كلام "المفيد" ووافقه عليه. وفي نهاية الأحكام له تعبير عن الفقيه بأنه "نائب الإمام عجل الله فرجه فكان له ولاية ما يتولاه".

ويعرِّف "الشهيد الأول" (ت 786) في "الدروس" القضاء بأنه ولاية شرعية على الحكم في المصالح العامة من قبل الإمام عجل الله فرجه. ويصرِّح "الشهيد الثاني" (ت 965) في مسالك الأفهام بأن الفقيه منصوب للمصالح العامة، وأن الحاكم ولي عام وبأنه والي المصالح العامة ويظهر من "المقدس الأردبيلي" (ت 940) في مجمع الفائدة والبرهان الإجماع على أن الفقيه الجامع للشرائط نائب من قبل أئمة الهدى عليهم السلام في جميع ما للنيابة فيه مدخل، ويذكر أن دليل ولاية الحاكم على من لا ولي له أنه لا بد من ولي، وليس أحد أحق منه، وصرح "كاشف الغطاء" (ت 1228) في كتابه "كشف الغطاء" بأن النائب العام من العلماء الأعلام يقوم مقام الإمام عليه السلام كما يصرح السيد "علي الطباطبائي" في "رياض المسائل" بأن الحاكم الفقيه له الولاية العامة على جميع المصالح العامة، وهذا الرأي هو رأي "الشيخ الأنصاري" (ت 1245) لكن بمقدار ما يقتضيه دليل الحسبة، أي في الأمور التي يكون مشروعية إيجادها في الخارج مفروغاً عنها بحيث لو فرض عدم وجود الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية كما صرَّح به في المكاسب، وبهذا المقدار اعترف أيضاً "اليزدي" صاحب "العروة الوثقى" (ت 1337) ويسلِّم "الأصفهاني" (ت 1361) في حاشيته على المكاسب بكون الفقيه نائباً عنه فيما يرجع إلى أمور المسلمين، التي تكون وظيفة الإمام عجل الله فرجه بما هو رئيس المسلمين أن يتصدى لها، وبمقدار ما يقتضيه دليل الحسبة يعترف السيد "محسن الحكيم" بولاية الفقيه فيها في كتابه "مستمسك العروة الوثقى" ويعتبر السيد "البروجردي" في بحثه حول صلاة الجمعة أن ثبوت الولاية للفقيه في الأمور العامة لا يحتاج إلى دليل بعد فرض عدم إمكان إهمال التعيين، فالمطلوب عنده اثبات الحاجة إلى الولي في مورد ليكون هذا الولي هو الفقيه إجماعاً.

وللسيد "الخوئي" كلام واضح في ولاية الفقيه في كتابه حول الجهاد في كل مورد نحتاج فيه إلى ولي كما في الجهاد الابتدائي، حيث يرى مشروعيته في عصر الغيبة. وللسيد "عبد الأعلى السبزواري" في "مهذب الأحكام" كلام يعتبر فيه أن مقتضى فطرة الأنام أن الفقيه الجامع للشرائط بمنزلة الإمام إلا ما اختص بالمعصوم، ويستهجن التشكيك في ولاية الفقيه. وممن صرح بثبوت الولاية للفقيه السيد "الكلبايكاني" وهذا الرأي معروف عنه كما هو مشهور عن "جامع المقاصد" و"النراقي" وصاحب "الجواهر" و"الشهيد الصدر".

فليست ولاية الفقيه بالمسألة الطارئة بل هي قديمة قدم القول بالمرجعية، ومنذ أن بدأت عصر الغيبة فكانت الترجمة الفعلية البارزة في كلمات العلماء لقول الحجة عجل الله فرجه: "فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللَّه"، ولم يخل الخلاف في صحة الحديث أو في دلالته ودلالة غيره من الأحاديث التي تذكر في هذا المجال من الاتفاق على ولاية الفقيه ولو من باب دليل العقل والحسبة، والنماذج التي ذكرناها على اختلاف الأزمنة تؤكد تلك الحقيقة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع