نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

جعبة مقاوم‏: وادي الليمون‏

هادي قبيسي‏

 



كان المساء قد بدأ يتمدد بطيئاً عبر الأفق، غير أنني لم أتأمل الغروب آنذاك. كنا، أنا وصادق، نسبق هبوط الظلام، نركض عبر القصب بجانب الساقية الضحلة التي غطتها أوراق القصب الطويلة اليابسة، وكان نقيق الضفادع الكثير يتردد في الوادي، وكانت تعترض طريقنا أغصان النباتات اليابسة السمراء.

وصلنا كرم الزيتون وقد دنا المساء وتضاءلت الرؤية، وكانت أشجار الزيتون واطئة ومتلاقية الأغصان فأحنيت ظهري ومشيت مشية العجوز التي أُجبرنا على تعلمها في التدريب، وعلى عجل وصلنا البركة الزراعية حيث ضجت الضفادع وتمادت رائحة عطر الليمون متخطية رائحة الطحالب الرطبة والماء المتعفن في البركة، دلفنا نحو بستان الليمون حيث سنمضي الليل. كانت الأشجار مثقلة بحبات الليمون والأرض مفروشة بما تساقط منها على مر الأيام، كما كانت ثمة حبات جديدة يانعة قد تساقطت باكراً، وكانت الأرض تبدو تحت ما تبقى من ذبالة النهار بيضاء من أثر زهور الليمون المتناثرة تحت الأشجار. كان الربيع مثقلاً بالعطور وكان نسيم المساء يهدهد الأغصان فتبعث عاصفة من عطر الليمون الدافئ المتدفق. جلسنا على الأرض، ألقيت ظهري على جذع وسقطت على رأسي زهرة ليمون، فأخذتها وشممت فوح عطرها ورحت أنزع أوراقها وأضعها على شفتي العليا وأتلمس دفئها مراراً وتكراراً، ثم استلقيت على الأرض وتأملت تساقط الأزهار وهمسها حين تلمس الأرض وسط الصمت الهائل، الذي لم يخرقه سوى نثار هدير النهر الذي تناهى إلى مسمعي.

كان صادق قد أخذ حبة ليمون يانعة عن الأرض وراح يقشرها بأصابعه، حملت رشاشي ومضيت نحو النهر، كانت ثمة بقايا من ضوء، وكانت بعض أشجار الحامض الصغيرة المتباعدة متناثرة بين بستان الليمون والنهر، وكانت مزهرة كذلك، ورائحتها أشد قسوة ودفئاً، وأغصانها أقل خضرة. غدت النسائم، مع اقترابي من النهر، أكثر برودة ورطوبة، وكان خريره يخترق هدأة الوادي، اقتربت من المياه، وضعت رشاشي إلى جانبي، واغترفت قليلاً وشربت، كانت المياه شديدة العذوبة، رقراقة، وباردة.

جلست على صخرة صغيرة، فيما كان الهواء يثير حفيف الشجر، ويرسل ما تبقى من رائحة زهر الليمون... ربما يقلق عليّ صادق، دقائق وسأعود، لن يقلق... وهذه المنطقة خلفية وبعيدة عن خط التماس، ليس هناك أحد، لو كان جنود العدو هنا لقتلوني قبل أن أصل النهر... استلقيت على ظهري، ممسكاً برشاشي، ورحت أتأمل بعض الغيوم التي كانت تتحرك ببطء في قلب السماء، فيما بدت من ثناياها النجوم شاحبة الضوء، وفي الأفق فوق قمم الجبال نحو الشرق، كان القمر قد بدأ يطل داكن اللون حائل الإصفرار، وكانت لما تصل بعد أنواره الليلية الزرقاء إلى الوادي، الذي بدا مغرقاً في الظلام، نظرت إلى الضفة الأخرى من النهر، كان صوت حفيف القصب يتخطى الخرير، وكانت الظلمة داكنة كأشد ما يكون... ليس هناك أحد في هذا المكان المقفر، ليس هناك سوى أشجار الليمون والقصب والحور... تناهت إلى مسمعي وشوشة كلام، أو ما بدا كأنه كذلك، تلفّت يساراً ويميناً، ربما كان ذلك بعض الحفيف، جثوت على ركبتي موجهاً سلاحي إلى الضفة الأخرى، تلفّت في كل اتجاه، ليس هناك سوى الظلام، الظلام الشديد...

جلست إلى الصخرة ورشاشي لم يزل موجهاً نحو الضفة الأخرى، وكنت أحاول جاهداً أن أحدق بين الأشجار والقصب دون جدوى، كانت عيناي قد زاغتا... ينبغي أن أعود إلى بستان الليمون، ولكن لو كان الجنود هنا فسيقتلونني بسهولة خلال عودتي، لأبقَ قليلاً هنا بين الأشجار. خطوتان خلفي، ثم فوهة بندقية لامست رأسي، ثم قال بعربية واضحة: لا تتكلم... ضع سلاحك على الأرض... أضع سلاحي أم أرفعه باتجاهه وأطلق النار؟ سيقتلني لا محالة... السلام عليك يا أبا الفضل العباس... وضعت سلاحي على الأرض. قال بصوت خفيض: إرفع يديك إلى الأعلى... ففعلت، ثم قال: ضعهما على رأسك... قف بهدوء.. بهدوء، سر أمامي. تقدمت نحو الماء، ثم عبرت النهر وهو يتبعني، وكان على الضفة الأخرى عشرة جنود آخرين، تقدم أحدهم وهو يضع نظارات ليلية على عينيه، وتحدث بالعبرية مع الرجل في الخلف، ثم سألني هذا: ما اسمك؟ فقلت: علي. من أين أنت؟ من النبطية.

هل أنت لوحدك؟
نعم، أنا لوحدي، كنت في الطريق إلى رفاقي.
أين هم رفاقك؟
هناك في الخلف، عند أطراف القرية.
جئت إلى هنا لوحدك؟
نعم، ليس معي أحد...
هل أنت من حزب اللَّه؟
نعم، أنا من حزب اللَّه.


مشينا طوال تلك الليلة، وحين أصبحنا بقرب أحد مواقعهم، ضربني أحدهم من الخلف بعقب بندقيته، فوقعت مغشياً علي. كانت تلك أول ليلة بين جنود العدو والعملاء. أمضيت النهار في غرفة صغيرة في الموقع، ثم ذهبنا بالسيارة إلى فلسطين، إلى سجن الصرفند، كما قال السجناء هناك.  أمضيت عشر سنوات هناك، غير أنني كل يوم، وقبل أن أنام، وبين جدران الزنزانة الرطبة والموحشة، كانت تتناهى إليّ صورة وادي الليمون وتلك اللحظات الأخيرة المفعمة بالعطور، وكنت أتذكر صادق، جهاد، حيدر... وكل الرفاق. صباح أحد الأيام، انطلقنا في رحلة العودة، فجمعت كل الرسائل التي وصلتني وكل تلك التي أرسلتها ولم تصل، وكل المذكرات التي حاولت كتابتها دون جدوى من الاستمرار فيها، حيث كانت كل أيام السجن متماثلة، وحملت ما تبقى من الملابس القديمة، وركبنا الحافلة، وكانت عبر النافذة تمتد أراضي فلسطين الجرداء، مع بعض القمم التي تكسوها الأحراج... وكنت تشعر بأن هذه الأرض امتداد طبيعي لأرض الجنوب. وصلنا المعبر، وقبعنا هناك حتى ما بعد الظهر. ثم تقدمت الحافلة ببطء، ومن بعيد، ومن خلف البوابة بدت الجموع محتشدة، ولما وصلنا إليهم توقفت الحافلة تماماً. أبصرت صادق، باكياً، يطرق على النافذة، ثم تعلق بالحافلة، وفتحت النافذة، فمد رأسه إلى الداخل، واعتنقني، وبكينا طويلاً. وبعد أيام، رحنا سوياً، نحو بستان الليمون، حيث كان جنود الصهاينة قد انسحبوا من الجنوب، وأمضينا النهار تحت تساقط الأزهار، وفوح العطور.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع