نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

أمراء الجنة: الشهيد المجاهد عبد اللَّه حسين قاسم‏

 

 

نسرين إدريس



اسم الأم: روزة سرور
محل وتاريخ الولادة: عيتا الشعب 2-10-1967
الوضع العائلي: عازب‏
مكان وتاريخ الاستشهاد: الناقورة 18-6-1991

أفصحَ الرصاصُ عن صمته الطويل، وعيناهُ اللامعتان بسطور الحقيقة تمعنان النظر بين خيوط الظلام في عيونهم التي ضاعت في كلمات ومواقف سنوات طويلة كذّبتها لحظة واحدة.. إنه هو، ومن لا يعرفه في كل مناطق بنت جبيل؟! من لا يعرفه في جيش لحد؟! وذلك الرشاشُ الذي أمطرهم بالرصاص، دليل واضح على أنه هو "عبد اللَّه قاسم"، وتلك البسمة الساخرة التي طالما أضحكتهم، هي الآن أكثر سخرية وتضحك عليهم، قبل أن يضج الصمتُ من جديد، ويتركَ لبحر الناقورة تلاطم أمواج الغضب، وقد عانق الزبدُ أطراف التراب الندي بالدماء..

إنه هو، ابن بلدة عيتا الشعب، ربيبُ مسجدها، ورفيقُ ساحاتها، وكلمة الحق في زمن الباطل. قد يكون مستغرباً للجميع أن يلتحقَ عبد اللَّه بصفوف جيش العميل لحد، لأنه وليد منزلٍ الدينُ فيه مقياسُ الحياة، فنشأ عارفاً بالشريعة، مُطبِّقاً لحدودها، ولم تسمحْ له أيام الظلم إبان الاجتياح الإسرائيلي ثم الاحتلال المرير، بحياةٍ واضحة المعالم، فالخوف والاضطهاد والقتل والدمار، كانت خبز الحياة المريرة. كان يعود من المدرسة ويساعد والده في محلِّ النجارة، ومن بين نثرات الخشب يرمقُ بنظراته الحادة عناصر الجيش الصهيوني وجيش العملاء، وهم يروحون ويجيئون في البلدة كأنها أرضهم، وعندما يرتفع صوت الأذان، يتوجه إلى المسجد وهو ينظر إليهم شزراً، قُبيل أن تعانق أهدابه حدود المحراب. قلّب عبد اللَّه أياماً طويلة بين كفيه، وانتظر أن يشبَّ قليلاً ليغادر قريته، فروحه كانت كعصفور في قفص صغير، وهو أراد لها أن تعيش الحرية بكل أبعادها، الحرية التي بدأ مجاهدو المقاومة الإسلامية بكتابة أولى سطورها. لا يستطيع المرء العارف بماهية الحياة أن يعيش دون قضية. ومن آمن بقضيةٍ عليه أن يدافع عنها، ويثبتها، ويضحي في سبيلها، فكيف إذا ما كانت هذه القضية، ديناً ووطناً وشعباً؟!

لا غرو حينها أن الأرواح ستكون في مقدمة التضحيات. وقد أدرك عبد اللَّه أن الخوف القابع في نفوس الصهاينة يفوق أضعافاً مضاعفة خوف الناس الضاغطة على قلوبها. وعرف أيضاً أنه لا بدّ من الرحيل، حتى إذا ما أراد العودة كان الليل قارب عبوره من جديد. كلما سقطَ شهيد، تعرشت في قلب عبد الله بذرة التمرد على الواقع، وصار رفضه للحياة التي يعيش يظهر في فلتات لسانه، في زمن كانت الجدران تخبرُ بما يجول في بيوت أصحابها. ولكن عبد اللَّه صاحب الروح المرحة لا يلبثُ أن يمزج بين الجدّ والمزاح حتى لا يجد سامعه بداً من ضحكة طويلة. ولاح سن العشرين على مُحياه، والفرصة التي ينتظرها للخروج من مكانه غائبة في غدٍ مجهول، والصبرُ المرير يقبعُ في لحظة انتظارٍ طويلة، هزها مشهدُ القوات الإسرائيلية وهم يأسرون أخاه. لم يستطع أحد فعلَ أي شي‏ء أمام المشاهد المتكررة من الاعتقالات، فجأة تعبر السيارات العسكرية، وبداخلها خليط من الصهاينة والعملاء، ويتوقفون أمام منزلٍ سرعان ما يأسرون منه الرجال والشباب، يغطون رؤوسهم بأكياس سوداء، ويغادرون تاركين خلفهم نساءاً تولول وأطفالاً تركض في محاولة يائسة للحاق بهم.

مرّت الأيام الأولى على اعتقال أخيه وزجه في معتقل الخيام كأنها لسعاتٌ من سياط فوق جراحٍ نازفة، ألحقتها طَرقات مرعبة على البابِ، لاح خلفه وجه مسؤول أمني أبلغ عبد الله أن اسمه ورد في لائحة المطلوبين للتجنيد الإجباري في جيش العميل لحد. لم يعرف عبد اللَّه ماذا يفعل، تمنى في تلك اللحظة أن يتوقف قلبه عن الخفقان. نظر إلى عيني أمه الدامعتين، وعاد ليهدأ بين ذراعيها ويتمنى لو أن بطنها لم تنجبه! لقد عاش عمره على أمل حمل البندقية ليحارب بها عدوه الأوحد "إسرائيل"، ولم يخطر على باله يوماً أن هذا العدو قد يجبره على حمل البندقية ضد أهله وأبناء شعبه! وكان لا بد من قرار، فالخروج من القرية مستحيلٌ، والقبول بالمصير الذي كتبوه له أصعب من تجرع سمّ زعاف، فهو لم يتصور نفسه أن يكون خائناً لربه ووطنه ونفسه، فجاء بزجاجة "أسيد" وأحرق بمائها قدميه، ليعّوق نفسه، وبذلك يُعفى من الخدمة. ولكن حتى تحمّله لنار الأسيد الذي كاد يؤدي إلى بتر قدمه لم ينقذه من ذلك، فلم يجد بُدّاً من الرحيل مهما كان ثمنُ ذلك الرحيل، وإزاء ذلك، كانت قيادة المقاومة الإسلامية تراقبُ عن كثب مجريات الأمور. حضّر عبد اللَّه نفسه لعبور الأودية والجبال، غير آبهٍ للمناطق التي من الممكن أن تكون مزروعة بالألغام، ولكن قُبيل رحيله، جاءه قرار قيادة المقاومة الإسلامية عبر أحد الأخوة: "الالتحاق بصفوف جيش العميل لحد"..

لم يتقبل بداية الأمر هذا القرار، فالمهمة صعبة جداً، وتحتاجُ من الصبر ما قد نفد منه، وكلما لاحَ في خياله أن الناس سيتهامسون حوله ويقولون عنه "عميل خائن"، أكد على رفضه للفكرة. غير أن قيادة المقاومة بيّنت له الآثار العظيمة والمنافع الجمة التي سيجلبها للمجاهدين بعمله، وهو ما يفوق أضعاف ما كان سيقدمه لو انه كان بين المجاهدين على المحاور. التزم عبد الله بالتكليف، وارتدى بكل بسالة وشجاعة الثياب العسكرية اللحدية في العام 1988، واستطاع أن ينال بحنكته ثقة الجميع، وبقي كما هو، لا يؤدي صلاته إلا في المسجد، ويحافظ على شعائره الدينية، حتى أن العميل أحمد شبلي لقبه بـ"الشيخ"، ويدل ذلك على مستوى عالٍ من الدقة والذكاء في تعاطيه مع العملاء الذين رأوا فيه أيضاً مثال الجندي المخلص. خلف القناع عاش عبد الله بعكس ما خطط له. فحياته انقلبت رأساً على عَقِب، أظهر كل ما لا يقتنع به، وتحدث بكل ما لا يرغب في قوله، وترك الدراسة التي كانت حلماً من أحلامه الجميلة، وفعل كل ما كان يوطد ثقة المسؤولين الأمنيين به، فاطلع على العديد من المعلومات المهمة، وقرأ التقارير الخاصة، ونسخ خرائط المواقع العسكرية التي وصلت إلى قيادة المقاومة بمنتهى السرية، وقام بالعديد من المهمات العسكرية والأمنية الصعبة والخطيرة.

كان عبد اللَّه يعلم أن الخطأ الأول في عمله هو الأخير، فطلب في مرات كثيرة الإذن بفتح نيرانه على قيادة العدو أو السماح له بالقيام بعملية إستشهادية، ولكن الوسيط الذي التقى به ذات ليلة، حمل معه تحيات سماحة الأمين العام الشهيد السيد عباس الموسوي، وأكد له أن طبيعة المعلومات التي يرسلها غايةٌ في الأهمية ولا غنى عنها، موصياً إياه بضرورة البقاء في عمله، كما أن السيد عباس، وبناءً لطلب عبد اللَّه، حدد الكيفية والجوانب التي يجب أن يصرف فيها راتبه من العدو، وقد اطمئن عبد الله لهذه المتابعة الدقيقة لعمله من قبل سماحة السيد الشهيد، ولم تسع الدنيا فرحته. وكانت المهمة الأخيرة دقيقةً وخطيرة، وهي إيصال مجموعة من الاستشهاديين إلى الحدود في الناقورة. فقام عبد اللَّه وعدد من المجاهدين باستطلاع الطريق مرات عديدة، وأكدوا لقيادة المقاومة إمكانية الوصول إلى هناك، ولأول مرة، انتقى الإخوة في المقاومة عبد اللَّه لقيادة هذه المهمة لأنه يحمل المواصفات اللازمة لها. لم يصدّق عبد اللَّه نفسه عندما أُبلغ بذلك، وانتظر على أحر من الجمر رفاقه الحسينيين، وعبروا بين البحر والتراب بقارب الظلام، ولكن ما لم يكن بالحسبان هو تواجد مجموعة من جيش العملاء تسهر هناك، فاكتشفوا المجموعة وأبلغوا عنها قيادتهم دون أن يشعر المجاهدون بشي‏ء، وسارع اللحديون إلى وضع حاجزٍ في طريق المجاهدين. انكشف عبد الله أمامهم، وعلى الرغم من إبراز بطاقة خدمته، إلا أن الحقيقة كانت كالشمس وسط ذلك الليل البهيم، فجرت المواجهة المباشرة التي استبسل عبد الله خلالها، فاستشهد والأخ يوسف ناصر الدين، فيما أُسر المجاهدان الآخران. بقيتْ جثة الشهيد عبد اللَّه ما يقارب الشهر لدى جيش العميل لحد، قبل السماح لأهله الذين تعرضوا للكثير من المضايقات والتنكيل بهم، بدفنه، وعلى الرغم من الوضع الأمني الحساس، فقد شارك محبُّو عبد الله بالمئات في تشييعه، غير عابئين بردة فعل اللحديين.

ارتاح عبد اللَّه أخيراً، وأغمض جفنيه هانئاً، وقد ترك قيادة العملاء تتخبطُ لفترة طويلة إثر هذا الاختراق الأمني (المميت). وانتصر عبد اللَّه عليهم وهو يستقبلُ رصاصات غدرهم بوفائه الحسيني الصادق. اليوم، صار منزل ذوي أهل الشهيد عبد الله قاسم منطلقاً للمسيرات الكشفية والحسينية، وهذه الشعيرة تحية وفاء من الذين منعتهم الظروف الأمنية أيام الاحتلال من تشييع عبد اللَّه. هكذا كان؛ عبداً للَّه بكل ما للكلمة من معنى. فأن تكون مجاهداً، تحمل السلاح وتنطلق في غياهب الليل منتظراً خيوط الفجر حتى تشرق الشمس من بين أصابعك، هي أرقى صورة للحياة. ولكن، لا شك أن من حمل سلاح العدو وتحمل معاناة الغربة ليدافع عنك، هو في مشهد يُعتصَر له قلبك، وتجد نفسك صغيراً جداً أمام عظيم ما قدمه..

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع