نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الإمام العسكري عليه السلام والحياة العلمية في عصره

الشيخ تامر محمد حمزة

 



تولى الإمام الحسن العسكري عليه السلام مهام الإمامة بعد أبيه لمدة ست سنوات، بعد أن صحب أباه الإمام الهادي عليه السلام ما يقارب الثلاث والعشرين سنة، وقد مارس الإمام مسؤولياته الكبرى في أحرج الظروف وأصعب الأيام على أهل البيت عليهم السلام، لا سيما بعد أن أدرك حكام بني العباس عدم استقرار حكمهم على يدي المهدي عجل الله فرجه من ولد علي والحسين عليهما السلام. وبطبيعة الحال، كان الإمام ضمن دائرة المراقبة الدائمة والرصد المحكم، وأحصت عليه كل تحركاته لتشل نشاطه العلمي والسياسي والاجتماعي، وهذا يفضي إلى عدم تمكنه من نشر كل العلوم الحقيقية المفاضة على البشرية.

*ملامح عصر الإمام الحسن العسكري عليه السلام العلمي والثقافي:
انتشرت الثقافة الإسلامية في عصر الإمام العسكري عليه السلام بصورة مثيرة للإعجاب، بسبب حركة الترجمة من اللغات اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية. وقد تمركزت هذه الحركة في بلاط السامانيين والغزنويين والبويهيين والحمدانيين في الشرق، وفي بلاد الطولونيين والأخشيديين والفاطميين في مصر، وفي بلاد الأمويين في الأندلس. ومما ساهم في نشر الثقافة، كثرة العلماء ورجال العلم والأدب، وحث الإسلام على طلب العلم والترغيب في مجالس العلم ومجالسة العلماء. ولكن لا يخفى على ذي حجى خطورة هذه الحركة الغزيرة في الترجمة، والازدياد في تبادل الثقافات بسبب تسلل ودس الكثير من الأفكار والنظريات المسمومة، التي تخالف العلوم الحقيقية والنافعة، التي تحتاجها البشرية.

وبما أن القدرة على التمييز بينها لا تتأتى لأي فرد، يتجلى دور الإمام عليه السلام ليواجه الشبهات ويرد على كل المغالطات، حفاظاً على سلامة الأمة من الثقافة المنحرفة والفاسدة. ومما زاد في عب‏ء المسؤولية، ظهور الكثير من الفرق الفكرية والثقافية لأغراض دنيوية بلباس ديني. أمام كل هذه التحديات الكثيرة التي تواجه الإمام عليه السلام يضاف إليها مسؤولية هي بمثابة أم القضايا كلها، ألا وهي تربية الأمة على ثقافة الغيبة وتعويد شيعتهم على التواصل بواسطة الوكلاء والنواب، وكل ذلك يجري في ظروف سرية وحساسة. وقد لخص لنا الإمام ملامح عصره بهذه الجملة "قد وضع بنو أمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلتين: إحداهما: أنهم كانوا يعلمون أن ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادعائنا إياها وتستقر في مركزها، وثانيتهما: أنهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أن زوال ملك الجبابرة الظلمة على يد القائم منا. وكانوا لا يشكون أنهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولد القائم أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم، إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون"(1).

بالإمكان تحديد ثلاث مهام للإمام العسكري عليه السلام بما يتلاءم مع الظروف العلمية المحيطة به:
أولاً: الرد على الشبهات.
ثانياً: مواجهة الفرق المنحرفة.
ثالثاً: الدفاع عن الرسالة والدعوة إلى الحق.

*الرد على الشبهات:
برز في عصره أحد الفلاسفة يقال له الكندي، وقد قام بأكبر محاولة تخريبية للقرآن الكريم من خلال جمع جملة من الآيات المتشابهة التي يبدو للناظر فيها أنها تنطوي على نوع من التناقض، وكان ينوي نشرها من دون أن يلتفت أحد إلى خطورة هذه المحاولة، وهنا تصدى الإمام لإجهاضها وهي في مهدها، حيث دخل أحد تلامذة الكندي على الإمام، فقال له الإمام عليه السلام: أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشغاله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن تلامذته، كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال أبو محمد عليه السلام: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم. قال الإمام عليه السلام: فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها: فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه، غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه. ثم إن الرجل صار إلى الكندي. وبعد الأنسة، ألقى عليه المسألة، فقال الكندي: أعد عليّ؟ فتفكر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر. فقال الكندي؛ أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ وبعد أخذ ورد، قال له: أمرني به أبو محمد العسكري عليه السلام. فقال: الآن جئت به، ما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت ثم دعا بالنار وأحرق ما كان ألفه(2).

* مواجهة الفرق المنحرفة:
 لقد تصدى الإمام عليه السلام كآبائه لكل الفرق المنحرفة. ومن جملة تلك الثنوية والصوفية. ومن جملة مواقفه، ما رواه الشيخ الكليني عن إسحاق قال: أخبرني محمد بن الربيع الشائي: قال: ناظرت رجلاً من الثنوية بالأهواز، ثم قدمت سر من رأى وقد علق بقلبي شي‏ء مما قاله، فإني لجالس على باب أحمد بن الخصيب، إذ أقبل أبو محمد عليه السلام من دار العامة يوم المركب، فنظر إليّ وأشار بسبَّابته: أحد أحد، فرد، فسقطت مغشياً عليّ(3).

*الدعوة إلى دين الحق:
لا يخفى ما كان يتمتع به الإمام عليه السلام كآبائه عليهم السلام من الحرص على دين الناس وحسن استقامتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور. وفي حياته النماذج الكثيرة، منها ما عن إدريس بن زياد الكفر توثائي، قال: كنت أقول فيهم قولاً عظيماً، فخرجت إلى العسكر للقاء أبي محمد عليه السلام فقدمت وعلي أثر السفر ووعثاؤه، فألقيت نفسي على دكان حمام فذهب بي النوم، فما انتبهت إلا بمقرعة أبي محمد عليه السلام قد قرعني بها حتى استيقظت، فعرفته، فقمت قائماً أقبل قدمه وفخذه وهو راكب، فكان أول ما تلقاني به أنه قال: يا إدريس، بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، فقلت: حسبي يا مولاي، وإنما جئت أسألك عن هذا، قال: فتركني ومضى.

*الدفاع عن حريم الرسالة ومعتقدات المسلمين:
أشد الثقافات خطراً هي التي تحمل بذور الفساد للعقيدة ولأصول الدين، ومواجهتها من أصعب الأعمال، إذ إعادة الثقة إلى العقيدة بالأصول بعد تزلزلها ليس أمراً سهلاً، إذ يحتاج من البراهين ما يوازي قوة الشبهات أو أكثر لإعادة الطمأنينة إلى النفس. وقد واجه أبو محمد العسكري عليه السلام الكثير منها، ولكن أخطرها هذه القضية. بعد أن أصاب سر من رأى قحط شديد، أمر الخليفة العباسي المعتمد بخروج الناس للاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام فلم يسقوا، فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء، وخرج معه النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب كلما مد يده إلى السماء ورفعها هطلت بالمطر. ثم خرجوا في اليوم الثاني وفعلوا كفعلهم الأول وسقوا سقياً شديداً حتى استعفوا، فعجب الناس من ذلك وداخلهم الشك وصفا بعضهم إلى دين النصرانية فشق ذلك على الخليفة، فأنفذ صالح بن وصيف سجان الإمام العسكري عليه السلام أن أخرج الإمام من السجن وآتيني به. فلما حضر أبو محمد عليه السلام قال له: أدرك أمة محمد عليه السلام فيما لحق من هذه النازلة، فقال أبو محمد: ادعهم يخرجون غداً اليوم الثالث. قال: قد استعفى الناس من المطر واستكفوا، فما فايدة خروجهم؟ قال: لأزيل الشك عن الناس وما وقعوا فيه من هذه الورطة التي أفسدوا فيها عقولاً ضعيفة. فأمر الخليفة الجاثليق والرهبان أن يخرجوا في اليوم الثالث، فخرجوا كعادتهم، وخرج معهم نصارى كثر، وقد خرج لهم أبو محمد الحسن عليه السلام ومعه خل كثير، فوقف النصارى على جاري عادتهم يستسقون إلا ذلك الراهب مد يديه إلى السماء، ورفعت النصارى والرهبان أيديهم على جاري عادتهم، فغيمت السماء في الوقت ونزل المطر، فأمر أبو محمد الحسن عليه السلام القبض على يد الراهب وأخذ ما فيها، فإذا بين أصابعها عظم آدمي، فأخذه أبو محمد الحسن ولفه في خرقة وقال: استسق فانكشف السحاب وانقشع الغيم وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك، وقال الخليفة: ما هذا يا أبا محمد؟ فقال: عظم نبي من أنبياء الله عزَّ وجلَّ ظفر به هؤلاء من بعض فنون الأنبياء، وما كشف عن عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر، فرجع أبو محمد عليه السلام إلى داره بسر من رأى وقد أزال عن الناس هذه الشبهة(4).

 


(1) منتخب الأثر، ص‏359، ط ثانية، عن أربعين الخاتون آبادي (كشف الحق).
(2) المناقب، ج‏4، ص‏457 458، عن كتاب التبديل لأبي القاسم الكوفي.
(3) الكافي، ج‏1، ص‏511، ح‏20.
(4) الفصول المهمة، ص‏286.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع