نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

كيف تُصنع الشائعات؟

د. عبّاس مزنّر

إنّ القوة التكنولوجيّة لوسائط الاتّصال الحديثة والوسائل الإعلاميّة التقليديّة جعلت حتّى "الديمقراطيّات" الأوروبيّة والأميركيّة تغلّف العقول بأيديولوجيّاتها وسياساتها.

*تهيئة المجتمع للخضوع
إنّ أسطرة الثقافة والتكنولوجيا الحديثة لوسائط الاتّصال والإعلام دفعت الناس إلى البحث عن الحقائق والمعارف وحتّى أنماط العيش والعوائد... في مسارات ما سمّي بالـ"web" ومواقع الاتّصال الاجتماعيّ التي باتت تصنّع ما يسمّى بـ"العقل الجمعيّ" والثقافة العامّة في المجتمعات. وهذا التصنيع لما يسمّى بـ"الكليّ" (collective)(1) هو من أساطير هذه الثقافة التي تضعه تحت هيمنة جماعات الضغط والنخب وتحت عباءة السلطة السياسية وهيمنتها اللامرئيّة (وهذا ما كان يهيّئ دائماً المجتمعات للخضوع لكلّ التسريبات والأخبار والشائعات).

وإذا أضفنا إلى الثقافة الحديثة ووسائطها وإعلامها آليات الضخّ الفوريّ والضخم للمادة الإعلاميّة، والذي تضاعف عشرات المرات بدءاً من 2009-2015 حتّى الكمّ المعلوماتي(2) إلى أرقام خياليّة، بل أسطوريّة تجعل الفرد عاجزاً عن التمحيص والتدقيق... وبات المرء قابلاً للتصديق الفوريّ والمباشر، خاصّة وأنّ الدفق المعلوماتيّ هو في صيرورة دائمة وتغطِية من مختلف بقاع الأرض (وفي زمن واحد ومحدّد للمتلقّي).

*ضخّ الشائعة والعقل الناقد
وإذا كانت روح النقد أو العقل الناقد قد اندثرت من خلال هذه التكنولوجيا فإنّ الأطر الجديدة لتنميط وتقطيع المعلومات والتجزئة جعلت الحقائق في مهبّ الرياح. ولذا، فإنّ كلّ الدراسات وكلّ النقّاد الإعلاميّين يؤكّدون أن ما يسمّى بـ"الواقع" أو "الحقيقة" و"اليقين"... بات أسير الفضاءات الجديدة للإعلام ووسائطه، لا بل أكثر، حتّى يقال إنّه بات بالإمكان صناعة التناقضات وتعميمها... ودون أيّ رابط منطقيّ أو عقليّ. ومن الممكن، بالتالي، التسليم بأنّ الضحيّة هي الجلّاد والجلّاد هو الضحيّة. ولذا فإنّ صناعة التوحّش أو صنّاعه يتحوّلون إلى "جلّاديه" في الإعلام، وتصبح، على سبيل المثال، الولايات المتحدة وحلفاؤها من العرب والخليجيّين المكوّن الأساس للتحالف الدوليّ ضد "الإرهاب".

*صنـاعة الشائعات والأساطير
هناك ظروف وعوامل مساعدة على صناعة الشائعات، منها:

1- التهديدات الوجودية وصناعة ثقافة التوحّش (الربيع العربي نموذجاً):

إنّ الخطر والتهديد الجمعيّ يؤدّيان إلى نشوء المخاوف وانتشار الرعب... وهذا يمهّد بدوره لبثّ الشائعات الخطيرة التي قد تؤدّي إلى انهيار السلطات المحليّة وانهزام ألوية كاملة من الجيوش.. ومن أجل ذلك كان لا بدّ من إنتاج ثقافة الخوف والتوحّش وأسطرة الدواعش أو أي مكوّن وحشيّ آخر... وهنا، تبدأ مسيرة صنع ثقافة الرعب، وتصنيع التهديد "الاستراتيجي" للوحش الأسطوريّ "الإسلاميّ"، من خلال تكنولوجيا الإعلام، ووسائل الاتّصال والتقنيّات الهوليوديّة والمشهديّة المسرحيّة، فانتشرت في ظلّ العولمة الإعلاميّة، في كلّ بقاع الأرض، مع خطاب سياسيّ وقياديّ، وأمميّ، أميركيّ، وأوروبيّ، وعربيّ، ومؤتمرات دوليّة وتحالفات... إلى أن انتهى الأمر "بالحرب على الإرهاب" من خلال زعامة الولايات المتحدة الأميركية.

2- ضخّ نماذج الرعب لنشر شائعات التوحّش:

لقد طرحت تساؤلات عديدة حول فيديوهات داعش القاتلة.. وطرحت علامات استفهام حول انتشارها وتعميمها وترسيخ أيقونتها وتأثيرها و"إبداعاتها" في صناعة الرعب وأدواته...
لكنّ، الأمر لا ينتهي هنا، بل يبدأ باستراتيجية بعيدة ومن خلال تطبيقات لنماذج سيكولوجية مرعبة ممنهجة تؤدّي مع الخطاب القياديّ و"الإجماع الدوليّ" و"الأمميّ" إلى امتداد عظيم لنموذج إسلاميّ متوحّش لم تعهد له الأمم مثيلاً في التاريخ كلّه.

ولذا، كانت الدول الكبرى تعتمد في حروبها على مداخل نظريّة لمفهوم التهديدات المجتمعية في الحروب والأزمات. وهي ترتكز كما في نموذج (ستانلي كوهين) على التضخيم أو التشويه، ومن ثمّ مرحلة التوقّع (prediction)، ومن بعدها نصل إلى الترميز، وهي مرحلة مكثّفة بالمشاعر، والتحريض، والعصبيّة، والشحنات النفسيّة التي تدفع إلى تبنّي المواقف المعلنة، وحتّى بشكل غير واعٍ، ومن ثمّ تجري دراسة ما يسمّى بأنظمة المعتقدات لدى الجمهور الذي قد يرفض أو يسلّم بما يُعلن أو يشاع في الإعلام ووسائط الاتّصال الاجتماعيّ. كلّ هذه المراحل، تقدّم بشكل نمطيّ، وصورة العدوّ كما هو الواقع قدّمت بشكل نمطيّ ووحشيّ وتاريخيّ في السنوات الأربع الأخيرة في الصراع الدائر في ما يسمّى بالربيع العربي.

*النموذج البريطانيّ - الأميركيّ
وتظهر هناك نماذج أخرى للتضخيم والتشويه والترميز الممهّدة لولادة، ليس الشائعات فحسب، بل لولادة أساطير ترتبط بهذا الوحش القادم من طيّات ومجاهيل التاريخ (ونذكر هنا النموذج المتكامل والشامل والمسمّى (processual model) ونموذج السمات (Attribution Model). وأخيراً، نموذجاً يجمع المدرستين البريطانية والأميركية.

وإذا كان الدور الأميركيّ في النموذج السيكولوجيّ المقدّم يرتكز على التهديدات ودور السلوك الجمعيّ وغير الجمعيّ للأفراد، فإنّ الدور البريطاني - النموذج المقدّم - يركّز على دور وسائل الإعلام ودور رجال السياسة وأيديولوجيّاتهم.

هذا النموذج لـ(Thompson) يشير إلى دور التصورات ووعي الجماعات في تكوين التهديدات والمشكلات ودور الأعلام والقادة... وهناك جملة انتقادات لكلّ نموذج. لكن، ما هو جامع شامل يقوم على دور الأعلام والقادة و(غيرهم) ومن ثمّ تقدير الجمهور وإحساسه بالقلق الوجوديّ والخوف (الذي ينجم عنه قبول التشويه والتحريف والأكاذيب والشائعات والأساطير...).

*الشائعات تؤدّي إلى ولادة الانهيارات السريعة (النموذج السوريّ والعراقيّ...).
تنطلق الشائعات عادة ممّا يسمّى "النواة الحقيقية" (النموذج) في الواقع الخارجيّ. وهي لا تبدأ من فراغ. ولذا، فإن التقدّم الداعشيّ في عدّة مناطق في الشمال السوريّ بدءاً من اجتياح سريع وهمجي لـ"إدلب" وحتّى الجنوب في "درعا" عزّز المخاوف الوجودية الكبرى والتي طغت على كلّ ما سواها من استراتيجيّات المواجهة، ومحاولة استعادة زمام الأمور، وطغت المخاوف الوجودية على التفكير العقليّ وعلى نمط إدراك الواقع.. إنّ الهاجس الوجوديّ وثقافة الرعب والتوحّش التي ترسخت فيما مضى منذ غزوة الموصل وما قبلها وما واكبها من إعلام فَعلت فعلها، ولذا، فقد انهارت منطقة "جسر الشغور" بسرعة أثر الشائعات التي انتشرت في وسائط الإعلام وتكنولوجيّاته الحديثة، واقترب الدواعش بسرعة ودخلوا "تدمر".. لقد كانت هناك انسحابات واسعة من هذه المناطق وانهيارات نفسيّة كبرى استفادت منها فلول الدواعش، وأصبحت النفوس قابلة لتصديق ما يقال.

ولم تقف الشائعات عند هذه الحدود، بل انتشرت في الساحل السوريّ، في الشمال، وشهدت المناطق نزوحاً سكانياً حتّى اضطرّت الدولة إلى إصدار بيان رسميّ ولأول مرة تنفي فيه هذه الشائعات.

*المواجهة: الأمل والثقة بالله
الأمل قد يتبدّد ويطغى عامل الخوف الوجودي على ما سواه. وقد يطغى حتّى على التفكير العقليّ، وعلى نمط إدراك الواقع... إذ إن الهاجس الوجودي إبان الحروب، والتحديات، والفتن الكبرى يصبح قاتلاً حتّى وإن أمكن، حقيقةً، مواجهةُ الخطر وتحدّيه... ولذا، فإن المعتقدات والثقافات السائدة إمّا أن تؤدّي إلى انهيار الجيوش والمقاتلين الذين يتعرّضون للضغوط (والشائعات والحرب النفسية) بالسرعة الكبرى وتتحقّق نظرية "الدومينو" وتسقط المدن والمحافظات تباعاً، وإمّا يكون التمسّك والأمل والنصر الإلهيّ هو المؤمّل حتّى تحت محاولات إبادة "جماعية" وقصف استراتيجيّ تدميريّ شامل... كما يحدث، في هذه الأيام، في اليمن.

*محاولة ضرب الرموز القياديّة
وفي مثل هذه الظروف، وفي ظلّ انهيار قوّة الردع للتحالف السعوديّ الأميركيّ، وتلاشي أثره على الرأي العام، كان لا بدّ من اللجوء إلى محاولة النيل من الرموز العظيمة أو القيادية لهذه المجتمعات. كما حصل خلال الثبات العظيم في حرب تموز 2006 أمام آلة الدمار الهمجيّة الصهيونيّة والتي أشاعت مع آلتها الإعلامية، ومع حلفائها، استعدادها وعزمها على التهديد الوجوديّ للحزب وقادته، كما أشاعات محاولات النيل من سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) في محاولة أخيرة لكيّ الوعي الجماهيري، وتحقيق صورة نصر رمزي مؤزّر، كما كانت تخطط لهذا الخلية القياديّة العسكريّة الإسرائيليّة لكنها فشلت.

وكذلك الأمر أيضاً في ذروة التحدّي والصراع بين محور المقاومة والممانعة واقتراب المفاوضات النوويّة من موعدها الأخير، حيث جرى تسريب أخبار ملفّقة عن مرض السيد القائد الخامنئي باعتباره المرجعيّة القيادية العليا، ولما له من تأثير على القرار الكبير المتعلّق بالاقتدار النووي ومرجعيّته الحصرية.

لكن، للوعي والإيمان دائماً الدور الكبير في دحض كل الشائعات ومحاولات اختراق المجتمعات العقائدية ذات الثقافة الواحدة والمرجعيّة الواحدة.. وهذه الجماعات قد تقلّ أو تكثر، لكنها، إن أجمعت على مبايعة وليّها وقائدها، فإنه من الصعب اختراقها مهما اشتدت التهديدات الناعمة أو الصلبة ومهما كانت التحدّيات وظلامات الدهر العاتية. وقافلة الحسين عليه السلام كانت ولا تزال منارة للثائرين على هذا الدرب.


1.حتّى ولد ما يسمى بـ"الحقيقة الكليّة أو الجمعية" Reality Collective والتي لها الدور المهيمن في الجماعات والمجتمعات الحديثة أو التي تخضع لسلطة التكنولوجيا الجديدة ووسائط الإعلام.
2.الكمّ المعلوماتي الذي يقاس بالوحدة الرقميّة المعلوماتية "Bits"، تعدّدت وحداته القياسيّة مع تسونامي المعلومات وكمّها الهائل في السنوات الأخيرة...

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع