صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

عليك بخير المجالس

الشيخ حسن أحمد الهادي

 



المجلس موضع الجلوس، في اللغة، والمقصود به هنا الموضع الذي يجتمع فيه أكثر من واحد لغاية من الغايات. وقد أولت التربية الإسلاميّة المجالِس والمجالسة عناية خاصّة، كونها أحد المكوّنات الأساس للبيئة، التي تشكّل أحد أهم روافد التربية والتأثير في الشّخصيّة الإنسانيّة.  فالإنسان موجود اجتماعي وهو يتأثّر ويؤثّر، ينفعل ويتفاعل. والمتفق عليه تربوياً, بل إنسانياً, أن أيّ شخص بمقدار ما تربطه الصّداقة والرّفقة بالطرف الآخر يمكنه أن يرتبط به وجدانياً ومعنوياً، ويؤثّر أيضاً في عقائده وأخلاقه وسلوكه وحتى عاداته وتقاليده. فالثّابت في القيم والأصول التربوية الإسلامية أنّ العوامل الخارجية المحيطة بالإنسان تؤثّر في تربيته من نشأته وحتى نهاية حياته "فالمرء على دين خليله"(1) كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله. وشُبِّه الجليس الجيّد بالعطّار الذي إن لم يعطرك عطره، فإنّ رائحته تؤثّر فيك، والجليس السيئ مثل الحدّاد، إذا لم يحرقك بناره تؤثّر رائحته السيّئة فيك. وروي عن الإمام علي عليه السلام قوله: "واعلموا أن مجالسة أهل الهوى منساةٌ للإيمان ومحضرةٌ للشيطان"(2).

* مجالس يحبها الله تعالى
صنّفت الشريعة الإسلامية المجالس إلى مجالس ممدوحة حثّت الناس على الحضور فيها والاستفادة منها؛ وأخرى مذمومة نهت عن الحضور فيها نظراً لما يجري فيها من محرّمات ومفاسد. ومورد كلامنا هنا عن المجالس الممدوحة فقط.

* مجالس العبادة والذّكر
لا شكّ بأن مجالس العبادة والذّكر تشكّل العمود الفقري لبنية الإنسان الداخليّة والروحيّة، والتي تنعكس إيجاباً على سلوكه الاجتماعي مع الآخر. وإنّ خير المجالس وأعلاها قدراً عند الله، وأجلّها مكانة عنده مجالس الذكر, فهي حياة القلوب، ونماء الإيمان، وذكاء النفس، وسبيل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة. ومما يدل على علوّ مكانتها وأنها خير المجالس، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: "ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر"(3). والعبادة عندنا ليست من نوع الطقوس الفردية المغلقة بنتائجها وآثارها، بل هي علاقة روحية مع الله تعالى تتجلّى آثارها في الخُلق الحسن والابتعاد عن كل ما يندرج ضمن المنكر والحرام على مستوى العلاقة مع الآخر. فإننا إذا ما نظرنا للإنسان نظرة متكاملة على أنه مكوّن من شخصية ذات جوانب جسمية وعقلية ونفسية وروحية واجتماعية، فإن ذلك يتطلّب تنمية هذه الجوانب كلها، وعلى رأسها الجانب الروحي والنفسي المتحقّق بالعبادة، وهذا يؤدّي إلى نوع من التلاقي والانسجام بين الضبط الداخلي الذاتي مع الضبط الخارجي الموضوعي؛ أي تتلاقى عناصر الفكر والإيمان, والحوافز المنبعثة من داخل النفس مع هذه القيم حينما تتجسّد التشريعات, وتصبح روحاً للقوانين, وللأنظمة المختلفة في المجتمع. وهذا ما يفسّر العلاقة الحيوية المتلازمة بين العبادة والسلوك الاجتماعي بين الناس.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "من نظر إجمالاً إلى أحكام الإسلام وبسطها في جميع الشؤون الجامعة من العبادات التي هي وظائف بين العباد وخالقهم كالصلاة والحج وإن كان فيها أيضاً جهات اجتماعيّة وسياسية مربوطة بالحياة... ومن القوانين الاقتصاديّة والحقوقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، لرأى أنّ الإسلام ليس عبارة عن الأحكام العباديّة والأخلاقيّة فحسب"(4). من هذا كله نفهم أن مجالس العبادة والذكر في المساجد وغيرها من الأمور التي حرصت الشريعة على إحيائها في المجتمع، نظراً لما ينتج عنها من آثار تربوية في الفرد والمجتمع.

* مجالس طلب العلم
يفهم من الاهتمام الخاص الذي أبداه الإسلام بمجالس طلب العلم والتعليم والتعلّم، في العديد من الآيات والروايات، حرص الدين الإسلامي على البنية المعرفيّة والعلميّة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع الإسلامي، حتى عدّ طلب العلم فريضة واجبة على كلّ مسلم ومسلمة، ولم يجعل لذلك حدّاً ينتهي إليه، بل جعله أمراً لازماً حتى لو كان في أقصى نقاط الأرض وفي كلّ لحظة من حياة الإنسان: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"(5)، ويقول: "اطلبوا العلم ولو بالصين"(6). وقد أشار القرآن الكريم في العديد من الآيات إلى مكانة العلم ومقام العلماء وذمّ الجهل والجاهليّة فقال الله عزّ وجلّ مخاطباً نبيَّه: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (سورة طه:20). وفي مكان آخر جعل العلم هو ميزان التمايز بين طبقة الذين يعلمون والذين لا يعلمون: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (الزمر: 9). وتدلُّنا كلمات الأئمَّة على الأهميّة الخاصّة للعلم وللرشد الفكري للإنسان فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله: "أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقلُّ الناس قيمة أقلُّهم علماً"(7). وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "العلم ينجّيك، والجهل يرديك"(8)، وفي رواية أخرى: "ولا كنز أنفع من العلم"(9).

وفي الخلاصة يمكن القول هنا: إن الدين الإسلامي يلزم المسلم بالحضور الفاعل في مجالس العلم، كما يلزمه بمجالس العبادة والذّكر لتكون شخصيّته شخصيّة عارفة عالمة تتبادل الأفكار والمعارف والخُبُرات مع الآخرين.

* المجالس الاجتماعية
وتكون إما بين الأرحام، أو بين الأصدقاء والخلّان، أو من خلال الأنشطة الجماعية المختلفة، وقد تكون في ميادين العمل ومراكزه. ولا شك بأن الدين الإسلامي قد ألزم ببعض هذه المجالس، وحبّب أو رجّح الحضور في أخرى. وهذه المجالس سواء كانت مفروضة ومُلزمة من الناحية الشرعية كما في مجالس ولقاءات الأرحام، أم راجحة شرعاً كما في مجالس الأصدقاء والخلَّان، أم كانت مفروضة بحكم النّشاطات الاجتماعية العامة؛ كما في المنظّمات الشبابية والكشفيّة والجمعيّات والاتّحادات ونحوها، أم في مراكز العمل ودوائره، لا بدّ فيها من مراعاة مجموعة من الضّوابط الشّرعيّة والآداب الأخلاقيّة.

* أهمّ الضوابط الشّرعيّة للمجالس
أولاً: وجوب مراعاة الأحكام الشرعية من عدم الاختلاط المحرّم، وعدم المشاركة في المجالس التي يرتكب فيها الحرام في أي قول أو فعل كالغيبة والنميمة ونحوهما...، والخوض بالباطل ونحوه.

ثانياً: التحلّي بالخلق الحسن عند مجالستنا للآخر أو اشتراكنا معه بأي عمل، لأن الأخلاق تعبّر عن هوية الإنسان المسلم. وأكثر ما تتجسّد الأخلاق الإسلامية في ضبط النفس, والاتزان الشخصي، لأن الأخلاق إطار يحدّد سلوك الإنسان وتصرّفاته.

ثالثاً: الاستفادة من هذه المجالس في تقديم النُّصح والموعظة الحسنة وفي القول والعمل، بحسب ما تسمح به الظروف. فهذا من الواجبات التي ترافق المسلم أينما وجد.

رابعاً: الالتفات إلى أن للمجالس حرمتها وآدابها، ومن أهمها أن المجالس بالأمانة بمعنى حفظ أسرار الجلساء وخصوصيّاتهم وعدم البوح بها، عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا أبا ذرّ المجالس بالأمانة، وإفشاء سرّ أخيك خيانة، فاجتنب ذلك"(10).

خامساً: الموازنة بين الجديّة والتّسامر والضّحك: فلا تخلو المجالس التي نشارك فيها من الدّعابة والمزاح والضّحك، وهذا ليس من الأمور المحرّمة، بل قد يكون حاجة للإنسان للترويح عن النّفس، على أن لا يكون سبباً في الغفلة عن ذكر الله. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما مِن مؤمن إلا وفيه دعابة". وفي رواية أخرى وصف المُداعبة أنّها من حُسن الخُلق لأنّك تُدخل السُّرور بها على أخيك(11). وبالمقابل ورد أيضاً: "أن كثرة المزاح تذهب بماء الوجه، وكثرة الضحك تمحو الإيمان.."(12).

* خاتمة
بُنِي الإسلام على أساس اجتماعي، ولم يهمل أمر المجتمع في أيّ شأن من شؤون البشر، فالكثير من التّكاليف والواجبات الإسلاميّة يتوقَّف على وجود مجتمع وظرف اجتماعي ملائم، والمسلم مكلّف بالتدخّل في الأمور الاجتماعيّة، بل حتّى العبادات الفرديّة، والأخلاق لها جنبة اجتماعيّة واضحة. فالإنسان في الإسلام كتلة من العلاقات المتنوّعة مع المجتمع(13)، بل متى قام فرد من أفراد المجتمع بأمرٍ ما فإنّ ذلك ينسب إلى المجتمع ككل، وذلك لأن روح المجتمع وإرادته تنبع من أفراد هذا المجتمع(14). وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله: "من خلع جماعة المسلمين قدر شبرٍ، خَلع رَبقَ الإسلام من عنقه"(15). ويرى الإمام الصادق عليه السلام الاجتماع من الضروريّات الحياتيّة إذ يقول: ".... إنه لا بدّ لكم من الناس، إنّ أحداً لا يستغني من الناس حياته، والناس لا بدّ لبعضهم من بعض"(16). وهذا ما يدلّ بوضوح على حرص الإسلام على الاستفادة القصوى من المجالس وتوجيهها بالآداب والقيم الإسلامية، كونها تشكّل أجلى وأبرز مظاهر الاجتماع الإنساني، وإنْ على نحو مصغّر؛ فالتأثير والتأثّر لا يرتبطان بكِبر المجتمع أو صغره، بل بما يدور فيه من فكر وثقافة، وما يمارسه الأفراد من سلوك وعادات وأعراف وتقاليد.


1) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، ص 48.
2) ميزان الحكمة، الريشهري، ج 1، ص 403.
3) بحار الأنوار، المجلسي، ج93، 163.
4) كتاب البيع، الإمام الخميني، ج2 ص459.
5) نهج الفصاحة، ترجمة أبو القاسم ياينده، ص64.
6) بحار الأنوار، ج1، ص 177.
7) بحار الأنوار، ج1، ص 164.
8) عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 34.
9) ن. م، ص380.
10) مستدرك الوسائل، ج8، ص 398.
11) يراجع: وسائل الشيعة، باب استحباب المزاح والضحك من غير إكثار.
12) ن. م.
13) آل عمران/104، الأنعام/153، البقرة/143.
14) البقرة، 79، آل عمران، 112.
15) بحار الأنوار، ج2 ص267.
16) وسائل الشيعة، ج8، ص399.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع