نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

جعبة مقاوم‏: وما رميت إذ رميت‏

أبو حسن‏

 



مع هبوب نسمات الفجر الباردة في أيلول، وتحت قبة السماء التي أخذت تغزوها خيوط الضوء الأولى، كنا قد توزعنا عند تلك التلة المنحدرة نحيط ساتر الموقع الذي تفصلنا عنه بضعة أمتار. كانت تلك الفسحة مفروشة بحصى صغيرة، لم يكن من الممكن أن يكتشفنا الجنود في الدشم لكن دحرجة حجر واحد ستثير انتباههم في ظل الصمت المخيم. كان الترقب جاثماً على الصدور، فيما تقدم عباس يتسلق على مهل شديد، راقبناه مسددين بنادقنا نحو الدشم المطلة.

وصل عباس إلى أقدام الساتر الرملي دون أي حادث، فتهيأت لكي أتقدم، بضعة أمتار لا غير سأقطعها... بضعة أمتار... بضع لحظات تفصلنا عن مفاجأة العدو... أطرقت بنظري نحو الأرض، وتبينت مواقع قدمي... هذا حجر كبير لعله ثابت وهذا آخر بعده... تقدمت بخطوة أولى فثانية، في هذه اللحظات كل أعصابي متحفزة ثائرة، الكل في الخلف ينتظرون على بعد خطوة واحدة من الشهادة أو النصر... تبينت طريقي كرة أخرى، خطوة فأخرى فثالثة، ها هو الساتر الرملي. في هذه اللحظة لوحت الريح ذرات التراب في الساتر الرملي مثيرة زوبعة صغيرة أمامي، فدخلت إحدى الذرات عيني، أغمضتها ووضعت قدمي على التراب وحركت الأخرى فانزلقت الحجارة التي كانت تحتها وجرت خلفها قرقعة طويلة، انخفضت وانحنيت تحت الساتر... لقد انكشفنا... ثوان واشتعلت منافذ الدشم لتصب حمم الرصاص الثقيل زخة إثر زخة تمزق بدويها حبل الصمت. بدأنا نطلق النار على الدشم، وكان أبو حسن وجوشن ورائد قد تقدموا نحو الساتر وبدأوا يطلقون النار، فيما احتمى الباقون تحت جنح الظلام بانحدار التلة متخذين بعض الصخور والآكام متاريس لهم يطلقون من خلفها، وتقدم محسن بمدفع صاروخي صغير وأطلق قذيفة نحو إحدى الدشم، ثم بدأت قذائف الهاون تتساقط حول الساتر مثيرة الفوضى بين الصفوف، إلا أن أحداً منا لم يصب حتى الآن.

لقد تبددت المفاجأة ولا بد من الانسحاب.. نعم... هذا ما سنفعله... لا لا، لن نعطيهم الظهور، لا... ولكن لن تنجح أية محاولة للالتفاف مع غزارة النيران وكثرة الدشم. وسط الاشتباك العنيف اشتبكت في جمجمتي تساؤلات أشد عنفاً. كان الشباب يقبعون خلف الصخور ويتراجعون خطوة إثر أخرى، لقد فشلنا... فشلت المهمة لحظة تبددت المفاجأة... ماذا سنفعل، ماذا سنفعل، مستلقياً على الساتر الرملي والرصاصات تئز فوق رأسي، أطرقت لحظة: نحن مكشوفون تماماً لا يمكننا التقدم خطوة واحدة، ولكن إذا تسللنا من بين الدشم والظلام لم ينحسر بعد، ربما استطعنا الالتفاف عليهم، ولكن بكم شهيد سنعود... هه؟ قذائف الهاون لا تزال تتساقط بهدير يهز الأرض تحتنا محيلة آخر عتمات الليل إلى نهار ساطع، وسمعت فوق رأسي وشوشة شظاياها تمزق الهواء، وعبق الجو برائحة البارود الكريهة. في تلك اللحظة بالذات، وسط قذائف الأقدار، أحسست بقوة غير مسبوقة، ورأيتني أصعد الساتر وهتفت بالرجال:

- عباس... أبا حسن.. رائد... جوشن هيا تقدموا... تقدموا... وسددت الرشاش على الدشمة أمامي، أطلقت بضعة زخات ثم تلفت للخلف فأبصرت أبا علي يطلق النار من خلف أكمة صغيرة: أبا علي... هيا إلى الأمام... إلى الأمام... هيا جميعاً... وعدوت وأنا أصعد الساتر، صارخاً من أعماق مجهولة: يا زهراء... يا أبا عبد اللَّه... يا أبا عبد اللَّه... فردد الشباب وهم يهرولون ويطلقون النار: يا حسين... يا أبا عبد اللَّه... وانطلقنا مجدداً: الجميع إلى الأمام... يا أبا عبد اللَّه... التفوا عليهم... تسللوا من بين الدشم... لا تتقدموا إلى الدشم مباشرة... هيا... يا أبا عبد اللَّه... اللَّه أكبر... عشرون رجلاً يستعيدون روح الهجوم، وظل البعض في الوراء ليغطوا الاقتحام وأطلقوا كل الحمم والرصاص على الدشم، وتقدمنا... وصرخت مع الرشاش كرة أخرى: مقاومة... فرددوا مع لعلعة رصاصاتهم المنتفضة وهم يتسلقون الساتر: إسلامية... مقاومة... إسلامية... من أنتم؟ حزب اللَّه.

كان جنود الموقع لا يزالون يطلقون النار إلا أن صراخ استغاثات بدأت تسمع ممزوجة بأزيز الرصاص والغبار المتصاعد مع تقدمنا، وأطلق محسن قذائف مدفعه، ولما صرنا على مقربة من الدشم فتحنا القنابل اليدوية ورميناها نحو منافذها وسط ترديد الهتافات.. ومع انفجار القنابل تقدمنا يسبقنا الرصاص مجموعة إلى الدشم التي ظل بعضها يصلي ناراً حتى رأينا، على بعد مترين، عيون اليهود مبهوتة... فأمطرناهم بزخات عنيفة أردتهم... عادت المفاجأة من جديد... اقتربت كل مجموعة من نوافذ الدشم ومشطتها من الداخل... والجميع يهتف: اللَّه أكبر... يا زهراء... سكتت الدشم جميعاً ووقفنا على قمة الساتر وسط الغبار الكثيف وكان أربعة جنود يفرون عبر ساحة الموقع فأطلقنا النار وجندلناهم جميعاً... ثم دلفنا وسط تغريد الرصاص إلى الساحة ودخلنا الدشم واحدة تلو الأخرى من أبوابها الخلفية وأجهزنا على من تبقى فيها... عندها فقط توقفت الهتافات... لقد انتهى الموقع... لقد أبدناهم... هكذا سمعت عباس المتحمس على الدوام يردد وسط الغبار الذي عاد يلف الموقع مع صمت البنادق... فسألتهم: هل أصيب أحد؟ هل هناك إصابات؟ لا... لا... لم يصب أحد... قال عباس الذي ثم راح يعدهم، إنهم عشرون. هذا لا يصدق، رحت أعدهم واحداً واحداً... إنهم عشرون... كررت التعداد... عشرون... عشرون... وفي الأثناء، لما تجمعنا للرحيل وهدأ اللهاث، أدركت أن تلك القوة الجارفة، لم تكن قوتي على وجه التحديد، فلشجاعة الإنسان حدود، وللموت هيبته التي لا زلت أشعر بها. لكن عن كثب: هذا هو الواقع... وعدنا مع إطلالة الشمس، نزلنا التلة على عجل ورحنا نقطع الوادي، وحينما شارفنا على الوصول تقدم مني عباس هامساً: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع