صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

الشهيد القائد: علي حسين صالح‏

نسرين إدريس

 




اسم الأم: فاطمة صالح‏
محل وتاريخ الولادة: بريتال 10/04/1961م
الوضع العائلي: متزوج وله 6 أولاد
مكان وتاريخ الاستشهاد: المريجة الكفاءات 03/08/2003م

رجل لم يفصح دمه القاني عنه، والشظايا التي مزقت جسده ذات صباح صيفي، أبقت على قناع الغموض الذي لبسه طوال حياته ليُخفي وجهه الحقيقي، فغاب عن الدنيا كما كان فيها. رجل عرف الكثير، وعمل وضحّى إلى أبعد الحدود، ولم يعرفه سوى رجال قلة، رجال مثله، لا يعرفهم أحد سوى الله.. الحاج علي صالح، مجاهد من أبرز المطلوبين لدى الموساد الإسرائيلي على إثر الضربات الموجعة التي وجهها إليه طوال سنوات. لم يهن قلبه يوماً، ولم يتعب، بل حمل دمه في كفه التي طالما ترك السلاح آثاره عليها، وحارب بكل بسالة دفاعاً عن دينه ووطنه، فهزمهم بطمأنينته التي زعزعت استقرارهم، فقتلوه غيلةً، في طريقٍ يعجّ بالمدنيين، وأمام ناظري ولده البكر الذي ركض عند سماعه صوت الانفجار ناحية المنزل ليطمئن إذا ما كان والده لا يزال بداخله، ولكن رؤية مكان سيارته الفارغ، دفعه إلى حيثُ كانت ألسنة النار تلتهبُ بسيارة والده..

ارتاح العدو الصهيوني بإبعاد "أحد أخطر الرجال" الذين يهددون أمن واستقرار كيانهم الغاصب، وتنفّس أحد قادتهم العسكريين الصعداء الذي كان قد صرّح قبل أشهر من الاغتيال بأنه: "سيقتل علي صالح ولو كلفه ذلك مليون دولار، ولن يتركه يقضي عيد الفطر مع عائلته وأولاده!". فمن هو علي صالح، الرجل الذي أرعب "رجال تل أبيب"، وهو يقطن في الضاحية الجنوبية؟ سؤالٌ يطرح خلفه آلاف الأسئلة الصعبة، كان من أبرز أجوبتها العبوة التي انتظرته في الطريق، طريق بدأها منذ العام 1982 مع انطلاقة المقاومة الإسلامية، وانتظر خلالها اللحظة التي يغمضُ فيها عينيه شهيداً بين يدي الله، وهي اللحظة الوحيدة، بعد أكثر من واحد وعشرين عاماً، التي ارتاح فيها علي صالح. لم تتسع حياته حتى للقليل من الراحة، ولم يترك له عمله سوى مسافة صغيرة جداً لحياته الخاصة، والتي بدأها طفلاً في بلدة الحدث - بعبدا، يجمع الفتية من مسلمين ومسيحيين ليلعبوا سوياً، إلى أن شرذمتهم الحرب الأهلية، فغادرت العائلة إلى بلدتها "بريتال" لتستقر هناك. وبسبب الظروف الأمنية غير المستقرة في لبنان، لم يكمل علي دراسته، فبدأ بمساعدة والديه في العمل، دون أن يشغله شي‏ء سوى رضى والديه الذي كان أساس انطلاقته في الحياة.

لا شك أن البيئة الملتزمة التي تربّى فيها علي كوّنت منه شخصية إيمانية طاهرة تستقطب مَن حولها بأخلاقها الصافية، ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، صُقلت فيه الروح الإيمانية، وزرعت الثورة اللبنة الأولى للوعي السياسي والعسكري في عقله واستولى عليه عشق الإمام الخميني قدس سره، ما أوجد فيه ميولاً للاقتراب مما يجري على الأرض، فبادر والده عام 1980 إلى تطويعه في الجيش اللبناني ليبعده عن معترك الأحزاب من جهة، ولتأمين مستقبله من جهة أخرى، فأذعن علي لتلك الرغبة، ليس بهدف تنفيذ ما يصبو إليه والده، بل لأن الطريق لم يكن واضحاً بعد أمامه وسط تخبط سياسي وعسكري أفضى إلى تشكيل الخلية الأولى للمقاومة الإسلامية عام 1982 مع اجتياح العدو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، وهي الشرارة الأولى التي حملت علي إلى ترك كل شي‏ء دون أن يفكر لحظة، فهو يدرك تماماً ماذا ينتظر وماذا يريد، إذ كيف لروحٍ تنضح بالتمرد على الظلم أن تستكين في عالمٍ يمدُ فيه اخطبوط الظلم خيوطه؟ وهو الذي لم يعرف قلبه الضعف إلا بين يدي الله، كيف يمكن لروح حرة أن تعيش بين قضبان الذل تصفعها رياح الحسرة؟ فانطلق حراً ليكون مدماكاً أساسياً في مسيرة الجهاد التي واجهت في بداياتها رفضاً ونكراناً وغربة، بالإضافة إلى الملاحقة لاجتثاث جذور المقاومة التي كلما قطع منها فرع نبتت مكانه عشرات الفروع القوية، فخضع للعديد من الدورات الثقافية والعسكرية والأمنية العالية المستوى، التي أهلته بموازاة الإخلاص العميق الذي تميزت به شخصيته للعمل في العديد من الأماكن الحساسة. وبالسرية التامة التي بدأ فيها عمله الجهادي، أنهى حياته الجهادية، فلم يعلم أحد عنه شيئاً سوى أنه "مجاهد"، حتى زوجته التي كانت تحاول أن تشاركه همومه لتخفف عنه، لم يجبها إلا بطلب الدعاء المترافق مع ابتسامة متعبة ولسانه يعيد: "على الله"، على الرغم من أنها كانت وأولاده الصغار يساعدونه في نقل الذخائر والأسلحة، بعد أن لقّنهم أهم درس عسكري أمني في حياتهم: "لم ترَ، لم تسمع، لا تسأل..".

وإذا لم يمنح عمله الجهادي الفرصة لأولاده أن يكبروا أمام ناظريه لأنه الحاضر الغائب، فهو في مرات كثيرة كان ينظر إليهم بدهشة الشوق التي لم تفارق قلبه، ويتحيّن الفرص لقضاء بعض الوقت معهم، فيسأل عن أحوالهم ودراستهم، أو يرافقهم في نزهة تزيح عن كاهله الشعور بالتقصير أو "القصور" فيطفئ بحنانه الكبير شوقهم إليه.

وبين غيابه الدائم في العمل، والأوقات القليلة التي منحها لعائلته، تطوع في لجنة إمداد الإمام الخميني قدس سره ليكون في خدمة المستضعفين الذين وجدوا فيه الملاذ الدافئ والقلب الكبير المسارع لخدمتهم دون حاجة للطلب، فكان ينتقل من منزل لآخر في البقاع، ويركض من مغارة إلى أخرى على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، مشاركاً في العديد من العمليات العسكرية، والمهمات الجهادية، ملامساً بأطراف أصابعه حدود فلسطين المحتلة التي عاش عبق ترابها المخضل بالنجيع في مسامات كيانه.. "فلسطين" الجرح الممتد من الخاصرة إلى القلب، والحلم الساكن أحداق العين، والعمر المرهون بانتظار يوم الحرية التي بدأت طلائعها في 24 أيار 2000.

بعد اغتيال القائد الشهيد علي ذيب "أبو حسن سلامة" من قِبل عملاء الصهاينة في لبنان، أوكل إلى الحاج علي متابعة التنسيق مع الأخوة الفلسطينيين في موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي، ما اضطره إلى الانتقال وعائلته للعيش في بيروت. لم يحمل الانتقال معه الاستقرار والطمأنينة، بل القلق الدائم والغياب الطويل، وعلى الرغم من انه لم يسمح للعلاقات الاجتماعية أن تفرض نفسها في حياته المختزلة بالعمل، بالإضافة إلى كونه الرجل الذي لا يترك وراءه أي أثر، فلم يترك من المعلومات التي خبأها في ذاكرته سوى الرماد، صارت الملاحقة دائمة له من العدو الصهيوني، فكان يتوقع في كل لحظة الاغتيال، بل وينتظره بشجاعته المعهودة وقلبه المطمئن العاشق لله، ذلك العشق الذي ولّد علاقة قوية مع الله سبحانه وتعالى، وسعى بكل جهد وإخلاص إلى تمتينها، فواظب على العبادات والمستحبات لتكون نقطة انطلاقه في طريقه، وانتظر بشغف كل عام الليالي الأخيرة من شهر رمضان المبارك لينقطع فيها إلى محبوبه في اعتكافٍ يعيد من خلاله بلورة أفكاره ومشاعره، ومع كل صبحٍ يكون موعده مع الإمام الحجة عجل الله فرجه: "حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلا".

لقد تحوّلت أيامه إلى طرقات لا تنتهي، ووجهات سير لا يعرفها أحد.. والتعب الذي حطّ رحاله في قلبه والذي لم يؤثر على أدائه قيد أنملة بدأ يظهر في ملامح وجهه.. وبدأت الحسرة تقض مضجعه وهو يهيئ الشباب للعمل العسكري، ويرسلهم إلى الجهاد وإلى الشهادة، وهو لا يزال حياً.. الرجل الصامت جداً، بسيجارته التي تخفي تقاسيم وجهه بدخانها، أحس في الايام الاخيرة أنه مراقب بشدة، بل تأكد من ذلك، فعرف في قرارة نفسه أن لحظة الشهادة اقتربت.. استطاع عملاء الصهاينة مراقبة الحاج علي بالقرب من منزله، وانتظروه بغدرهم على قارعة الطريق، وهو يتوجه إلى عمله، وسيجارته بيده، وعيناه اللتان تنظران ببأس إلى الأمام تريان راية النصر ترفرف على قبة الأقصى، وهو يصلي صلاة النصر في القدس الشريف.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع