صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

الشهادة في وجدان الرسول صلى الله عليه وآله

الشيخ حسن فؤاد حمادة

 



لقد حاول البعض سواء عن قصد أو غير قصد أن يظهر صورة النبي محمد صلى الله عليه وآله على أنها صورة النبي الذي يعشق حمل السيف ويهوى القتل والقتال وسفك الدماء، وأنه النبي الذي أسس دينه بقوة السيف عبر الغزوات والحروب والجهاد. هذه صورة لا تُعبِّر مطلقاً عن الواقع وعن حقيقة هذه الشخصية المجاهدة والرحيمة، بل تسي‏ء إليها وإلى رسالتها العظيمة وتشوِّه المعنى الراقي للجهاد في الإسلام.

* حب الشهادة
فالجهاد في الإسلام الذي جسّده النبي صلى الله عليه وآله أروع تجسيد ليس فعل قتل وإماتة وسفك دماء لمجرد سفك الدماء، بل هو فعل حياة وإحياء وحجب للدماء وتأسيس لحياة طيبة تستند إلى القانون والشريعة العادلة المبنية على التوحيد من جهة، واحترام الإنسان من جهة ثانية. إن الجهاد في سبيل اللَّه عزَّ وجلَّ هو فعل دفاع عن التوحيد في العقيدة وفي العبودية وفي العمل، التوحيد الذي به يدرأ الظلم عن البشرية لتعيش العدالة في أوسع معانيها وأشمل مراتبها، فالجهاد في سبيل اللَّه ليس قتالاً وقتلاً للقتل والقتال، بل هو نتيجة مباشرة لحالة راقية من العرفان تبدأ بالإيمان بمبدأ الوجود وتوحيده، مروراً بخدمة الخلق والناس، وصولاً إلى تحقيق حلم المجاهد العارف باللَّه ألا وهو الشهادة والقتل في سبيل اللَّه. الشهادة التي تعبر عن حقيقة الجهاد وروحية العارف المجاهد الذي يمثل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله مصداقه الأعظم والأبرز. إن التناقض الذي حاول هذا البعض أن يسم به شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله عبر إلصاق صفة الجهاد بالمعنى الخاطئ بما لا ينسجم مع شخصية النبي العارف والرحيم والعطوف ينتفي بالتوجه إلى حقيقة أن الجهاد في سبيل اللَّه الذي كان يملأ شخصية الرسول الأكرم ليس فقط إنه لا يناقض تلك الصفات الرحيمية الإلهية، بل يمكن القول إن هذا الجهاد يعد شرطاً لازماً في تعملق وعظمة الشخصية الفذة والإنسانية للرسول الكريم صلى الله عليه وآله.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "إن الثورة في سبيل اللَّه هي التي حققت الغلبة لفرد واحد هو خاتم النبيين على كل العادات والعقائد الجاهلية، وألقت الأصنام خارج بيت اللَّه، ووضعت مكانها التوحيد والتقوى، وأوصلت تلك الذات المقدسة إلى قاب قوسين أو أدنى". إن حب الشهادة وطلبها لهو الدليل القاطع على أن الجهاد في الإسلام المحمدي الأصيل ليس إلا فعلاً إنسانياً بامتياز وتكليفاً إلهياً بالتمام، لا محل فيه للأنا والهوى وطلب الغلبة وقهر الآخر لمجرد القهر والغلبة. فحب الشهادة يعد العنوان الأبرز لصدق الجهاد في سبيل اللَّه، والجزء المكمل والمتمم له الذي لا يستقيم إلا به، فالمجاهد الذي يطلب الشهادة لا يمكن إلا أن يكون طلبه لها بدافع معرفة اللَّه والعمل لنيل رضاه وتحقيق أهداف دينه النبيلة، ولا يمكنه أن يضحي من أجل مجرد حب القتل ورؤية لون الدم.

* الجهوزية التامة للشهادة
في شخصية النبي صلى الله عليه وآله اجتمعت تلك الصفات في أعلى مراتبها البشرية حيث لا يلحقه لاحق فكان صلوات اللَّه عليه وآله المجاهد الذي لا يكل ولا يمل في سبيل اللَّه، والعارف الذي لا ينقطع عن اللَّه، والعاشق الذي يرنو نحو الشهادة ويطلبها في كل آن لتكون لحظة اللقاء بين الحبيب وحبيبه. وها هو الحبيب محمد صلى الله عليه وآله يقول: "لوددت أني أغزو في سبيل اللَّه فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل". وهو القائل عليه وآله الصلاة والسلام: "أشرف الموت قتل الشهادة". والقائل: "فوق كل ذي بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل اللَّه فإذا قتل في سبيل اللَّه عزَّ وجلَّ فليس فوقه بر". ورغم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله كان آخر الأنبياء والرسل وبدرجة كبيرة كانت الإرادة الإلهية في انتشار الهدى والدين الحق إلى يوم القيامة متعلقة بوجوده الشريف، غير أن تعلقه باللَّه تعالى وحبه للشهادة وعدم سماح شخصيته الفذة بأن يحيد نفسه عن الخطر وأن يبعدها بالتالي عن مواطن الشهادة والقتل مقدماً أصحابه أمامه، فإننا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله كان حاضراً على الدوام في الميادين والساحات والحروب والغزوات في معرض القتل والشهادة، بل وفي مقدم المقدم من الجبهة بحسب تعبيرنا الدارج. وتذكر لنا السير الأكيدة أن النبي صلى الله عليه وآله كان قد شارك في معظم الحروب والمواجهات الأساسية التي دارت بين المسلمين والمشركين سواء تلك التي انتصر فيها المسلمون نصراً بارزاً، أم تلك التي تعرضوا فيها للخطر وكانوا على شفير الهزيمة والخسارة المادية، ولعل أبرز المواقف الخطرة إن لم يكن أخطرها على الإطلاق هي في معركة أحد حيث يجمع المؤرخون أنه وفي اللحظات الحرجة من المعركة بقي النبي صلى الله عليه وآله وحده في المعركة وإلى جانبه علي عليه السلام فقط بعد أن سقطت مجموعة من الأفراد الذين كانوا يدافعون من حوله شهداء، وتعرض النبي صلى الله عليه وآله لعدة جراحات وطعنات حتى ظن الكفار أنهم نالوا منه صلى الله عليه وآله وقتلوه. يقول علي عليه السلام في صفة شجاعة النبي صلى الله عليه وآله وإقدامه: "كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللَّه صلى الله عليه وآله". ويروي أصحاب السير أنه سمع أهل المدينة يوماً صوتاً مخيفاً فأسرعوا إلى مصدره للدفاع فوجدوا النبي صلى الله عليه وآله عائداً للتو بيده السيف بعد أن كان سبقهم للاطمئنان والدفاع إذا لزم الأمر وأخبرهم بأن يعودوا ولا يفزعوا فقد انقضى الأمر.

* تقديم الخاصين للشهادة
كما كان الأمر بالنسبة لشخص النبي صلى الله عليه وآله حيث لم يحرص على استبقاء نفسه دون أنفس أصحابه والناس، فإنه لم يضن صلى الله عليه وآله بأهل بيته وأقاربه وخاصته، بل قدمهم إلى مذبح الشهادة ومواطن الخطر، فها هو النبي صلى الله عليه وآله يكلف أخاه وابن عمه علياً الاستشهادي الأول ليبيت مكانه في فراش الشهادة وكان يمكنه أن يكلف غيره، وهكذا نراه يقدم علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام في المباهلة والتي هي معرض افتراضي للخطر أقله بنظر بعض المرجفين والمنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين. وفي أُحد يقدم الحمزة عمه أسد اللَّه وأسد رسوله وواحداً من أركان الدفاع عن الإسلام الصاعد في عهده بعد وفاة أبي طالب حامي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. وفي مؤتة يقدم ابن عمه جعفر الطيار. وهكذا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله لم يبعد نفسه ولا أهله وأقاربه عن قلب دائرة الخطر ولم يحيّدهم عن الشهادة، كيف ذلك والنبي صلى الله عليه وآله لم يفتأ ينتدب علياً الذي هو نفسه وأخوه وابن عمه ووزيره لأعظم المخاطر والمواجهات، من غير أن يحسب للقتل أي حساب؟ فالقائد الإلهي لا يوفر نفسه وأهله فللبيت رب يحميه. لقد كان حب الشهادة عنده صلى الله عليه وآله دافعاً قوياً لهذه السياسة والممارسة الجهادية الفذة، يقول علي عليه السلام: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا احمر البأس واحجم الناس قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة".

* بشارة الشهادة
لأن النبي صلى الله عليه وآله كان الأشد معرفة بمقام الشهيد ومنزلته عند اللَّه كان صلى الله عليه وآله يبشر أصحابه وعوائل الشهداء بمستقبل الشهداء الذين يسقطون بين يديه، كما كان يظهر الحزن والأسى على بعض الشهداء بسبب فقدهم وخسارته لهم، لا سيما أولئك الأبطال الذين كانوا يملكون صفات رائدة جعلت من مقتلهم خسارة للإسلام والمسلمين، بل وحتى لشخص النبي صلى الله عليه وآله. ومثال أولئك حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله الذي استشهد في أحد حيث عبّر النبي صلى الله عليه وآله بشتى الوسائل عن حزنه وخسارته لأحد قادة الإسلام العظام، فأسماه سيد الشهداء وخصه بسبعين تكبيرة في الصلاة على جثمانه، وندب نساء الأنصار للبكاء عليه وكذلك. جعفر الطيار الذي أحزنت شهادته النبي صلى الله عليه وآله، رغم بشارته لعائلته وإخوانه بأنه من أهل الدرجة الرفيعة في الجنة، إذ أن اللَّه عزَّ وجلَّ أبدله بيديه المقطوعتين جناحين يطير بهما في الجنة. لقد كان القتل في سبيل اللَّه على الدوام وطلب الشهادة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار وأصحابه الأخيار سبيلاً إلى تبلور حركة الجهاد، وحافزاً للمضي في طريق الحق، ووسيلة إلى رفع الدرجات وتعملق الشخصية الإيمانية الجهادية، وها هو علي عليه السلام صهر النبي صلى الله عليه وآله وأخوه يقول: "فلقد كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيماناً ومضياً على الحق وتسليماً للأمر وصبراً على مضض الجراح".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع