نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قصّة قصيرة: أشواك الصمت‏

نسرين إدريس

 



خبر واحد جعله يستعيد كل ذكرياتهما في ومضة. ترك كل شي‏ء كما هو على مكتبه حتى سماعة الهاتف بقيت فاغرة الفم بعد أن سقطت من يده المرتجفة، وقد أطبق الصمتُ على جميع من حوله عندما خانتهم شجاعتهم في التقدم ليربتوا على كتفه، مكتفين بالنظر إليه وهو يتخبط بين دقائق الزمن قبل أن يحمل مفتاح سيارته منطلقاً صوب منطقةٍ حاصرتها قذائف العدو الإسرائيلي وسيطرت طائراته على سمائها كغراب البين. التهمت عجلات السيارة الإسفلت الساخن بنهم، وعيناه المحدقتان بالأمام المتسارع إلى الوراء تلمع فيهما دمعة جدلت حبلها الغليظ حول عنقه لتخنقَ فيه بقايا الحياة، والحقيقة تنفث في أذنه مرارتها: "سيرحل جواد دونك...".

امتدت يده ببطء إلى سلسلة فضية تحملُ حرزاً كان جواد قد أهداهُ إياها، وقد حمل هو أيضاً شبيهةً لها حول عنقه، واتفقا على أن يُبقي كل منهما السلسلة حتى آخر لحظة في حياته. لم يفكّر أي منهما في تلك الأيام إلا بهدف الشهادة سوياً، ربما لأن المكان الذي جمعهما لسنوات طويلة في المحاور المتقدمة؛ صلاة الجماعة والدعاء وتقاسم الخبز اليابس، وسلوك القادوميات الوعرة وتسلق الجبال والوقوع في الوديان، والجروح والتعب، والضحك والبكاء؛ والوعد بالشهادة معاً... الوعد الذي مزقت أواصره كلمات أنبتت مشاحنات اتخذ الصمتُ مسكنه فيها، وراح يتوسع مكانه مع الزمن... بعد كل تلك السنوات الجميلة، بعد كل ذلك التوحد الرائع بينهما، بعد الحلم الجميل بالرحيل معاً، لماذا كل هذا الجفاء؟! لم يسأل أحدهما الآخر هذا السؤال، ربما اكتفيا بالثرثرة الداخلية والغضب والسخط الصامت، واقتنعا بجواب أقبحَ من ذنبٍ عند التحدث بالأمر بين الأصدقاء "ليس ثمة شي‏ء البتة، خلاف بسيط وانتهى..." انتهى كل شي‏ء... لم يعد هناك داعٍ للحديث؛ فالفهم الخاطئ أنبت حشائشه البرية على ضفاف القلوب، وسيج شوك الصمت حديقة القلوب المكتفية بما يسمى ب"احترام المسافة"، وساهم انتقاله إلى مركز عمل جديد بالتخفيف من تأنيب الضمير المتعب، وربما نجح في أن يُغيب جواداً عن ذاكرة قلبه أياماً وشهوراً، ولكن ما لم يستطع أن ينكره، أن جواداً بقي في موازاة نبض فؤاده...

وصل إلى مركز الانطلاق، وأكد الإخوة هناك استشهاد المجاهد الذي دخل في مهمة استطلاع في غاية الدقة. انتظر الغروب وروحه ترزح تحت سياط اللوم الذي لم يعد ينفع، وما أن مدّ الشفق أنامله انطلق في الطريق التي حفظها كباطن كفه، لم يقبل أن يرافقه أحد لسحب الجسد الطاهر، بل ربما لم يسمع من كل ما قيل في المركز شيئاً، سوى إعلان موعد الانطلاق في طرقٍ وعرة صعبة. بُعيد منتصف الليل، وتحت شجرة خرّوب استلقى ضوء القمر على أوراقها، كان هناك جسدٌ يحتضن التراب بهدوء. لم يكسر صوت القذائف وهدير الطائرات وهي تدك المكان كأنها تريد أن تختزله من الوجود، رهبة المشهد، فاقترب ببطء ولاذ بالقرب منه. مدّ يده بهدوء إلى عنق الشهيد الذي محت الشظايا ملامح وجهه، ومرر أصابعه ببطء بين حبال الدم، آلمه أنه لم يجد السلسلة. عندها أغمض عينيه وأسلم وجعه لكفي القدر. في طريق الفجر ظلٌّ شريد، يتدلى من على كتفيه جسدُ شهيد كأنه زنبقة تطفو على وجه ماء بركةٍ من لُجين. ومسافة قصيرة قبل الوصول، الذي لم يكتمل إثر سقوط قذيفة قريبة منه أفقدته الوعي. انسابت حبات المياه الباردة على وجهه، وصوت سيارة الإسعاف يطن في أذنيه. فتح عينيه بصعوبة، كانت قدمه تنزف بشدة، وقد بدأ جرحه البارد يمدُّ آلامه في كل جسده. حمداً للَّه على السلامة... كان صوته. الرنة نفسها. أغمض عينيه ليتأكد من مكان تواجده؛ هل هو في الدنيا أم في الجنة؟! أو ربما على طريق الجنة مع جواد! شعر بيده تمرر أصابعها على جبهته، ففتح عينيه من جديد، وأدار رأسه، كان هو... جواد ببسمته الرقيقة، وقد اقترب منه وهمس في أذنه: لو أنك رحلت دوني، لضاقت الدنيا علي بمرارتها! سامحني أرجوك... لمح بين طيات الثياب السلسلة الفضية: إذاً من كان؟ وأين كنت أنتَ؟ حصل تبديل في اللحظات الأخيرة مع ربيع، كان علي تنفيذ عمل آخر... ألم يبلغك أحد؟! لا أدري... ربما. أغمض عينيه، وقد شعر بشوك الصمت قد يبس في دف‏ء شمس اللقاء. كلمة واحدة قد تكفينا لنكمل حياتنا دون ندم.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع