نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مشاركات القرّاء: ليلةَ نهضنا من تحت الركام


محمّد لمع


بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من التدمير والمجازر، وبعد مجزرة قانا الثانية، صار الحديث عن هدنة إنسانيّة لانتشال الضحايا وإيصال الغذاء للمحاصرين.
كانت عربصاليم قد فرغت تماماً إلّا من المقاتلين وبعض الصامدين.


دخلت الهدنة ليومين حيّز التنفيذ، لكنّ العدوّ الإسرائيليّ كعادته بدأ الخروقات منذ اللحظة الأولى، والوضع صار هادئاً بشكل عامّ. كانت كلّ جسور الجنوب قد قُصفت وانقطعت الطرق كلّها صوب الشمال باستثناء طريق جباع - جزّين – باتر. في اليوم الأوّل للهدنة كنّا نغادر المسجد بعد صلاة الظهر، وإذ بسيلٍ من السيّارات لا ينتهي، يعبر البلدة باتجاه جرجوع ثمّ جزّين، لقد كان خطاً متصلاً مثل دود القزّ. سيارات ملأى بفرش الإسفنج والأطفال، وجوه ضائعة بعيون تائهة أنهكتها الحرب والرعب لشدّة الأهوال التي رأتها. منظر المهجّرين حزين يميت القلب، آلاف من الناس تركوا منازلهم وركبوا السيّارات صوب المجهول، غير معلومٍ أن يكون لهم عودة، وغير معلومٍ أن يعيشوا. عدت إلى البيت والحزن يعتصرني، ولمّا رأيت أمّي قلت لها: آن لك أن ترحلي. نظرت إليّ وقالت: لا أبرح هذا المكان من دونك، أأنجو بنفسي وأتركك هنا لتموت؟ أجبتها: انظري، إنّهم يدمّرون المنازل على رؤوس أصحابها، أنا من دونك أستطيع النوم في البراري، لكن إذا بقيتِ أنتِ هنا فقد يقصف العدوّ المنزل ونموت. كانت هذه الحجّة قويةً فاستسلمتْ ومضت تجهّز حقيبتها. نقلتُها إلى حيث السيّارة التي ستقلّها إلى بيروت. كان الوداع ابتسامات أملٍ بلقاءٍ قريبٍ مبللةً بالدمع وغصّة في القلب مخافة أن يكون هذا الوداع الأخير. مضت السيّارة وفتحت أمّي النافذة وغدت تلوّح بيدها وأنا تسمّرت مكاني أرقبها تغيب في البعيد وصوب المجهول. عدتُ إلى البيت وقد صرت وحيداً تماماً، إخوتي في الكويت، أبي في بيروت وأمّي على طريقٍ ما أرادت سلوكها لولا ضغطٍ منّي. دخلت المنزل فكان سكونٌ غريب قد سيطر، وطيف أمّي يملأ الأرجاء. وحدهما عينا أمّي كانتا تلاحقانني، ماذا لو حصل لها مكروه؟ هي لم ترِد الذهاب وأنا أكرهتها على الأمر. دارت الأفكار في رأسي فتخيّلت العدوّ يقصف قوافل النازحين وأمّي بينهم، ثمّ رأيتُني جالساً عند قبرها، فهربت من عينيها وخرجت إلى غرفة نومها وفتحت خزانة الثياب، شممتها وبكيت بصمت. جاء عصر ذلك اليوم وأنا مسمّرٌ قرب الهاتف، وسمّاعات الراديو في أذني أنتظر سماع خبر عن أمّي. هل وصلت؟ هل ماتت؟ كيف سأعرف؟ هل ستصبح أمّي رقماً بين الضحايا؟

كان السواد قد سيطر عليّ، والأفكار الشيطانيّة تروح بي وتجيء. كان لغيابها أثر سلبيّ، فوجودها كان يضفي السكينة على قلبي. غريبةٌ هي الأمّ، تحميك طفلاً وشابّاً وكبيراً، ونظرة منها تشيع الطمأنينة والدفء. سوف أفتقد هذا الدرع الذي يحميني بدءاً من هذه الليلة. لقد صرت مكشوفاً ومتعرضاً لصنوف الأهوال. أدرتُ الراديو فبدأ التشويش على إرسال إذاعة النور، وبدأ العدوّ يبثّ على الموجة نفسها أخباراً كاذبة عن "هروب" سماحة السيّد حسن (حفظه الله) تارةً، وعن تدمير ترسانة المقاومة الصاروخيّة تارةً أخرى، ثمّ مذيع صهيونيّ بلهجة عربيّة مكسّرة يهزأ بالمقاومة ويقول: حسن، اخرج من المغارة، اذهب إلى سوريا.

توجّهت صوب التلفاز، فلم تصمد البطاريّة أكثر من ربع ساعة، وانطفأ آخر نور في البيت. وقبل انقضاء مهلة الهدنة، أغارت الطائرات على جسرَي حبّوش والوادي الأخضر للمرّة العشرين، ثمّ ضُربت طريق حومين أيضاً، ودمّرت كلّ أملٍ بإمكانيّة الخروج. دقائق قليلة، غابت الشمس فحلّ ظلام دامس وهدوء مرعب، وغارة جديدة على اللويزة اهتزّت لها المنطقة، وعلى جهاز اللاسلكيّ علمنا باستشهاد امرأتَين. تذكّرتُ أمّي، لقد فعلها العدوّ، خرق الهدنة واغتال الأبرياء، أين أنت يا أمّي؟ حلّ الظلام، ونحن تحت الحصار والهجوم الجوّيّ والإعلاميّ، ولا ضوء حتّى القمر والنجوم، ولا أثر لمخلوق في البلدة. أنا أختنق...

جاء عبد الله وكلّمني فلم أجب، كنت أضعف من أن أردّ عليه، لقد أصابتني الحرب في الصميم في ذلك اليوم. استطاعت تدمير كلّ ما في داخلي، صرت أحتاج إلى معجزة، فأنا على شفير إشهار استسلامي!

وفجأة يرنّ الهاتف... إنّها أمّي: "أنا وصلتُ بخير، تعذّبنا في الطريق، لكن الحمد لله وصلنا".

لم يكن يهمّ كم تعذبتْ ولم أسمع أصلاً بقيّة الكلام، المهمّ أنّها بخير، وهذه الصخرة قد أزيلت عن صدري. أدرت الراديو، إذاعة النور من جديد دون تشويش، ردّت المقاومة على العدوّ في عمقه، وأوقعت قتلى في صفوف مستوطنيه.

لقد بدأت الأخبار الطيّبة، وأنا عدتُ إلى الحياة. هي الحرب النفسيّة، لكن هيهات تنال منّا! هيهات تنال الميركاڤا، كتلة الصفيح الملأى بالمرتزقة الآتين من أطراف الأرض، والمجتمعين على الباطل والظلم! هيهات ينالون من رجال الله، المجتمعين على الحقّ!

التفتُّ صوب عبد الله، أين الطعام؟ أنا جائع، أمّي بخير، وأنا على قيد الحياة، والصواريخ تتساقط، وسماحة السيّد حسن (حفظه الله) والمجاهدون بخير. عبد الله، أريد أن آكل... لقد خرجتُ للتوّ من بين الركام، وبدأتُ المقاومة من جديد... النصر آتٍ... هو صبرُ ساعةٍ فقط... هاتِ كتاب الدعاء، افتحه عند دعاء الجوشن الصغير... سنهزمهم في صميم أرواحهم، وسندكّ قلوبهم ونملؤها رعباً، تماماً كما تدكّ الصواريخ عمق كيانهم الهجين.

كان ذلك، يوم نهضتُّ من تحت الركام... وجلست أنتظر ساعة النصر... ساعة الوعد الإلهيّ... وما تأخّر.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع