صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

مع القائد: ميزان العدالة في صفات علي عليه السلام


إنّ حياة أمير المؤمنين عليه السلام أشبه ما تكون بمحيط لا يتيسّر للمرء الإحاطة بكل آفاقه بنظرة واحدة أو حتى عبر دراسة طويلة؛ فمن حيثما تنظر إلى هذه الشخصية تجدها تنطوي على عجائب جمّة، ولا مبالغة في هذا أشير إلى خصلة تتصف بها حياة أمير المؤمنين عليه السلام أعبر عنها بتوازن شخصيته. كان أمير المؤمنين عليه السلام أعجوبة في اتزانه الشخصي، صفات متضادّة ومتخالفة قد اجتمعت في شخصيته بشكل جميل، حتى أضحت بذاتها وجوداً جميلاً. لا يجد الإنسان مثل هذه الصفات قد اجتمعت في أحد، لكنها قد اجتمعت في أمير المؤمنين عليه السلام بكثرة وسعة.

* الرأفة والحزم‏
هناك مثلاً الرأفة والرقة وهي لا تنسجم مع الحزم والصلابة. لكن عطف ورأفة ورقة أمير المؤمنين عليه السلام كانت حقاً في ذراها العليا التي قلما يبلغها إنسان عادي. فالذين يساعدون المساكين ويتفقدون العوائل الفقيرة كثيرون، إلاّ أنّه الشخص الوحيد الذي كان يؤدي هذا العمل في عهد وفترة حكومته واقتداره وتسلطه. لم يكن يقتصر على تقديم العون المادّي فحسب بل يذهب إلى هذه العائلة، ويتحدث مع هذا الشيخ، ويجلس مع هذا الضرير، ويلاطف هذا الصغير ويأنس بهم ويدخل البهجة إلى قلوبهم ويقدم لهم العون. هذه الرأفة والرقة في شخصية أمير المؤمنين جعلت إحدى الشخصيات الكبرى في ذلك العصر يقول: طالما رأيت أمير المؤمنين عليه السلام يطعم اليتامى العسل بإصبعه حتى لوددت أن أكون يتيماً.

وفي قضية النهروان حين عزم جماعة من المتعصبين وذوي الفهم الخاطئ على زعزعة حكمه لأسباب واهية كان ينصحهم ويحاججهم ويرسل لهم الرسل والوساطات، ويقدم لهم العون، ولكن من غير جدوى. وفي ختام المطاف، وحتى حينما اصطف الجيشان للقتال قدم لهم النصيحة وأرشدهم ولكن لما لم يكن جدوى قرر انتهاج الحزم، فأعطى الراية لأحد أنصاره وقال: كل من انضوى تحت هذه الراية إلى الغد فهو آمن، أما البقية فلهم السيف. كان عددهم اثني عشر ألفاً فانضم ثمانية آلاف منهم تحت الراية. وبقي منهم أربعة آلاف يصرّون على مقاتلته فلما رأى إصرارهم على قتاله عزم على قتالهم، وأخبرهم انه لن ينجو منهم عشرة. فحاربهم واقتتلوا وأهلك الباقين أجمعين. لاحظوا كيف تجسدت هذه الخاصية في أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الشكل الجميل؟ مع ما أوتي من تلك الرأفة نراه يقف بصرامة إزاء فئة منحرفة تنتهج أسلوباً مقيتاً وملتوياً وتقتل الأبرياء.

* الحكومة والورع‏
المثال الآخر هو ورعه وحكومته. الورع يعني اجتناب كل ما يحتمل فيه الكراهية. ولكن كيف ينسجم هذا مع الحكومة؟ هل يتسنى للإنسان أن يكون ورعاً إلى هذا الحد وهو في الحكم؟ فنحن الآن في الحكم نشعر بأهمية وجود مثل هذه الخصلة لأنّ الإنسان وهو في الحكم يتعامل مع قضايا عامّة وينفّذ قوانين، ولكن قد يكون في هذا القانون ظلم لإنسان في مكان ما. والشخص المكلف بتنفيذ القانون بشر أيضاً وقد يسي‏ء تطبيق القانون. فكيف يتأتى للمرء التزام الورع في كل هذه التفاصيل الجزئية التي تستعصي على الإحاطة بها ؟ لهذا يبدو في الظاهر أن الحكومة والورع لا يجتمعان. إلاّ أن أمير المؤمنين جمع غاية الورع مع أقوى حكومة. وهذا مما يثير العجب. لم يكن يجامل أحداً؛ فإذا استشعر من والٍ ضعفاً وأحس أنه لا يناسب هذا العمل عزله.

* القوة والمظلومية
المثال الآخر هو قوّته ومظلوميته. هل كان ثمة رجل في عصره أقوى منه، أو له مثل تلك القوة الحيدرية؟ لم يتحدَّ علياً أحد ولم يجرؤ أحد على ادعاء ذلك حتى آخر حياته. نفس هذا الإنسان كان أكبر أهل زمانه مظلومية والأكثر ظلامة منهم. بل ويقال وهو قول صحيح لعله أكبر إنسان مظلوم في تاريخ الإسلام. إن القوة والمظلومية شيئان لا يجتمعان؛ فالمتعارف أن الأقوياء لا يُظلمون، غير أن أمير المؤمنين عليه السلام ظُلم.

* الزهد والإعمار
المثال الآخر هو الزهد والإعمار، فأمير المؤمنين عليه السلام كان مثلاً في زهده وإعراضه عن الدنيا، ولعل أبرز أو أحد أبرز مواضيع نهج البلاغة هو الزهد. وهو في نفس الحال كان طوال فترة السنوات الخمس والعشرين بين وفاة الرسول وتسلّمه الخلافة ينفق من ماله الخاص في أعمال العمران، فكان يزرع البساتين ويحفر الآبار، ويشق الأنهار، والمدهش انه كان يتصدق بكل ذلك في سبيل اللّه. لا بأس أن نعلم أن أمير المؤمنين كان أكثر الناس عائدات في عصره، وقد نقل عنه انه قال: إن صدقتي لو وزعت على بني هاشم لوسعتهم. لكن هذا الإنسان الثري كان يعيش حياة فقيرة على أشد ما يكون من الفقر؛ لأنه كان ينفق كل تلك الثروة في سبيل اللّه.

* العدل‏
المثال الآخر هو عدل علي بن أبي طالب. حينما نقول إنّ علياً عليه السلام كان يتصف بخصلة العدالة يتبادر إلى الأذهان انه أقام العدالة الاجتماعية بين الناس. وهذا صحيح، إلاّ أن العدل الأسمى هو الاتزان "بالعدل قامت السموات والأرض"، أي التوازن في الخلقة. وكلمة (الحق) تعطي نفس هذا المعنى. فالعدل والحق هما في نهاية الأمر شي‏ء واحد، ولهما معنىً واحد وحقيقة واحدة. وكل خصائص أمير المؤمنين عليه السلام مظهر للعدل والاتزان فكل ما هو جميل تجده قائماً في موضعه المناسب وفي غاية الجمال.

* الاستغفار
من الخصائص الأخرى لدى أمير المؤمنين عليه السلام الاستغفار؛ إذ كان للدعاء والتوبة والإنابة والاستغفار حيّز واسع في حياة أمير المؤمنين. فهو عليه السلام كان يقاتل ويعبئ الجيوش، ويسوس شؤون دولة كانت تعتبر من أكبر الدول يومذاك وقد حكمها مدّة تناهز خمس سنوات فالدولة التي حكمها كانت تضم حوالي عشرة بلدان وهذا السلطان الواسع بكل ما يستلزمه من جهود ومساعٍ كان أمير المؤمنين يديره بكل جدارة، إضافة إلى ميادين الحرب وإدارة الشؤون الاجتماعية للمسلمين، والقضاء بين الناس والمحافظة على حقوق أبناء المجتمع، كانت أعمالاً كبرى ومهمة وتتطلب عملاً ومثابرة وتستحوذ على وقت الإنسان برمّته. وفي مثل هذه المواقف يقول الإنسان المحدود ببعد واحد: إنّ دعائي وعبادتي هو هذا، فأنا أعمل في سبيل اللّه لكن أمير المؤمنين لم يقل هذا، بل كان يؤدي تلك الأعمال، ويعبد أيضاً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع