نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

القرآن الكريم بين القراءة والتلاوة

الشيخ محمود سرائب‏

 



تمهيد :﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (مريم/58) من الواضح أن قراءة القرآن الكريم، ليس المقصود منها مجرد التلفظ بالكلمات والآيات القرآنية، حتى لو تمت هذه القراءة مع مراعاة كافة الحدود الظاهرية من تجويد وقراءات وغير ذلك، خصوصاً إذا نظرنا إلى كثير من الروايات التي تحدثت عن قراءة القرآن، وأنها لا تنفع الإنسان بمفردها بل ربما أدَّت إلى خسران القارئ يوم القيامة باعتبارها لم تنفذ إلى أعماق الإنسان لتؤثر على فكره وسلوكه وحركته في واقع الحياة. فقد ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق د أنه قال: "قرَّاء القرآن ثلاثة:

1- قارئ للقرآن ليستدرّ به الملوك، ويستطيل به على الناس، فذلك من أهل النار.
2- وقارئ قرأ القرآن فحفظ حروفه، وضيّع حدوده فذلك من أهل النار.
3- وقارئ‏ قرأ القرآن فاستتر به تحت برنسه، فهو يعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه، ويقيم فرائضه، ويحلّ حلاله، ويحرّم حرامه، فهذا ممّن ينقذه اللَّه تعالى من مضلات الفتن، وهو من أهل الجنة، ويشفع فيمن شاء"(1).
فماذا تعني قراءة القرآن؟ وما هي حدودها؟ وما هي خصائصها وآدابها؟ وما هي النتيجة الحقيقية من التفاعل المعرفي والسلوكي مع القرآن من خلال قراءته وتلاوته؟

* القراءة والتلاوة لغة واصطلاحاً:
القراءة في اللغة:

"القراءة تعني ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وتقرّأت تفهمت، وقارأ دراسته"(2). يقال: قرأت الشي‏ء قرآناً، جمعته، وضممت بعضه إلى بعض،... ومنه سمُّي القرآن لأنه يجمع السور، فيضمها، أو لأنه جامع لثمرة كتب اللَّه المنزلة، أو لجمعه ثمرة جميع العلوم "فهو القرآن في اللغة مصدر مرادف للقراءة ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ  فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (القيامة/17 18) ثم نقل من هذا المعنى المصدري وجعل اسماً للكلام الموجز المنزل على النبي ا من باب إطلاق المصدر على مفعوله"(3).

* التلاوة في اللغة:
"التلاوة تعني الاتباع فيقال تلاه أي تبعه متابعة، وذلك تارة بالجسم، وتارة بالاقتداء في الحكم، ومصدره تُلُوّ ويتلو، وتارة بالقراءة أو تدبر المعنى ومصدره تلاوة"(4).

* القراءة في الاصطلاح:
إذا ما اقترن فعل القراءة بالقرآن الكريم فإنما يراد بها استظهاره على ظهر قلب بمعنى تفهم ومعرفة ما جاء به من حقائق وأصول وهذا سر تنزيله على قلب الرسول ا "نزل به الروح الأمين ء على قلبك لتكون من المنذرين"(5) وعليه: فقراءة القرآن ليس حركة آلية ولكنها "عملية يشترك اللسان بالإفصاح عن المقروء فيها وإظهاره وفقه مراده والوقوف على حقائقه إدراكاً ووعياً"(6). فمن خلال القراءة الواعية والمتدبرة لكتاب اللَّه تعالى نستطيع أن نحقق الحياة الحقيقية في مفهوم القرآن الكريم وهي حياة القلوب بالإيمان، لأن القرآن الكريم عندما يتحدث عن الحياة الإنسانية، يتجاوز مرحلة الجسم ودورة الدم إلى حياة يكون الإنسان فيها حياً بل إنساناً، فيقيم الناس إلى موتى وإحياء أما الموتى فهم الظالمون وكل من لا يؤمن باللَّه واليوم الآخر. وأما الأحياء فهم المؤمنون الذين هدى اللَّه قلوبهم للإيمان ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ (الأنعام/122)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ(الأنفال/24). فالحياة الحقيقية هي التي تخرج الإنسان من ظلمات البهيمة إلى نور الهداية الإلهية والقراءة الحية هي التي توصل إلى هذه الحياة. ولذا ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى(الأعلى/6)، "أي سنجعلك قارئاً أي: جامعاً لهذا الذكر الذي هو حياة الأرواح بمنزلة حياة الأشباح عالماً به كل علم ناشراً له في كل حي، فارقاً به كل ملتبس، وإن كنت أمياً لا تحسن القراءة والكتابة"(7).

* التلاوة في الاصطلاح:
من خلال المفهوم اللغوي للتلاوة الذي يعني الاتباع، نستطيع أن نفهم أن تلاوة كتاب اللَّه تعالى تعني اتباع هدى كتاب اللَّه وسنته. كما ذكر بعض المفسرين لقد "أنبأهم اللَّه بأن هذا التنزيل لأنفسهم بمنزلة الغذاء للأبدان فكما تتنامى أجسادهم بماء المزن وما منه فكذلك تتنامى أنفسهم بأحكام الكتاب وتلاوة الايات وذلك زكاؤها ونماؤها لتتأكد فيه رغبتهم"(8). وقوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ، فالتلاوة "من التلو وهي القراءة سميت بها لأن القارئ للنبأ يأتي ببعض أجزائه في تلو بعض آخر. والنبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى ونفع". فالتلاوة تعني ملامسة الحقائق القرآنية للقلب. واحدة تلو الأخرى. لتنفذ إلى الأعماق وتغرس التقوى والخشية من اللَّه اللذان هما من أهم الآداب الباطنية القلبية لتلاوة القرآن.

* القراءة والتلاوة في القرآن:
إن القرآن الكريم دعا بشكل متكرر إلى قراءة القرآن وتدبر آياته. ويتبين الفرق بين هذين المفهومين (القراءة والتلاوة) عند عرض الآيات المتعلقة بهما التي وردت في سياقات مختلفة منها قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(النحل/98)، ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (الإسراء/45). أما التلاوة فقد وردت في سياقات أخرى. منها قوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ (يونس/61)، "وإن أتلو القرآن" ومن خلال السياق نفهم أن القراءة وردت في مواطن المواجهة مع المشركين حول أصول العقائد الدينية، أما التلاوة فقد وردت في سياق اتباع هدى اللَّه تعالى، وما شرعه من أحكام، و... ولكي نفهم بعمق أكثر معنى هذين المفهومين لا بد من إحصاء ورودهما في القرآن، مما يجعلنا نقترب من قراءة منهجية صحيحة لكتاب اللَّه تعالى. إن مادة القراءة وردت بتصريفاتها المختلفة في القرآن سبع عشرة مرة، في ست عشرة اية بالتفصيل التالي:

عشر مرات مقترنة بقراءة القرآن الكريم، ووردت مرتين مطلقة غير مقيدة بقيد معين ومرتين مقترنة بالكتاب السماوي (التوراة، والإنجيل) أي غير القرآن. وثلاث مرات مقترنة بكتاب الإنسان الذي هو عبارة عن حصيلة أعماله في الدنيا التي ستتجلى له يوم القيامة والحصيلة من هذا العرض أن القراءة مربوطة بثلاثة كتب:
1- الكتاب التكويني: وهو كتاب الخليقة وأسرار الكون المختلفة.
2- الكتاب السماوي: وهي الكتب المنزلة على الأنبياء و سواء التوراة والإنجيل والقرآن.
3- الكتاب العملي: إن كتاب الأعمال كناية عما تتركه الأعمال من الآثار الخارجية في عالم الوجود، من أثر على الأرض والفضاء والهواء كما تترك أثراً على النفس وهذه الأعمال تنتقش بشكل غير قابل للإنكار.
فالقراءة للكتاب التكويني والسماوي، تأتي حصيلتها في كتاب العمل الذي تظهر تجلياته يوم القيامة.

أما مادة التلاوة بتصريفاتها المختلفة فقد وردت أكثر من ستين مرة في القرآن وفي سياقات مختلفة. في إحدى وخمسين آية بالتفصيل التالي:
وردت ست عشرة مرة مقترنة بالكتاب السماوي، ووردت إحدى وثلاثين مرة مقترنة بآيات اللَّه تعالى، وفي سبع مرات مقترنة بالأنباء والذكر. وأما باقي الموارد فقد وردت باستعمالات مختلفة تناسب السياق القرآني.

* من آداب التعامل مع القرآن‏
إن قراءة القرآن ليست عبارة عن ترديد الألفاظ والاشتغال بالألحان والقراءات فقط، إنما هي قراءة لكتاب الخلق والغوص في آثار الخليقة وتلاوتها واحدةً تلو الأخرى من أجل السير على هداها واقتفاء أثارها، ليستطيع الإنسان من خلال ذلك تحقيق معاني العبودية للَّه، وهذا المفهوم يتحقق حينما تحدد الشروط المنهجية في التعامل مع القرآن من خلال تعميق هذين المصطلحين: القراءة والتلاوة. ولكي نصل من خلال هذا السياق القرآني إلى مساق واحد لا بد أن نتبع الخطوات التالية.

أ- الاستعاذة: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (النمل/98). قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "لولا أن الشياطين يحومون إلى قلوب بني ادم لنظروا إلى الملكوت".

ب- الاستماع والإنصات: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ "الإنصات السكون مع استماع وقيل: هو الاستماع مع سكون يقال: أنصت الحديث وأنصت له أي استمع ساكتاً، وأنصته غيره وأنصت الرجل أي سكت، فالمعنى: استمعوا للقرآن واسكتوا، والآية بحسب دلالتها عامة وإن قيل: أنها نزلت في الصلاة جماعة"(9). الاستماع: هو الإصغاء بعناية وانتباه. لذا قال الراغب الأصفهاني "كل موضع أثبت اللَّه فيه السمع للمؤمنين، أو نفاه عن الكافرين أو حث على تحريه، فالقصد به إلى تصور المعنى والتفكر فيه"(10). وقد يقسم هذا السمع إلى قسمين: سمع أذن وهو يمر عبر هذه الآلة المادية وسمع قلب وهو الهدف المطلوب في القرآن الكريم.

ج- الثقة واليقين: إن تلقي القرآن بنوع من عدم الثقة واليقين يؤديان إلى عدم الهداية يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا (الإسراء/45).

د- قراءته على مكث: ﴿وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا. إن هذا القرآن المنزل على قلب النبي ا ليست مهمة النبي ا بقراءته فقط، بل في قراءته على الناس في مكث، والعلة في ذلك لتكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين مما يؤدي إلى القراءة الحقيقية لكتاب اللَّه تعالى.

في الختام نقول:
إن القراءة القرآنية هي السبيل الوحيد لتربية الفرد المسلم الذي يمتلئ قلبه بهذه القراءة وأن تتحول التلاوة إلى برنامج عملي، يؤدي في النهاية إلى الخضوع والاستسلام للَّه رب العالمين ﴿قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (الإسراء/107 109) .


(1) الخصال، ج‏1، ص‏69.
(2) الأصفهاني، الراغب، مفردات ألفاظ القرآن، دار القلم، دمشق، ص‏668، 669.
(3) الزرقاني، عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج‏1، المقدمة في معنى علوم القرآن.
(4) مفردات ألفاظ القرآن، (م.س)، ص‏167.
(5) سورة الشعراء، الآيتان: 193، 194.
(6) الدغامين، خليل محمد، مجلة الشريعة، عدد 37، مجلس ... العلمي الكويت، ص‏190، 199.
(7) البقاعي، برهان الدين إبراهيم بن عمر، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، ج‏8، دار الكتب العلمية، ص‏6.
(8) م.ن، ج‏1، ص‏275.
(9) الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج‏8، ص‏382.
(10) الأصفهاني، م.س، ص‏426.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع