نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قصة: بيي راح مع "السيِّد"

ولاء إبراهيم حمود

 



إلى كل الذين يرون في الآخر أخاً لهم في الدين أو نظيراً لهم في الخلق، أو إنساناً يستحق منهم كل الحب، وذلك بعد أن نجحوا في تحطيم جُدُر العُلب الطائفية الضيِّقة، وانطلقوا إلى الأفق الإنساني الأرحب، فرأوا في "السيد" ومقاومته، شمساً تضيء الحياة بأنوار القيم الإنسانية الحقة، التي أمضوا عمرهم وهم عنها يبحثون. ألقت "سَناء" كلّ تعبها على الأريكة، في المنزل الذي استقبلها أصحابه، بترحيب كبير، وجلست صاحبته، قربها، تخفِّف عنها: "الحمد لله عالسَّلامة، منيح اللي جيتو، كان لازم تشتي مناشير ت تقنعوا وتجوا، أصلاً منطقتكم مهدّدة من أول يوم".

مسحت "سناء" رذاذ الدمع المخزون في داخلها منذ بدء العدوان، وابتسمت لصديقتها شاكرةً لها تعاطفها: "والله تلبكت لوحدي، تلات أولاد وبيهن مش هون، ما بقدر اتصرَّف بغيبتو، امبارح بالليل، اتصل فيي شخص من طرفو وقللي إنو أضهر (أخرج) من المنطقة، فجيت لعندك".


ـ "يا أهلاً وسهلاً... جيتي ع بيتك، وع هالأساس، لازم تتصرفي بحرية، قومي نصلِّي ع بكير، هيدا الأذان بلش، ما فينا نأخر الصلاة، ما بيعرف الواحد منا إيمتى بصير جنى عمرو مدفنو بهيدا الظرف القاسي".
ـ "شو؟ بلَّشتِ تجمعي الفرضين مثل جيرانا؟ واللا بعدكْ بهالظرف بتصلي كل فرض لحال"؟
ـ "لا والله بعدني بصلِّي كل فرض بوقتو، أنت قاعدة بيناتن والمنطقة عندكن خطرة، شو عم تعملي مثلن؟ بعرف إنو بالحرب عنا بجوز الجمع".
ـ "صحيح بس صدقيني إلي بيناتن تسع سنين وهيدي العاشرة وكلن بحبوني وأنا بحبن، اليوم بس افترقنا أنا وجارتي، بكينا بنفس اللحظة سوا نحنا وعم نودّع بعض، الله يهد إسرائيل وينصر المقاومة ويرجعنا ع بيوتنا".
ـ "ويرجعلك جوزك بخير لولادو ويحمي كل ولاد العالم". عند هذه الكلمة، ابتسمت سناء لصورة زوجها، تحتل خيالها، بقامته المديدة التي حشرها في ثيابه العسكرية قبل مغادرته المنزل ليل الثاني عشر من تموز الفائت. لقد ضاقت عليه تلك الملابس، بعد أن رافقته منذ كان في التاسعة عشرة من عمره. لقد مضى على اقتنائه لها أكثر من عشرة أعوام قبل زواجه وإنجابه أطفاله الثلاثة. تذكرت سناء أنه قال لها وهو يخلعها: "ما رح زتها، رح اتركها لـ"خالد" حتى يكبر ويصير شب، هاي قابلت فيها "السيد" عدة مرات، اتركيها مثل ما هي لـ"خالد" وغرقت سناء في تداعيات المشهد، ناسية صديقتها وإصرارها على البدء بالوضوء، فمرَّ أمام عينيها "خالد". صغيرها، الذي لم ينهِ عامه السابع، وهو ينهال بأسئلته اللجوجة على أبيه، الذي كان يطوي تلك البذلة بعنايةٍ، ويستعجل ارتداء البذلة الجديدة، ثم يوقف سيل الأسئلة بعناقه وإجابته دون تركيز:

"إيه يا بابا... هاي إلك، ورح تروح فيها لعند "السيد" ورح تقاتل معو إسرائيل، يا الله أنا تأخرت، انتبه ع ماما وإخواتك الزغار، أنت ولي العهد بغيابي ورجَّال البيت". وعندما قادتها ذاكرتها إليه وهو يعانق الصغيرين ويوصيها بهما في غيابه وأن تبقى في المنزل، تنتظره ولو شهيداً، خبَّأت وجهها بيديها، تكتم نشيجها المفاجئ، الذي استدعى صوت صديقتها عالياً من الداخل: "يللا يا سناء... شو ما بدك تصلِّي اليوم؟ قاعدة عم تبكي بلا ما تدعيلو؟". لم تستطع "سناء" إجابتها ولا مسح دموعها، فقد أرعبها صوت ابن صديقتها صارخاً: "ماما... ماما... "خالد" أخذ علم الحزب يللي كان حد المكتبة وضلو راكض ما بعرف لوين...". وكأن ما سمعته كان عاصفةً رمتها خارج ما يحيط بها وسبقها قلبها اللاهف إلى مغادرة المنزل، يسابقها نداؤها المبحوح رعباً: "خالد... خالد...".

لم تجد له أثراً قرب البيت ولا في الشارع الإسفلتي الضيق الذي يصل المكان بصحراء "الشويفات". لم تنتظر رفيقتها التي تركت وضوءها بعد سماعها صوت ولدها. وراحت "سناء" تركض على غيرٍ هدىً في دروبٍ لم تسلكها من قبل، لتغادرها بسرعة عائدة إلى حيث انطلقت. راحت تجرجر قدميها الخائرتين، ترغمهما بقلبها الفارغ إلا من وجه "خالد" على المسير تحت شمس آب اللاهبة فوق تلك الدروب المكشوفة لطائرة "إم كا" أو "أم كامل" كما كانوا يتندرون عليها. لم تسمع "سناء"، وهي تدور حول نفسها من زاروبٍ إلى آخر، صوت رفيقتها تدعوها للهدوء والتروي. وقد لفتها إليه أحد المارة الذي استوقفته لتسأله باكية: "شفتللي صبي زغير حامل علم أصفر... واسمو خالد؟" وعندما أجابها بالنفي ناقلاً إليها نداء رفيقتها في أعلى التلة، التفتت إليها وقد فاجأتها ذاكرتها: "انتبهيلي عالباقيين يمكن يضيع هوِّي عم بفتش ع طريق بيتنا".

 لقد تذكرت أنه وفي السيارة التي أقلتهم من حي السلم، قد أعجب بطريق جانبية سلكها السائق، تظللها الأشجار على الجانبين. وقد لاحظ أنها توصل إلى مدرسة "دار العلوم" الواقعة بين المنزل في حي السلم وأول هذا الطريق، فانطلقت يقودها حدس الأمومة إلى البستان الذي يفصلها عن تلك الطريق، وراحت تعدو بأقصى سرعة، غير مباليةٍ بأشجار ذلك البستان أو قنواته. وعندما وجدت بقعة مكشوفة، عبرتها ووقفت وقد امتدت أمام ناظريها صحراء مكشوفة لا ظلال فيها، تنتهي عند طريق إسفلتي ينحدر بشدة. وهناك لاح لها في آخر المنحدر لونٌ أصفر... جعلها تدقق النظر، فرأته علماً أصفر يحيط بكتفيه وقد أحاط به بضعة رجالٍ، فنسيت أن تلتقط أنفاسها حتى أو أن تناديه. لم تأبه لصوت الـ"M.K" فوقها. لم تدرِ كيف اجتازت المنحدر إليه، بأمومتها التي تغلَّبت على خوفها ووضعتها قربه بسرعةٍ قياسية. وعندما واجهته بنظرة غاضبةٍ حمله أحد الرجال، خوفاً عليه من ردة فعلها، وأحاطه بيديه وهو يقول لها مهدئاً وقد استوعب الموقف بلحظة:

ـ "إختي... جوَّهت الله عليكي... ما بتمدي إيدك عليه... وما بتضربيه كف". "هيدا البطل... حرام ينضرب... كل الناس بالدكانة ـ وأشار بيده إلى دكانٍ قريب من ركامٍ كان قبل العدوان جسراً فوق النهر ـ بقولولوا شيل هالعلم عن كتافك هلق الأم كا... بتقصفك جاوبن بقوة بطل: "ما أنا جايي عالبيت ت آخذ ثياب بيي، يللي قابل فيهن "السيد"، ورح قاتل معو إسرائيل". كرامة لألله و"للسيد" ما بتضربيه..." ابتسمت له سناء شاكرةً اهتمامهم. وعندما لاحظ الرجل ملامح الرضا تسكن وجهها، ناولها إياه... وعندما اتخذت طريق العودة صعوداً، سمعوه جميعاً يصر عليها باكياً: "صرنا قريبين من البيت... إذا بتحبي الله والبابا و"السيد" بتجيبيلي ثيابي... بركي انقصف البيت بهون عليكي اخسر هدية بيي؟ شو نسيتي شو موصيكي؟" ولمحها الرجال، تستدير باتجاه حي السلم، وتسلك طريق منزلها. ورأوها تغمر "بطلها" بقبلاتها الباكية ووصلهم صوتها سعيداً رغم إرهاقه:

ـ "هيك بتعمل فيي؟ الحمد لله اللي لقيتك. إنشاء الله يرجع بيك بخير" وسمعوه يجيبها: "بيي راح مع "السيد" ورح يرجع ياخذني معو؟" وصلتهم إجابتها واثقةً مطمئِنة: "إيه، رح يرجع ورح ياخدك معو". وهنا تبادل الرجال نظرات اطمأن أصحابها إلى أن هذا الطفل الصغير، لن ينال اليوم عقاباً، فهو سينتظر مع أمه عودة أبيه وستكون مكافأة العمر الكبرى لهذه العائلة، عودة سالمة لبطل كبير... إلى طفله الصغير، الذي سيسلك منذ اليوم أولى دروب البطولة.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع