صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

قصة قصيرة: قطر الندى‏

ح.ز

 



حدقت بشقيقتها بصمت، وتقطيبة ما بين الحاجبين تظهر عمق ما تعانيه من توتر، لطالما احتملت الآخرين مداراة وصبراً، وحاولت وأد تزلفهم والثرثرة بالابتسام، إلا أن هدوءها الرحب ذاك دفعهم للإيغال أكثر فأكثر في الكلام. لم تكن قطر الندى يوماً ضعيفة، بل إن صلابتها والعزيمة كانتا مثار الإعجاب، لم تكن انفعالية الموقف والحديث، وسلاسة انتقاء العبارة والرد زينت لقاءاتها والأصحاب، غير أنه وبعد استشهاد زوجها أضحت أعيى عن وقف ما تراه من شفقة العيون حولها، أو إسكات جوفية الكلام المتردد على مسامعها، أو تهدئة اندلاق عواطف المحيطين بها، العيون نفسها، العبارات نفسها، الترديدات هي هي والأسف، وعلى ماذا؟

لم تكن زوجة أول شهيد ولا آخرهم، لحمها لحمهم ودمها دمهم والمشاعر والأحاسيس، يرهقها ويرهقهم عدم إحساس الآخرين بهم، واعتبارهم ظلاً رديفاً أو خيالاً، أو ذيل ثوبٍ بالٍ عصف به الدهر ورماه إلى النسيان والإهمال والذكرى، مجرد ذكرى لكائن كان ورحل مع رحيله. لم تطل قطر الندى صمتها، وبهدوء الواثق قالت: تدرين يا أختاه، كثيراً ما ساءلت نفسي عن سبب زواجي به، كنت أعلم خطورة عمله، وسعيه للاستشهاد بين يدي اللَّه (جلَّ وعلا)، كان بمقدوري كما الأخريات الإقتران بمن يؤمّن لي هناءة العيش ورغد الحياة، ومن أحيا معه بدعة واطمئنان، غير أني وجدت ذاتي على مفترق طريقين، معه ورضوان ربي، أو دونه ومرضاة نفسي، فاخترت محبة اللَّه لي على محبتي لمباهج الدنيا وأهلها. ولو تدرين يا أختاه كيف كنّا، وأيامي وانتظاره، والخوف عليه يأكل حشاي، والقلق يعصف بكياني مع ساعات العتمة والحيرة، محاولة إسكان فؤادي بالتسبيح والدعاء، أقاسي وحدي طول ليلي والصبر؟

لست أدري، ما أدريه مرور الدقائق عليّ كحجر الرحى فوق أضلعي، وكم أيقظت الفجر من نعاسه بالصلاة والتكبير أياماً وأياماً وأياماً، ونهاري دونه موحش كأنما خلت الدنيا من ساكنيها، وصبرت وإيماني يخفف ما بي، حتى إذا ما عاد إليّ وثبت روحي من سجنها، وقرقرت نفسي كما الطفل الصغير إذ يعود إليه أبوه، كان أبي وأخي وصديقي وزوجي، وكنت في لقياه إنسانة أخرى تولد كل مرة مع قدومه، ولا أدري إن كان أحد ذاق حلاوة الهناءة كما ذقناها، ودف‏ء الإيمان كما فعلنا، وطهارة الحبّ الطاهر كما أحببنا، كنت أمه وأخته وصديقته وزوجته، حملت عنه مشاغل الحياة وحمل عني السعي في سبيل اللَّه، لم أشعره يوماً أن هناك شيئاً أهم من جهاده، ولما رزقنا بولدينا بات عليّ أن أكون امرأة في عواطفي وانتظاره، ورجلاً في مواجهة الحياة، وهو أمر دونه عزم الجبال، واصطبرت وأنا أعلم أن الطريق إلى اللَّه سبحانه طويل طويل. وتسألين يا أختاه عن سرِّ غضبي، لقد استشهد رحمه اللَّه وبات في جنان ربه، أما أنا فأستشهد بعده كل يوم، كأن وجودي رحل مع رحيله، وبتُّ صفة مجردة ليس إلا سكنها الماضي، زوجة شهيد، نعم وذاك فخر لي، غير أنني ما زلت حيّة بعده، أحمل إرثه، روحه، أمانيه وجهاده، ولو قدر لي حمل السلاح لألتحق به لفعلت، لا بل لو سُمح لي لكان ذاك مناي ولا تطويني غفلة الزمان، هو ما زال بي، بروحي ودمي وكل هذا الإيمان العابق في فؤادي، هو أنا وأنا هو أقلّه لِيَدَعُوني أكمل مسيرته!

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع