نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مقابلة: إضاءة على دعاء الندبة

حوار: منهال الأمين



"الدعاء سلاح المؤمن" كلمة شائعة، تجري على ألسنتنا بكثرة ولكن مصاديقها غالباً ما تكون غائبة عن الممارسة العملية، فيصبح الدعاء "سلاح الضعيف". إذ أننا نأوي إلى المسجد وتخشع قلوبنا بالدعاء هذا إذا خشعت عندما تضيق بنا الدنيا وتواجهنا المصاعب، بينما تجد أن المطلوب في أدب وفلسفة الدعاء، هو التقرب من اللَّه عزَّ وجلَّ، وقد قرن الإعراض عن الدعاء بالاستكبار، كما جاء في الآية الكريمة ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (غافر: 60) ودعاء الندبة بالتحديد هو من العوامل التي تقوي العلاقة مع صاحب العصر عجل له فرجه، فنحن بحاجة إلى تجديد العهد معه عجل الله فرجه كل يوم وفي المناسبات الكبرى (الأعياد الأربعة)، لأن حركته عجل الله فرجه هي تمهيد "للعولمة الحقيقية" على وجه الأرض، والمرتبطة بمسيرة الخلق منذ اليوم الأول (دحو الأرض)، وصولاً إلى إقامة الحكومة العالمية الموحدة، التي ستكون بقيادته عجل الله فرجه من هنا يكتسب الدعاء أهمية كبيرة من حيث أنه يعرض لتاريخ البشرية وبعث الأنبياء، حتى خاتم النبيين والرسالات محمد صلى الله عليه وآله، ومن ثم يشير إلى ما جرى على أهل البيت عليهم السلام، ليخلص إلى استصراخ الإمام المهدي عجل الله فرجه والتفجع على غيابه، وهنا سر الدعاء، التفجع لا للتفجع فقط، بل لاستنهاض الهمم وتصويب المسار في الحفاظ على العلاقة المحورية بصاحب الأمر عجل الله فرجه.

سماحة الشيخ حسين كوراني، من الذين وفقهم اللَّه تعالى منذ حوالي العقدين من الزمن (1986) لإحياء مراسم الدعاء كل صباح جمعة (وطبعاً في الأعياد) وبدون انقطاع حتى هذه الساعة، بمشاركة المؤمنين، الذين بالطبع كان بينهم المجاهدون وبعضهم التحق بقوافل الشهداء، وهذا بالتأكيد له قصة أخرى. فالدعاء معراج المجاهدين في كل زمان ومكان ومصدر إلهامهم. ولذلك كان هذا اللقاء مع سماحته ليلقي الضوء على الدعاء، السند والمضامين، وعلى التجربة وأثر الدعاء في مسيرة الجهاد:

* بالتحديد إلى من ينسب دعاء الندبة؟
طبعاً لا أحد ينسب الدعاء إلى غير المعصوم، إنما الإشكالية في الرواية، ففي الكلام عن السند بشكل عام هناك آلية معينة: عن المعصومين عن الرسول صلى الله عليه وآله عن الإمام العسكري عليه السلام. وهناك آلية أخرى بسند الرواية عن الإمام الحجة عجل الله فرجه. نجد في بعض الروايات اشتراكاً في هذه الآلية، بين ما روي عن الإمام الحجة عجل الله فرجه وما روي عن الإمام العسكري عليه السلام. ففي آخر عهده عليه السلام كثر استعمال كلمة الناحية (المقدسة). وهذه الكلمة كانت مستعملة سابقاً من قبل الأئمة المعصومين عليهم السلام ولكن بشكل قليل جداً. وذلك باعتبار أن الوضع الأمني يقتضي استعمال تعابير مختلفة: كالناحية والغريم والعالم وقد انتشر مصطلح الناحية بشكل كبير مع بدء فترة إمامة الحجة عجل الله فرجه. هاتان الطريقتان في التعاطي مع السند تتبعان منهجاً واحداً وهو المنهج العقلي العلمي في تحديد مرتبة السند ومدى قبوله أو عدمه، وكذلك معرفة الأشخاص والرواة وتوثيقهم بحسب درجة الوثاقة المختلفة. ولكن ما ينقل عن الناحية يقتضي أن لا نجد فيه تعبير "عن الإمام" أو "قال الإمام"، فهذا نجده في الطريقة الأولى (عن المعصومين عليهم السلام عن الرسول صلى الله عليه وآله). أما بحسب الطريقة الثانية فنجد تعبير "خرج من الناحية"، ولا يصح التفريق بين الأمرين، فالنتيجة واحدة، لأن المنهج العلمي واحد. بناءاً على ذلك نجد أن هناك عدداً من العلماء الأجلاء المعتمدين، وهم في أعلى مراتب الإيمان والالتزام، تتردد أسماؤهم فيما خرج من الناحية المقدسة، ويقصد بها الإمام المهدي عجل الله فرجه. دعاء الندبة هو في الرعيل الأول من الروايات التي خرجت من الناحية المقدسة.

* من هم هؤلاء العلماء الأجلاء المعتمدون؟
نجد أن الشخص الأول الوارد اسمه في رواية دعاء الندبة هو الشيخ أبو جعفر البزوفري رضي الله عنه، والثاني هو الشيخ أبو فرج بن أبي قرة رضي الله عنه، وينقل عن هذا الأخير العلامة المشهدي صاحب كتاب "المزار الكبير" المعروف والذي أخذ عنه العلماء، والشيخ ابن أبي قرة هو من مشايخ النجاشي، وكان كتابه موجوداً عند سيد العلماء المراقبين السيد ابن طاووس، وقد أورد رضي الله عنه دعاء الندبة في كتاب "الإقبال"، وقد أكثر من النقل عن كتاب ابن أبي قرة، رغم أنه لم يصرح بنقل دعاء الندبة عن كتاب الأول بالتحديد. باختصار، وعلى العكس مما يشاع، فإن سند دعاء الندبة على درجة عالية من الوثاقة، ولا ينبغي التشكيك به إطلاقاً. وهناك ميزة للدعاء لم يعرف بها غيره، وهي أنه يقرأ في الأعياد الأربعة، نفس هذه الخصوصية تعطي مكانة متميزة للدعاء. وقد اهتم به علماؤنا الكبار عبر القرون، من حيث المواظبة على التقيد به أو من حيث الشروح والتآليف التي وردت حوله. وقد دخلت عبارات الدعاء، كركيزة من ركائز إغناء ثقافة المؤمن، بحسب ما يدل عليه خط العلماء، كالإمام الخميني قدس سره الذي أكثر من استخدام عباراته في مجمل كتبه، كذا الفيلسوف الكبير السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان، وقد نظم الشيخ الغروي بعض معانيه شعراً في ديوانه القيِّم "الأنوار القدسية"، فهو إذاً من التراث الإسلامي المسلَّم به عند علمائنا الكبار.

* ما هي المفاهيم الرئيسية التي يرسخها الدعاء؟
نحن أمام دعاء الندبة نجد أنفسنا بين يدي نص لا نظير له في باب التمهيد "للعولمة الأصيلة"، التي بدأ التمهيد لها مع "أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً". فهناك حقيقة ثابتة ينبغي الوقوف عندها، وهي أن سر الخلق مرتبط برسول اللَّه صلى الله عليه وآله، واكتمال دورة الزمن على وجه الأرض، وكذلك الحشر إلى اللَّه عزَّ وجلَّ مرتبط به صلى الله عليه وآله وبأهل بيته عليهم السلام. هذه الحقيقة متفق عليها بين المسلمين، كذلك تحقق الإجماع حول عالمية الإسلام، وعلى وجود المهدي المنتظر في آخر الزمان. مع الإشارة إلى أن الذي غير المفهوم اتجاه حركته عجل الله فرجه (ولو من حيث الشكل) هو الاختلاف السياسي والحركة المشبوهة لوعاظ السلاطين ورواة البلاط في العصور الإسلامية المتعاقبة. وكما أسلفنا فإن دعاء الندبة هو دعاء يتناسب مع حركة "العولمة الحقيقية" على وجه الأرض، هذه العولمة التي كانت حاضرة قبل الخلق، وبدأت بعض مراحلها مع دحو الأرض من المكان الذي تحت الكعبة المشرفة. وتستمر رحلة البشرية على الأرض إلى أن يظهر الإمام المهدي عجل الله فرجه في أول بيت وضع للناس، حيث يعلن بدء المسار لاتجاه إقامة الحكومة العالمية الواحدة، دعاء الندبة هو التمهيد الواضح لهذه العولمة الأصيلة.

* هناك سرد تاريخي واضح في دعاء الندبة، ما الهدف منه؟
يبدأ الدعاء بالتركيز على مسيرة النبوة، فيستعرض بشكل موجز ومجمل ما يعزز علاقة الموحد ببدء حركة التوحيد، ثم ينتقل إلى المحور الأساسي وهو العلاقة بالرسول صلى الله عليه وآله، باعتبار أن موقعه صلى الله عليه وآله من منظومة النبوة ليس موقع الشمس فحسب إنما هو موقع الماء والهواء والنور من الحياة والوجود. وهذا أبسط مقتضيات من لولاه لم يخلق اللَّه آدم ولا غيره من الأنبياء، وأن أي نبي لم يبعث إلا بالإقرار بنبوته صلى الله عليه وآله، وهو أيضاً أبسط مقتضيات الاعتقاد بأنه صلى الله عليه وآله هو الشاهد على الأمم. المحور الثالث في الدعاء يتحدث عن أهل البيت عليهم السلام، وقد جاء بالطريقة التي تتناسب مع عالمية دعاء الندبة، فتناول مصيبتهم عليه السلام والظلم اللاحق بهم بأسلوب لا يجعل قراءة الدعاء على الملأ فيها شي‏ء من الحساسية أو تثير الإشكاليات. ثم ينتقل إلى محور خاص بشهادة أمير المؤمنين عليه السلام باعتبار أنه امتداد طبيعي للرسول صلى الله عليه وآله، وتضمن كذلك إشارات إلى ما جرى عليه عليه السلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله بذكر حديث "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" وما فيه من إشارة مبطنة إلى نقض البيعة والإنقلاب على الأعقاب. ثم يفرد بعض الفقرات لحادثة كربلاء، بإشارات موجزة وبدون تصريح (قتل من قتل وسبي من سبي...). من خلال هذه المحاور نجد أننا قطعنا مسافات كبيرة من شأنها أن تقوي علاقة المسلم بجوهر التوحيد، وهو الإسلام المحمدي الأصيل، إلى أن ينتهي إلى محور الإمام المهدي عجل الله فرجه، والحديث معه ينضح بحمل هموم الأمة والمسلمين؛ والدخول إلى معترك العلاقة معه عجل الله فرجه والندبة إليه ودعوته واستصراخه للظهور "أين المؤمل لإحياء الكتاب والحدود أين حاصد فروع الغي والشقاق أين مستأصل أصل الفساد والتضليل والإلحاد...".

* علام يدل هذا النوع من الخطاب؟
هذا يكشف أن المؤمن وهو ينادي إمامه وصي الرسول صلى الله عليه وآله، ليس معتزلاً للحياة، إنما هو في قلب المعترك، ويستصرخ إمامه للظهور وتحقيق الأهداف الإلهية المنشودة في إصلاح الأمة وإحقاق الحق ونشر العدالة والمساواة.

* الحسرة والبكاء والندبة، هل هذه عناوين مرتبطة بالتراث الشيعي "الحزين"؟
دعاء الندبة لا مورد فيه للتفجع، فالإمام عجل الله فرجه حي، فنحن من خلال الدعاء ندعوه وندعو له بالفرج، فلو سلمنا أن الندبة بمعنى الحزن (وهذا فيه كلام كثير) هذا يلتقي مع أصل أن جانب الحزن هو جانب تعبوي، باعتبار أن مسيرة الحق عبر القرون منيت بفجائع من الباطل، فمن الطبيعي أن الواقف مع الحق، هو في حالة تفجع لغلبة الباطل على الحق.

* ماذا عن تجربة المجاهدين مع دعاء الندبة؟
إن وصايا الشهداء وأحاديث المجاهدين توضح بشكل جلي كم كان حضور دعاء الندبة قوياً في بناء شخصياتهم الإيمانية وتعزيز علاقتهم بالإمام عجل الله فرجه، فقد انتشرت عبارات وكلمات الدعاء على كل لسان، وصارت جزءاً من أدبيات وثقافة المقاومة التي تأثرت وترتبط ارتباطاً وثيقاً بحركة الإمام المهدي عجل الله فرجه. فدعاء الندبة يُشعر المؤمن بأنه يعيش في قلب المعركة، على اعتبار أن المؤمن يعبر بقراءته للدعاء عن حمل هم الأمة، وينتظر إمامه ليحارب، وليطالب بدم المقتول بكربلاء فبناء الدعاء للمؤمن بناءاً توحيدياً يجعله يشعر بدرجة عالية من الانتماء لخط التوحيد منذ بدء الخليقة، التي وجدت ببركة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، والمتواصلة حتى ظهور الإمام عجل الله فرجه وانتهاء غيبته. هذه الميزة من التواصل والعلاقة يكاد لا يكون لها مثيلٌ في دعاء آخر فهذه العلاقة كان لها الأثر الكبير في المجال الجهادي والعملي، باعتبار أن العلاقة ليست مرتبطة بالوقت والمدة، بل هي في وعي أن هذا الحق الذي اغتصب عبر القرون لم تفقده السنون المتعاقبة وهجه وبريقه، والمجاهد يعلن انتماءه إلى هذا الحق، وهو مستعد للدفاع عنه والجهاد في سبيله. فدعاء الندبة هو رفيق المجاهدين ولا شك على الثغور وفي المحاور وعلى جبهات القتال.

* هل يعد دعاء الندبة دعاءاً مهملاً؟
بالتأكيد نحن مقصرون في التعامل مع دعاء الندبة، والسبب أن هناك خللاً في البنية الثقافية ينبغي للإسلامي الوقوف عندها، هذا الخلل متمثل في تحييد ما لا ينسجم مع روح العصر، هذا التحييد يصل إلى الخطف والحذف. فكل ما يرتبط بالغيب يحيَّد شيئاً فشيئاً من الخطاب اليومي، بسبب عدم تقبل أهل العصر له. هناك انتقاء ثقافي، عبارة عن تحدٍّ أمام الإسلاميين، أن لا نقع في الخرافة الأكبر وهي عبارة عن اعتبار الغيب خرافة. المطلوب هو التوازن والتعاطي مع الحقائق كما أراد لنا ذلك المعصوم، ولا نبحث عن الأمور التي تقوي علاقتنا بالدنيا وبالتالي تضعف علاقتنا بالإمام عجل الله فرجه. وهناك إشارة مهمة، أننا إذا صرفنا النظر عن سند دعاء الندبة ووقفنا عند المضمون، نجد أنها ضرورة لنا ولبناء ثقافتنا بالعلاقة مع صاحب العصر عجل الله فرجه هذا استحقاق موضوعي ومنطقي، إهمال الدعاء هو إهمال للعلاقة بالإمام عجل الله فرجه ولم يحظ دعاء الندبة حتى الآن بالاهتمام اللائق به وبأهمية وبدلالة ارتباطه بحركة الإمام المهدي عجل الله فرجه.

* ماذا عن قراءة الدعاء عند القبور؟
هذا مرتبط بأمر غاية في الأهمية، وهو أن النصوص الإسلامية تلتقي بوضوح عند محورية ذكر الموت في بناء الشخصية الإيمانية، فمن ينسى الموت لا يمكنه أن يكون متديناً، ومن أبرز الأمور فعالية في ذلك زيارة المقابر، فإذا جمعنا بين هذا الأصل ودعاء الندبة الذي يمثل الأولوية في باب تعزيز العلاقة مع الإمام، فإن النتائج ستكون نوعية، وهذا ما ثبت من خلال التجربة كذلك فإن ختم دعاء الندبة بمائدة من الطعام، يساهم في تعزيز روح الأخوة، خاصة في المدينة التي تعاني من تفكك كبير في اللحمة الاجتماعية.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع