نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

تربية: البعد الروحي(2)

الشيخ حسين كوراني‏

 



عن الإمام "موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرّب، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينيه، والحكمة لسانه، والرأفة همّه، والرحمة قلبه، ثم حشاه وقوّاه بعشرة أشياء: باليقين والإيمان، والصدق والسكينة، والإخلاص والرفق، والعطية والقنوع، والتسليم والشكر، ثم قال عز وجل: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: تكلم، فقال: ألحمد لله الذي ليس له ضد ولا ند ولا شبيه ولا كفو ولا عديل ولا مثل، الذي كل شي‏ء لعظمته خاضع ذليل. فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع منك، ولا أشرف منك، ولا أعزَّ منك ، بك أؤاخذ، وبك أعطي، وبك أُوحَّد، وبك أُعبَد، وبك أُدعى، وبك أُرتجى، وبك أُبتغى، وبك أُخاف، وبك أُحذر، وبك الثواب، وبك العقاب. فخرَّ العقل عند ذلك ساجداً فكان في سجوده ألفَ عام فقال الرب تبارك وتعالى: إرفع رأسك وسل تُعطَ، واشفع تُشفّع، فرفع العقل رأسه فقال: إلهي أسألك أن تُشفّعني فيمن خلقتني فيه فقال الله جل جلاله لملائكته: أُشهِدُكم أني قد شفّعته فيمن خلقته فيه"(1).

* ويكشف التأمل في هذا النص أن القلب في الإنسان السوي السَّلَم(2) ومن حيث الأصلُ والمبدأ لا ينفصل عن العقل، ولذلك فإن السائد في الفصل بينهما ناتج عن الانفصام السائد هو بدوره، ومن هنا أمكن ترجيح أن العقل السليم لا ينفصل عن القلب السليم، وأن المراد بالقلب(السليم) في الحقيقة هو الإنسان السوي(3)، وليس منشأ التفريق بين العقل والقلب السليمين في حقيقته، إلا التفريق بين العقل الحقيقي، والعقل المدعى الموهوم. وفي ضوء هذه الحقيقة الآنفة الذكر، يجب فهم كلمات العلماء الذين يعنون بالروح وسلامتها:

* قال السيد الجزائري:
"وقد روي في الأخبار إطلاق "العرش" أيضاً على قلب المؤمن، لأنه محل المعارف ومكان أسرار الله تعالى، ومن ثم ورد في الحديث القدسي: ما وسعني عرشي ولا كرسيي ولا سمائي ولا أرضي ولا برّي ولا بحري، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن"(4). وجاء في "مستمسك العروة الوثقى": "لم يرض جل جلاله بمواجهة بيته الحسي المركّب من الأحجار والأخشاب بالنجاسات، مع ما بينها وبينه من المسافات، فكيف يرضى أن يكون بيته المعنوي، ومحل معرفته، وفيوضاته، وينبوع حكمته، وموضع محبته ملطخاً بأدناس المعاصي وأرجاس الكبائر؟! كما قال جل جلاله: "لم تسعني سمائي ولا أرضي ولا عرشي ولا كرسيي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن"(5) فجعل سبحانه قلب المؤمن أجلّ وأوسع من العرش والكرسي. فينبغي لمن أراد الوقوف بين يدي الملك الجليل جل جلاله أن يطهر بيته الشريف بماء التوبة، ويظهر الحياء منه، حيث تركه قذراً نجساً، ولم يهيئه لحضوره وإقباله جل جلاله عليه"(6).

يؤكد ما تقدم الحقائق التالية:
1- أن الإنسان الذي هو "روح لها جسد" هو "قلب عاقل".
2 - بمقدار ما تكون العناية بهذا القلب متوفرة، تكون العناية بالروح.
3- ليست العناية بالجسد إلا مقدمة لازمة وضرورية كمدخل للعناية بالروح، وليس على حسابها.
4- أن "البعد الروحي" هو بيت القصيد الذي لا تشكل الأبعاد الأخرى كلها إلا روافد تصب فيه، أو تجليات تظهِّر ما تفاعل فيه.
5 - أن اختصار الإنسان في الجسد واحتياجاته هو العدوان الأخطر على "حقوق الإنسان" وكرامته.
6 - أن الأنماط التي تدعي الصدور من الإسلام، حين تحجِّم "البعد الروحي" وتهمّشه لتجعله حاجة من حاجات الإنسان، إنما تتماهى مع الثقافة المادية، شاءت ذلك أم أبت، وتقع فريسة "الإستلاب الثقافي" الذي يجعلها تدور في فلك المادية العمياء مهما كانت ادعاءاتها عريضة.

* وفي المجال الرابع: وعي حاجة الروح إلى سلامة التغذية، والخروج العملي من فرية التخلف والحيوانية البهيمية المقيتة التي تتلخص في أن حاجة التغذية خاصة بالجسد. أكتفي بتوكيد حقيقة أن الروح إنما تتغذى من خلال الجو الذي تعيش فيه، مما يعني أن البنية الداخلية الذهنية والنفسية هي التي تغذي الروح بما تختزنه من تواصل روافدها مع وسطها وبيئتها. من هنا فإن من السهل الممتنع والطبيعي المعجز أن نجد الإعداد الروحي كما أراده الإسلام، يحث المسلم على الإسهام في تشييد صرح منظومة المجتمع الفاضل من خلال الروافد التالية:

1 - أن العلم ضمانة سلامة الروح، والجهل موتها، ومن هنا كان العلم الحقيقي أسمى العبادات.
2 - إعطاء الأولوية لسلامة البيئة النفسية عبر الإنقطاع إلى الحق والحقيقة، والإنطلاق من ذلك في مجال إعطاء الأحجام لكل شأن من شؤون الحياة. ويتوقف ذلك على سلامة المعتقد، والذكر الدائم.
3 - أن الذكر القلبي هو الغاية التي لا تتحقق إلا بالذكر اللفظي، شأنها في ذلك شأن كل غاية عملية، حيث لا يمكن الإكتفاء بالتعامل النظري معها.
4 - أن بناء الروح بالفكر، أكثر أهمية من الذكر، لأن الذكر يوصل إلى ثواب الله تعالى، أما الفكر فهو يوصل إليه سبحانه، أي إلى معرفته عز وجل، ومقعد الصدق مع العباد المخلَصين.
5 - أن "الأحكام الخمسة"(*) التي هي "حدود الله تعالى" هي الشريعة التي لا مجال لتهميش أي بعد من أبعادها.
6 - أن مسلمة الجهاد الأكبر لأعدى الأعداء على الإطلاق، وللعدو المبين، لا تتخذ سبيلها العملي في حياة المؤمن، إلا من خلال "الجد في خشية الله تعالى"(7).

وحيث قد وجد "حزب الله" في هذا العصر في عبد الله المسدد الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه التجسيد العملي لهذه المنطلقات والرائد النموذجي للدعوة إلى بناء الخزين الروحي عبر روافد: العقيدة، والثقافة، والسلوك، والعبادة، والأخلاق، فقد اتخذ من "خط الإمام" نبراساً يقود الروح في دروب الكمال، ويسلك بها المدارج المحمدية للتحلي بمكارم الأخلاق. ومن الوضوح بمكان أن أداء هذه المهمة كما ينبغي مشوب بالمخاطر الجسام، ما لم يكن التقيد التام بحدود الله تعالى صمام الأمان الذي يتكفل بحفظ الشخصية المؤمنة من التهويمات "والشطحات"، كما يتكفل بحفظها من الإنزلاق في مهاوي "التغريب" الشيطانية المبرقعة بوهم العقلانية والحداثة ومحاكاة روح العصر، التي بلغ بريقها الخلاب حد التعامل مع أكثر المغيبات على أنها خرافة!! والتعامل مع أكثر حقائق الروح ومنها "المستحبات" و "المكروهات" على أنها "كماليات"! "ورُبّ ناقل فقه إلى من هو أفقه منه". والحمد لله رب العالمين.


(1) الشيخ، الصدوق، الخصال‏427.
(2) "السَّلَم" إشارة إلى قوله تعالى: "ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون، ورجلاً سلماً لرجل، هل يستويان مثلاً، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون". الزمر 29 والمراد من توحد همه وخرج من دائرة تجاذبات الأهواء والشياطين.
(3) أنظر: العلامة السيد الطباطبائي، تفسير الميزان ج‏1 405 في تعريف العقل. وج‏2 249 في قوله: "لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الإدراك" الى قوله "وهذا هو العقل". وانظر نفس المصدر ص‏250 قوله: "تبين من جميع ما ذكرنا: أن المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الإدراك الذي يتم للإنسان مع سلامه فطرته، وبه يظهر معنى قوله سبحانه:
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون، فبالبيان يتم العلم، والعلم مقدمة للعقل ووسيلة إليه كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون (العنكبوت: 43). وانظر أيضاً كلامه رحمه الله تعالى في معنى القلب في القرآن ج‏2 224 225 وفيه أن "المراد بالقلب هو الإنسان بمعنى النفس والروح" فراجع.
(4) السيد نعمة الله الجزائري، نور البراهين، ج‏2، ص 172.
(5) ورد هذا الحديث القدسي في مصادر الفريقين، إلا أن الغالب عند الجميع أنه "لا أصل له" بمعنى أنه لم تثبت روايته، ورغم ذلك فإن الإجماع قائم على صحة معناه كما صرح بذلك حتى من يجزم بأنه من الإسرائيليات. أنظر: العجلوني، كشف الخفاء، ج‏2، ص 195 وج 2، ص 99 و ج 2، ص 195 و ج 2 ص 324 وانظر: الفتني، تذكرة الموضوعات، ص‏30، وانظر: إبن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي‏4 7 وفي هامشه ذكر مصدر الحديث في البحار والمحجة البيضاء.
(6) مستمسك العروة، السيد محسن الحكيم، ج‏2، ص 195، والكلام لوالده، قال "صاحب المستمسك" قدس سره:
"وقد يحسن بهذه المناسبة أن نثبت ما ذكره الوالد العلامة المقدس طاب ثراه في كتابه: (معارف الأحكام في شرح شرائع الإسلام) في هذا المقام قياماً ببعض حقوقه وموعظة للمتقين قال قدس سره تحت عنوان (إيقاظ)" انتهى. ثم أورد ما في المتن.
(*) الأحكام الخمسة هي: الإباحة، الوجوب، الاستحباب، الكراهة والحرمة.
(7) إشارة إلى ما ورد في دعاء كميل: "وهب لي الجد في خشيتك".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع