نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قرآنيات: أساليب الضلال: التاريخ يُعيد نفسه‏

الشيخ عمّار حمادة

 



لقد سجَّل التاريخ لليهود أكثر المواقف مكراً وأشدها وصولية. فقد ضربوا المثال السي‏ء في بيع الحق بثمن بخس عندما تلوح لهم في الأفق فرصة لتحقيق أهدافهم الدنيوية على حساب أي قيمة مهما كانت سامية ومقدسة. وقد ورد في تاريخ صدر الإسلام ضمن مناسبات نزول الآيات أنَّ أحد أبرز شخصياتهم، كعب بن الأشرف، خرج في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد، يريد إقامة تحالف مع قريش بوجه المسلمين في نقضٍ واضحٍ للمعاهدة التي كانت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله.

لدى وصول الوفد إلى مكة نزل كعب على أبي سفيان ونزل بقية أصحابه في دور قريش، و لما حان إجتماعهم في دار الندوة قال لهم أهل مكة: أنتم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، ونحن لا نأمن أن يكون مجيئكم مكراً منكم، فإن أردتم أن نتحالف فاسجدوا لهذين الصنمين، أي الجبت والطاغوت، وإلاَّ لا نعاهدكم. فسجدوا وسجد كعب للصنمين ثم قام وقال لقريش :يا أهل مكة فليقم منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فيلصقوا بطونهم بالكعبة فنعاهد رب البيت على قتال محمد ففعلوا ذلك، ولما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنَّك امرؤ تقرأ الكتاب وصاحب علم ونحن أميون لا نعلم، فأيُّنا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق نحن أم محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه؟ فقال كعب: اعرضوا عليَّ دينكم، فقال ابو سفيان: نحن ننحر للحجيج ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك الأسير ونصل الرحم ونعمِّر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم، وديننا القديم. ثم قال كعب: اعرضوا عليَّ دين محمد، فقال ابو سفيان: محمد ترك دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ودينه الحديث. فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد. فأنزل الله سبحانه وتعالى الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (النساء: 51).

*الإستفادة من الآية:
لكنَّ الآية كانت بصدد إثبات حادثة تاريخية لأخذ العبرة منها، حيث أشارت إلى كعب وأصحابه من اليهود بأنَّهم "أوتوا نصيباً من الكتاب"، فلم تعبِّر عنهم بأنَّهم أهل كتاب، ففي ذلك كناية عن تمسكهم به وهو غير صحيح، وعبَّرت عن سجودهم للأصنام بأنه إيمان بالجبت والطاغوت، وهو شرك على كلا الاحتمالين فيهما، أي احتمال كونهما إسمين لصنمين أو يقصد بهما كل ما عُبِدَ من دون الله من حجر أو صورة أو شيطان، وبذلك يكونون قد خلعوا من رقابهم قلادة العبودية لله وأبدلوها بنير العبودية لأهوائهم ومصالحهم وشياطينهم. ونرى في الآية أيضاً كيف قام كعب باستغلال المقام العلمي والديني والإجتماعي الذي يتمتع به بين الناس لتزوير الحقائق نزولاً عند رغبة قريش وبالإتفاق معها من خلال القول بأنَّ الوثينة والشرك أهدى من التوحيد والإيمان بالله وذلك بقوله: "هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً". وهكذا يمكن الاستنتاج منها أنَّها تريد أن تبين حجم الإضلال والتحريف الذي يؤدي إليه اتباع الهوى والسعي وراء المصلحة، وتريد أن تفضح أساليب القوى الطاغوتية عندما تستغل الفرص لتشويه صورة الإيمان والتبعية للرسالة الإلهية.

* العبرة في الآية:
هناك نكتة دقيقة في الآية لا تظهر إلا من خلال التمحيص في مناسبة نزولها: عندما أراد ابو سفيان استغلال المناسبة والتشكيك بالرسالة المحمدية قام بسؤال كعب عن رأيه بها أمام الملأ ملمحاً إلى مقامه العلمي، وهنا لم يبادر كعب إلى الإجابة مباشرة وإلا لم يقع كلامه موقع القبول من الناس، إذ يظهر لهم صاحب عداوة وليس صاحب علم ودراية، بل قام على طريقة أهل العلم بالسؤال عن ماهية كل طرف من الأطراف أي أنَّه يدَّعي الموضوعية والمسافة الواحدة من الفريقين والحرص على الحق والحقيقة، ليعلن إثر ذلك التقييم المضلّ خدمةً للأهداف المشتركة بينه وبين المشركين الذين جاء ليتحالف معهم. وهنا لا بد أن نلاحظ عملية المقابلة التي قام بها أبو سفيان في عرضه للطرفين، ونلاحظ الجواب الذي جاء منسجماً مع هذا العرض ومع المنطق الواضح بحسب هذه المقابلة، وفي هذا تكمن النكتة التي نريد الإشارة إليها، فالمضلّ يصوّر الطرف المقابل كما يشاء، ويرسّخ هذه الصورة في ذهن الناس، ليقوم بعد ذلك وبالإستفادة من المنطق والعلم بإطلاق الحكم عليه. وهذا ما سينقلنا إلى الإستفادة المعاصرة من الآية.

* الإستفادة المعاصرة من الآية:
تبين الآية أحَد أساليب الباطل في إضلال الناس، كما وأنَّها تبيّن ما يستخدمه "تيار الضلال" في هذا العصر من ألاعيب وافتراءات عندما يريد مهاجمة "تيار الهداية"، وهو يقوم بذلك الآن على مرأى ومسمع من كل العالم المبهور بمنطق الغلبة. العنوان الأبرز لمعركة الحق والباطل يتجلّى في هذه الأيام بوضوح في المسألة النووية أو ما يُعَبّر عنه في أدبيات السياسة الدولية الحالية ب"ملف إيران النووي". والمسألة، كما يطرحها "تيار الضلال" في العالم، أنَّ هناك دولة تدعم الإرهاب وتسعى إلى امتلاك القنبلة النووية من أجل تهديد جيرانها وإرعاب العالم المتحضّر، وهذه الدولة طبعاً هي الجمهورية الإسلامية في ايران.

إذا قمنا بمقايسة بسيطة بين هذا العرض وعرض قريش لكعب بن الأشرف، فإننا نجد أنَّ المنطق واحدٌ في كلا العرضين، كما أنهما يتطابقان في تحوير الحقائق، بل في قلبها في استغلال ذلك لتحقيق الأطماع والأهداف. ومن أجل إتمام المقايسة فإننا نجد أيضاً أن وضع قريش في ذلك الزمن هو بالضبط وضع إسرائيل في زماننا ووضع المسلمين هو وضع إيران الحالي حذو النعل بالنعل. ففي ذلك الزمان، قريش المعتدية التي طردت المسلمين من مكة ونكلت بهم وآذت رسولهم، تتحالف مع كعب بن الأشرف المدَّعي لمقام العلم ولاتباع الرسالة الإلهية من أجل مقاتلة هؤلاء المسلمين بعنوان أنَّهم أتباع دين ضال ورسول فارق الحرم وقطع الرحم واستحدث ديناً جديداً. وفي هذا الزمان، إسرائيل المعتدية التي احتلت فلسطين وقتلت شعبها وهجرت من بقي منه تتحالف مع أميركا المدَّعية للتحضُّر ولامتلاك رسالة نشر الأمن والسلم في العالم من أجل مقاتلة إيران، بعنوان أنها دولة ترعى الإرهاب.

والحال، في واقعه، أنَّه كما كان في التاريخ وقد ثبت ذلك للجميع لاحقاً فإنَّ دين قريش كان محض الضلال، وأنها كانت هي المعتدية، وأنّ حليفها كعباً كان مدعياً للعلم وكلامه كان مثاراً لإضلال الناس وتختفي وراءه الأطماع والأهواء والأهداف الخبيثة. كذلك في الحاضر فإن إسرائيل هي الضالة والمعتدية التي لم تترك أسلوباً من أساليب الإرهاب إلا واستعملته، وهي تتحالف مع أمريكا المدّعية للتحضّر وللحرص على السلم العالمي. وكما كان المسلمون في ذلك الزمن مثالاً للأمة الباحثة عن الحق والسلم والطالبة لهما والمتفانية في تحقيقهما، كذلك الآن إيران هي الدولة التي تسعى بكل قواها لتثبيت الأمن في المنطقة والعالم ولنشر الأخلاق والتعاليم الدينية السلمية ولإتاحة الفرصة لشعبها من أجل الرقي العلمي والاجتماعي، بخلاف ما تروّج له أمريكا، والتي هي أحق بأن توصف به من تهديد للسلم العالمي وسعي للسيطرة على مقدرات العالم بأساليب همجية.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع