صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

شهيد الوعد الصادق عاطف نجيب أمهز (كفاح)

نسرين إدريس قازان

 



بطاقة الهوية
اسم الأم: مريم أمهز.
محل وتاريخ الولادة: بعلبك 1/2/1982.
الوضع العائلي: خاطب.
رقم السجل: 79.
محل وتاريخ الاستشهاد: مواجهة مستشفى دار الحكمة – بعلبك 2/8/2006.


في الخامس عشر من شهر شعبان، كان ثمة عرسٌ.. ولكنه من نوعٍ آخر.. نثرت الأم الأرزَّ والورود. زغردتْ، وأسبلت الدموع على نعشِ العريس الذي صادفت ذكرى أربعين استشهاده في اليوم ذاته الذي حدده موعداً لزفافه.

* شهادتان:
وأيضاً، جلست الأم في قاعة احتفال تخرّج الطلاب الناجحين من معهد التمريض، لتتسلم شهادة نجاحه بمعدّل جيدٍ في (T.S3). شهادة نجاح سبقها استشهاد، وقد تذكرت كيف أنها جلستْ مرّة في احتفالٍ مهيب لتصفق لابنها الحائز على ميدالية ذهبية كأفضل ممرض، وهو لا يزال طري العظم في المهنة. 

لطالما تحسر عاطف على عدم توفيقه للمشاركة في مواجهة مع العدو الإسرائيلي. كان ذلك الالتحام بالنسبة إليه حلماً بعيد المنال، فمهمته تقتصرُ على مهنته التي لها دور أساسي في الحرب، ولكنه لكثرة ما احتفظ في داخله من أمنيات، قطفها منذ التحاقه بالدورة العسكرية الأولى، وزرعَ شذرات منها على المحاور التي رابط فيها أثناء إجازاته، وكان لا يعود إلا لمريلته البيضاء، ظلّ الحلمُ يراوده ويبثه في أحاديثه.

* صورة تذكارية:
حينما تتلوّن مريلته البيضاء بدماء الجرحى، تدمع عينه. فدمه ليس أغلى من دم المجاهدين. وفي يوم أخبرهم مدير مستشفى الحكمة حيث يعمل، أنه إبان مشاركته في الحرب، أخذ ورفاقه الأطباء صورةً تذكارية، بقي وحده من يحملها، لأنهم استشهدوا جميعهم. وبعد أن أنهى الطبيبُ الحكاية، جمع بعض الأطباء والممرضين، وبينهم عاطف، ليأخذوا صورة تذكارية، ولينتظر كل واحد منهم دوره.. وكان عاطف أولهم. ابتسم عاطف في الصورة في اللحظة التي دمعت فيها عينه. تذكر في ومضة واحدة كيفَ بدأ في الكشافة شبلاً صغيراً، يرتاد المسجد ويشارك في الأنشطة الثقافية، ولا يأبه لبردٍ أو حر، وكيف أصبح قائداً في الفوج ذاته الذي تربى في صفوفه. وعندما بلغ السنّ التي تخوله الالتحاق بأول الدورات العسكرية، راح يتحايل على أمه وإخوته الكبار ليسمحوا له بذلك، فوافقوا على شرطٍ واحد: "أن يكمل دراسته"، فوعدهم بذلك.

* باسماً ثغره طيباً قلبه:
كان عاطف يتنقل في أروقة المستشفى ملاكاً باسمَ الثغر، طيّب القلب. يتزاحمُ الأطباء لطلبه في غرفة العمليات، لأنهم لا يحتاجون معه إلى الحديث، فهو يفهم ما يريدون بالإشارة. كان يتنقلُ بين غرف المرضى يعودهم، ويسأل عن أحوالهم. أما إذا ما جاء مريض إلى الطوارئ ولم يسدد الفاتورة المتوجبة عليه، أو نقصت مبلغاً، تكفّل عاطف بالدفع، حتى أن رفاقه استاءوا كثيراً من هذا التصرف، لأنه شاب في بداية حياته، ويعمل دوامين في المستشفى لأجل أن يؤمن مصاريف دراسته، وبعد ذلك مصاريف تجهيزات منزله بعد أن عقد قرانه، ولكنه طبعاً كان يرد بالطريقة ذاتها، بتلك الابتسامة البريئة والسكوت المطبق. لم يكن عاطف يقوم بهذا العمل حياءً، بقدر ما كان يحسه واجباً من صلب التدين الذي تربى عليه، فهو ربيب بيتٍ دعائمه الإيمان، وجدرانه المقاومة. لذا، كانت مساعدة وخدمة الآخرين نوعاً من العبادة الواجبة، باعتبار أنه قد يجد من يساعده إذا ما اضطره الأمر إلى ذلك، في حين أن هناك أناساً لا يساعدهم أحد.  لقد جَبَل عاطف أخلاقه وتدينه العميق بصميم عمله. لذا، كان ممرضاً من نوع آخر، يكفي أن يرى المرء محياه حتى ينسى نصف وجعه. وقد اشترى معدات طبية من مصروفه الشخصي، وضعها في البيت لأجل أن يكون على أهبة الاستعداد إذا ما احتاج أحد من الجيران أو أبناء القرية خدمةً سريعة. كان عاطفُ تلميذاً يتابع دراسته في المعهد، ويعمل في المستشفى بدوامين، وعلى الرغم من ذلك، فإنه لم يقطع النشاطات التي كان يقوم بها ويشارك فيها، فهو ظلّ قائداً في الكشافة، وهو المقدِّم الأساسي للبرامج في ليالي عاشوراء المركزية التي تقام في مرقد السيدة خولة عليها السلام في بعلبك، وهو صاحب الصوت الشجي الحنون الذي تسافر مع نبراته في كلمات اللطميات الحسينية إلى ضفاف الغاضرية، فلا تعود إلا وقد خضّبت قلبك بالدموع.

* بعضٌ من عطاءاته:
عندما بدأت حرب الوعد الصادق، كان عاطف من ضمن الفريق الذي داوم في المستشفى لاستقبال الحالات الطارئة وتحويلها إلى مستشفيات المنطقة، ذلك أن المستشفى كانت مستهدفة. وفي يوم، جاءت أم بطفلها الذي وقع وأصيب في رأسه، فأسعفه عاطف بسرعة وطلب إليها الذهاب إلى مستشفى آخر، ولكنه عرف أنها لا تملك سوى خمسين ألف ليرة، في حين أن ذلك المستشفى لن يستقبله قبل أن تدفع أمه مئة وخمسين ألف، فأعطاها عاطف المائة ألف لتيسّر أمورها.

* إستبشار بقرب الشهادة:
مرّت أيام الحرب صعبة على قلبه وهو يسمع ببطولات المجاهدين في الجنوب، ويتمنى لو أنه كان طلقة في بندقية مقاوم يلتحم مع الصهاينة. وعلى الرغم من صعوبة الوضع وحساسيته، وعلى عكسِ شخصيته المتسمة دوماً بالوقار والهيبة، صار عاطف يمزح مع الجميع في المستشفى، فاستغربوا لأمره كثيراً، وظنوا أنه يريد بذلك أن يخفف عنهم وطأة الخوف والترقب. في ليلة الجمعة الأخيرة قبيل استشهاده، كان عاطف في منزله في القرية، وقد مُنعت التجمعات العامة في المساجد والساحات، ولكن عاطفاً طلب إلى أخيه أن يسمح له بقراءة دعاء كميل في المسجد كعادته كل ليلة جمعة، فوافق أخوه بعد إلحاحٍ من عاطف على أن يكون الصوت في داخل المسجد فقط، ولكن عاطف أصرّ عليه بطريقة غريبة بأن يحول الصوت إلى المئذنة فيسمع كل أهل القرية الدعاء، ولم يجد أخوه بداً من الموافقة. وكانت تلك الليلة، من أكثر الليالي غرابة في حياة عاطف، فقد كان صوته حنوناً وحزيناً لدرجة لا توصف، وقد أبكى الناس في بيوتها وهو يكرر مقاطع الدعاء. لم يكن اسم عاطف على ورقة الدوام في الليلة التي حصل فيها الإنزال، ولكنه زار رفيقه في منزله وطلب إليه أن يذهب بديلاً عنه إلى المستشفى، وأصر عليه كثيراً فوافق رفيقه. وقبيل انطلاقه، زار الحلاق وشذّب شعره، وطلب إليه أن يُبقي على لحيته، فاستغرب الحلاق كثيراً، ذلك أن عاطف يظل حليق الذقن لحساسية عمله في غرفة العمليات، فقال عاطف مبرراً: "إذا استشهدت فاللحية تنور الوجه".

* اللقاء الأخير:
في تلك الليلة، كانت أروقة المستشفى خالية إلا من الممرضين وقلة من الإداريين. التقى عاطف برفيقه فربّت على كتفه قائلاً: " هذه آخر مرة نلتقي فيها". لم يمنح الزمن رفيقه فرصة ليرد أو يفكر بالأمر، فقد وصل إلى أذنيه صوت طائرات مروحية تحوم فوق المستشفى. وما هي سوى لحظات قليلة، حتى بدأ الإنزال الإسرائيلي. لم يصدق عاطف نفسه وهو يحملُ السلاح ليواجه العدو وجهاً لوجه، غمرته سعادة لا توصف وقد حقق حلماً من أحلامه الكبيرة، فحمد الله على ذلك. 

أسقط عاطف ورفاقه المجاهدون عدداً كبيراً من القتلى والجرحى في صفوف العدو الإسرائيلي وأفشلوا عملية الإنزال في مستشفى الحكمة، ولكن، وأثناء التحام عاطف مع الجنود، أصيب في خاصرته برصاصةٍ أدت إلى استشهاده. تلوّنت المريلة بدماء وفائه. لمحَ في مخيلته وهو يسقطُ إلى الأرض طفلاً صغيراً يركضُ في الحقل عندما يسقي والداه الشتول، وعندما تحمله أمه معاتبةً لأنه لوّث قدميه بالوحل، يضحك قائلاً: "أحب أن أرى تراب الأرض على قدمي". ثم لمح شاباً يمشي في مسير طويل وخلفه فتية صغار، يحمل أمامهم العلم الذي عليهم أن يرثوه منه، وعندما يزعجونه كثيراً، يضغط على أسنانه، ويكتم غيظه في قلبه، حتى إذا ما جلس ليرتاح غاب عن الوعي لأنه "حساس جداً وسريعُ التأثر". وابتسم عاطف عندما تذكر زوايا بيته الزوجي، لأنه في تلك اللحظة زُفّ بين يدي صاحب الزمان عجل الله فرجه شهيداً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع