نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

حسنات الأبرار سيئات المقربين

الشيخ خضر ذيب(*)

 



"حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين" مقولة مشهورة تتردّد على أسماعنا في بعض المجالس، نقرأها في كتب الأخلاق فتثير فينا تساؤلات عدة، فما المراد من هذه المقولة؟ من هم الأبرار؟ ومن المقربون؟ وما هي الأمور التي يستغفر منها المقربون كالأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام؟ من خلال الإجابة عمّا تقدّم من أسئلة سنحاول فهم هذه المقولة، ونبدأ بشرح كلمتي الأبرار والمقربين.

الأبرار: جمع (بَر) وأصله الاتساع، وأطلق البَر على الصحراء لاتساع مساحتها. وتطلق هذه المفردة على الصالحين الذين تكون نتائج أعمالهم واسعة في المجتمع (1). وممّا ذكره صاحب تفسير الميزان العلاّمة الطباطبائيّ قدس سره حول تفسير من هم الأبرار قال: "الأبرار أهل المرتبة العالية من الإيمان"(2). وفي مكان آخر من تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي حفظه الله يعطي تعريفاً أشمل فيقول: "هم أصحاب النفوس الزكيّة الأبيّة الطاهرة، ومعتنقو العقائد الصائبة، الذين لا يعملون إلاّ ما فيه الخير والصلاح"(3).

المقرّبون: هم الذين لهم مقام القرب عند الله عزّ وجل. وكلّ المقرّبين أبرار، وليس كلّ الأبرار مقرّبين. وروي عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أنّه قال: "كلُّ ما في كتاب الله عزّ وجلّ من قوله: "إنّ الأبرار" فوالله ما أراد به إلاّ عليّ بن أبي طالب وفاطمة وأنا والحسين"(4). "وممّا لا يشوبه شكّ، أنّ الخمسة الطيّبة، تلك الأنوار القدسيّة، هي أفضل مصاديق الأبرار والمقرّبين" (5).

إنّ مقام المقرّبين أعلى من مقام الأبرار. وفي تفسير الميزان يحدّد المقرّبين بأنّهم: "قوم من أهل الجنّة هم أعلى درجةً من عامّة الأبرار"(7). وفي كتاب "الشواهد الربوبيّة" يذكر المؤلّف تحديداً عرفانيّاً للمقرّبين حيث يقول: "المقرّبون وهم المرتفعون عن الالتفات إلى السماء والأرض القاصرون نظرهم على ملاحظة الحضرة الربوبيّة وهم أبداً في دار البقاء إذ ملحوظهم هو الوجه الباقي وما عدا ذلك فإلى الفناء مصيره، أعني السماء والأرض وما فيهما وما يتعلّق بهما(8).

"فالمقرّبون هم النمط الأعلى من أهل السعادة كما يشير إليه قوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. ولا يتمّ ذلك إلاّ بكمال العبوديّة كما قال: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. "ولا تكمُلُ العبوديّة إلاّ بأن يكون العبد تِبعاً محضاً في إرادته وعمله لمولاه، لا يريد ولا يعمل إلاّ ما يريده مولاه، وهذا هو الدخول تحت ولاية الله، فهؤلاء هم أولياء الله"(9).

* أرقى في الإيمان أرقى في العمل
وبعد كلّ ما تقدم من شرح لكلمتي "أبرار" و"مقربين" نقول: المراد من المقولة المشهورة وبخاصّة على ألسنة العرفاء: "حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين": "أنّ الإنسان كلّما ترقّى في الإيمان درجة، كلّما توقّع ربُّ العالمين منه العمل أكثر.. فالله عزّ وجلّ في بعض الحالات، لا يتجاوز عن خطيئة المؤمن، ولو لم تكن على مستوى الخطيئة الكبيرة، وربّ العالمين لطفاً بعبده ووليّه، يستعجل في تصفية الحساب معه في الدنيا قبل الآخرة"(10).
فلا يكون المرادُ أنّ هذه عند الأبرار سيّئات ولكن عندما يصعد الإنسان درجة يعرف أنّ ذلك لا ينبغي وأنّه ينبغي ما هو أكثر من ذلك.
على سبيل المثال: نحن نعبد الله خوفاً من ناره أو طمعاً في جنّته، ومنشأ ذلك هو قلّة المعرفة، وإلاّ لو كنّا نعرفه كما يعرفه النبي الخاتم صلى الله عليه وآله لما عبدناه خوفاً من ناره أو طمعاً في جنّته وإنّما لأنّه أهل للعبادة.

* الاشتغال عن ذكر الله
من هنا يمكن أن ندخل إلى البحث الثاني وهو: ما هي الأمور التي يستغفر منها الأنبياء والأئمّة عليهم السلام؟
إنّ أفضل ما قيل في شرح هذا التساؤل - حسب تتبّعي- هو ما قاله الإربلي(11) في كشف الغمّة، حيث قال:
"وتقريره أنّ الأنبياء والأئمّة عليهم السلام تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى وقلوبهم مملوءة به وخواطرهم متعلقه بالملأ الأعلى، وهم أبداً في المراقبة، كما قال عليه السلام: أعبُدِ الله كأنك تراه فإن لم تره فإنّه يراك" فهم أبداً متوجّهون إليه ومقبلون بكلّهم عليه، فمتى انحطّوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات، عدّوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه. ألا ترى أنّ بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنه بمرأى من سيّده ومسمع لكان ملوماً عند الناس ومقصّراً فيما يجب عليه من خدمة سيّده ومالكه؟ فما ظنّك بسيّد السادات وملك الأملاك؟ وإلى هذا أشار صلى الله عليه وآله أنّه "ليُرانُ على قلبي وإنّي لأستغفر بالنهار سبعين مرّة"، ولفظة السبعين إنما هي لعد الاستغفار لا إلى الرّين وقوله: "حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين"(12) ونظيره إيضاحاً من لفظه ليكون أبلغ من التأويل... فقد بان بهذا أنه كان يعدّ اشتغاله في وقت ما بما هو ضرورة للأبدان، معصية يستغفر الله منها، وعلى هذا فقِس البواقي وكلّ ما يَرِدُ عليك من أمثالها"(13).

* مراتب الذنب
من هنا يمكن لنا أن نتحدث عن مراتب الذنب:
للذنب مراحل ومراتب متعددة، فإنّ الذنب قد يكون:
1ـ للتخلّف عن القوانين. فمن المعلوم أنّ التخلف عنها إذا كانت من الشارع أو ممّا أمضاه الشارع، حرام، والنبيّ والإمام معصومان عنه لما مرّ من الأدلّة.
* أحسن الخلق
2ـ وقد يكون الذنب ذنباً أخلاقيّاً. فمن المعلوم أنّ ارتفاع شأن النبي والإمام لا يناسبه، فلذا كان الأنبياء والرسل والأئمة الطاهرون عليهم السلام متخلّقين بأحسن خلق، كما نصّ عليه في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، ﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ، ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ. هذا مضافاً إلى أنّ اقتضاء كونهم مبعوثين للتزكية، أن يكونوا متّصفين بمكارم الأخلاق وأعلاها، إذ هذه الغاية التي أوجبت في حكمته تعالى أن يرسل الرسل والأنبياء، لا يمكن حصولها عادة إلا بكون الرسل والأنبياء والأئمة أئمّة في الاتصاف بالأخلاق الحسنة، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.

* التقصير في بذل تمام التوجه للمحبوب
3ـ وقد يكون الذنب ذنباً عند المقرّبين والمحبّين. وهذا الذنب ليس تخلّفاً عن القوانين ولا يكون إثر الأخلاق السيئة والرذيلة، بل هو قصور أو تقصير في بذل تمام التوجّه نحو المحبوب؛ فالغفلة عنه تعالى عندهم ولو لفعل مباحٍ هي ذنْبٌ، وهذا الذنب أمرٌ لا تُنافيه الأدلّة الدالّة على العصمة عن الذنوب، ولا يضرّ بشيء ممّا مرّ من الغايات، من إرشاد الناس وتزكيتهم وغيرهما، ولكن مقتضى الأدلّة السمعيّة هو أنهم على حسب مراتبهم في المعرفة أرادوا ترك هذا، ومع ذلك إذا ابتلوا به رأوا أنفسهم قاصرين ومقصّرين في مقام عبوديّته ومحبّته تعالى، وكثيراً ما عبّروا عن هذا القصور والتّقصير بالعصيان والذّنب، وبكوا عليه بكاءً شديداً ومستمراً وخافوا عنه جداً في الخلوات والجلوات، والشّاهد عليه ما نراه من سيرة رسولنا محمّد صلى الله عليه وآله وأئمّتنا الأطهار عليهم السلام في أدعيتهم ومناجاتهم وبكائهم وعباداتهم وخوفهم من البعد عن الله تعالى، وتعبيرهم عن أنفسهم بالمذنبين والقاصرين والمقصّرين، وقد يعبّر عنه بترك الأولى(14) ولا بأس به. نعم، قد يُراد من ترك الأولى فعلُ المكروه أو عملٌ مرجوحٌ، وهو وإن لم يكن معصية وتخلّفاً عن القوانين، ولا رذيلة من الرذائل الأخلاقيّة، فلا يناسبُ صدورُهُ عن عظمائهم كرسولنا وأئمتنا عليهم السلام إلاّ لجهة من الجهات كبيان الأحكام ونحوه"(15). ومن هنا يقول العلامة الطباطبائي قدس سره حول ذنب النبي صلى الله عليه وآله: "المراد بالذنب في حقّه صلّى الله عليه وآله وسلم ترك الأولى وهو مخالفة الأوامر الإرشاديّة، دون التمرّد عن امتثال التكاليف المولويّة. والأنبياء على ما هم عليه من درجات القرب يؤاخَذون على ترك ما هو أولى كما يؤاخذ غيرهم على المعاصي المعروفة"(16). من هنا يمكن أن نقول: "إنّ الذنوب متفاوتة بالذات وبالنسبة إلى الأشخاص، فترك الأولى ذنبٌ بالنسبة إليهم"(17).

* الغفلة ذنب
ومن خلال هذا الشرح يمكن لنا أن ندخل إلى النقطة الأخيرة في بحثنا هذا وهي: هل هناك ذنوب يرتكبها القلب دون الأعضاء؟
والجواب أصبح واضحاً لنا، بعد أن توضّح لنا أنّ الذنب أمر نسبي، وعليه نحمل الاستغفار الوارد عنهم عليهم السلام على هذا المعنى الذي ذكره الإربلي في كشف الغمة. من هنا نقول: "إنّ الغفلة عنه تعالى عندهم ولو لفعلٍ مباحٍ ذنبٌ، وهذا الذنب أمرٌ لا تنافيه الأدلّة الدالّة على العصمة عن الذنوب... ولكن مقتضى الأدلة السمعية هو أنهم على حسب مراتبهم في المعرفة أرادوا ترك هذا، ومع ذلك إذا ابتلوا به رأوا أنفسهم قاصرين ومقصّرين في مقام عبوديّته ومحبّته تعالى، وكثيراً ما عبّروا عن هذا القصور والتقصير بالعصيان والذنب، وبكوا عليه بكاءً شديداً"(18).

وعلى هذا فما ورد من استغفار الأنبياء والأوصياء وتوبتهم، إنّما هو من ترْكِ دوامِ الذكرِ وغفلتِهِم عن مقام الشهودِ والاستغراقِ لأجل اشتغالهم بالمباحات، لا عن ذنوبٍ كذنوبنا، لتعاليهم وتقديسهم عن ذلك".


(*) مدرّس في الحوزة العلميّة.
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 19، ص 255.
(2) تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 1، ص 428.
(3) تفسير الأمثل م. س، ج 20، ص 38.
(4) نور الثقلين ، ج 5 ، ص 533.
(5) تفسير الأمثل، م. س، ج 20، ص 38.
(6) وهذا ما يسميه صاحب تفسير الميزان "الجري" و"عد المصاديق". ويقصد بالجري التطبيق.
(7) تفسير الميزان، ج 20، ص 235.
(8) الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، صدر الدين محمد الشيرازي، ص 340.
(9) تفسير الميزان، ج 19، ص 121.
(10) من محاضرة صوتية للشيخ حبيب الكاظمي شارحاً مفاد هذه القاعدة.
(11) علي بن أبي الفتح الإربلي.
(12) ينسب بعضهم هذه القاعدة إلى النبي صلى الله عليه وآله ولكن بعد التتبع لم أجد لها أثراً في مصادرنا، فالأرجح أنها قاعدة ذكرها العرفاء والمتصوفة.
(13) كشف الغمة في معرفة الأئمة، علي بن أبي الفتح الإربلي، ج 3، ص 47.
(14) قسّم علماء أصول الفقه الأوامر الإلهية إلى قسمين: مولوية وهي التي يحرم مخالفتها ويترتب الإثم على ارتكابها، وإرشادية، وهي التي تكون لمجرّد الإرشاد للصلاح الموجود في هذا الأمر، ومخالفته هو الذي يُعبّر عنه بـ "مخالفة الأولى".
(15) بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية، السيد محسن الخزازي، ج 1، ص 257.
(16) تفسير الميزان، ج 18، ص 256.
(17) شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني، ج 9، ص 242 243.
(18) بداية المعارف الإلهية، م. س، ج 1، ص 257

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع