صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

صفات عباد الرحمن (10): يقولون ربّنا هب لنا قرّة أعين

آية الله الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي

 



من الخصائص والمميزات التي ذكرها الله تعالى في سورة الفرقان لعباد الرحمن، أنهم يهتمون بإصلاح العائلة والأبناء. وقد نسبت هذه السيرة الحسنة في القرآن الكريم إلى النبي إبراهيم عليه السلام ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (الفرقان: 74).

وتشير الآية الشريفة التي بين أيدينا إلى موضوعين: الأول، اهتمام عباد الرحمن بالعائلة، والثاني، الاهتمام بإصلاح ورقي المجتمع.  أما فيما يتعلق بالموضوع الأول فتقول الآية الشريفة إنّ عباد الله اللائقون لعبادته هم الذين يبادرون إلى إصلاح عائلاتهم ويرغبون في أن تكون زوجاتهم وأبناؤهم من الصالحين، وقد امتاز الأنبياء والصالحون بهذه الخاصية، حيث ينقل القرآن الكريم أن إبراهيم وابنه عندما كانا يبنيان بيت الله، كانا يدعوان بهذا الدعاء: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّك (البقرة: 128). إنّ مقام النّبي إبراهيم عليه السلام مقام عالٍ كما تبين الآيات القرآنية. وتوضح الروايات أن الله تعالى قد منح إبراهيم مقام النبوّة والرّسالة ثم أعطاه مقام "الخلّة"؛ ﴿وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (النساء: 125) ثم أعطاه مقام الإمامة ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما (البقرة: 124) فكان هذا المقام أعلى مقام ومنزلة لإبراهيم عند الله تعالى. ثم وبعد أن أُعطي إبراهيم عليه السلام هذا المقام توجه مباشرة إلى الله فقال: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي (البقرة: 124)؛ فجاءه الجواب من الله تعالى: ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. هذه سيرة النبي إبراهيم عليه السلام الذي كان يعمل لنفسه ويفكِّر في صلاح ذريته وعائلته.

* قرة أعين عباد الرحمن
ولكن ما المقصود من عبارة ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن؟ لقد استعملت عبارة "قرَّة العين" ثلاث مرات في القرآن الكريم: الأولى، في هذا المكان الذي نحن بصدد الحديث عنه؛ الثانية، ما جاء حول صفات عباد الله حيث ذكر ذلك في سورة السجدة: ﴿...تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ... (السجدة: 16 17). وقد جاء في الرواية: "ولا خطر على قلب بشر" (1) وهذا يعني أن البشر عاجزون عن تصورها. فقرة الأعين أعلى من باقي النِّعم، على أساس أنّه يمكن فهم باقي النّعم، أما قرة الأعين التي جعلها الله لخواصّ عباده فلا يمكن تصوّرها. أما المرة الثالثة التي وردت فيها هذه الكلمة فهي في قصة ولادة النبي موسى عليه السلام حين طلبت امرأة فرعون من زوجها أن تحتفظ بالطفل النبي موسى عليه السلام لأنها كانت عاقراً، وذلك ليكون ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ (القصص: 9). لذلك كان موسى عليه السلام، وكما ورد في القرآن، قرة عين لفرعون وزوجته.

* فلسفة كون الزوجات والأبناء قرة أعين
إن فلسفة كون الزوجات والأبناء قرة أعين يمكن تفسيرها على الشكل التالي: إن الإنسان يمتلك ميلاً غريزياً نحو الزوجة والأبناء. وهذه حكمة إلهية جعلها الله تعالى في الإنسان، بالأخص فيما يتعلق بالزوجة التي هي عامل من عوامل بقاء الإنسان. فلو لم يكن هذا الميل موجوداً عند الإنسان، فلن يكون الإنسان جاهزاً لتحمّل المشقّات من أجل العائلة. وأما الفلسفة الوجودية لهذه الغريزة الطبيعية في الإنسان، فهي أنها تؤدي إلى بقاء نسل الإنسان وتساعده في الاستمرار. يضاف إلى ذلك أن الله تعالى قد جعل بين الأزواج المودة والمحبة بهدف ثبات العائلات. جاء في القرآن الكريم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَة (الروم: 21). وهذه المودة والرحمة هما أمران يختلفان عن الجذب الغريزي. فالميل الغريزي يؤدي إلى اختيار الزوجة وتشكيل العائلة وبعد ذلك تسود المحبّة والمودّة بين الأزواج باعتبارها سبب ثبات العائلات. بناءً على ما تقدم، فإنّ مقتضى الحكمة الإلهية وجود هكذا محبة بين الرجل والمرأة وبين الأزواج وبين الوالدين والأولاد لتتحرك مسيرة الحياة ويتم تشكيل العائلة فينشأ المجتمع منها.

* الإفراط في حب الأبناء
إن المودة والرحمة اللتين جعلهما الله تعالى بين الأزواج أو بين الوالدين والأولاد تصبح حالة إفراطية إذا تجاوزت حدودها وهذا يعني وجود انحراف فيها.  فإذا أفرط الوالد والوالدة في محبة الولد لا يمكن بعد ذلك تربيته بشكل صحيح وستكون سبباً في شقائه، بل سيصبح شخصاً فاقداً للهوية، وسيكون سبب شقاء الأبناء مع العلم أن المحبة ينبغي أن تكون سبب سعادتهم. وكما أن الأبناء المحرومين من محبة الوالد والوالدة قد يصبحون مجرمين، فالإفراط في المحبة تجعلهم يصبحون أشخاصاً لا هوية لهم، تافهين تابعين لا يحملون أي نفع لأنفسهم وللآخرين.

* الاعتدال سر بقاء العائلات
هنا كما في كافة مجالات الحياة الأخرى ينبغي الاعتدال؛ فالإفراط والتفريط كلاهما انحراف. وقد تؤدي المحبة الإفراطية بالإنسان إلى ترك تكاليفه؛ فلو أحاطت محبة الزوجة والأبناء قلب الإنسان، سنراه يتخلى عن التكليف إذا ما حصل تزاحم بين الاثنين. جاء في الآية الشريفة: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين (التوبة: 23) فهذه المحبة إذا تجاوزت حدودها، ستجعل الزوجة والولد أكثر محبة عند الإنسان من الله والجهاد في سبيله؛ لذلك نقول إن المحبة الإفراطية هي سبب شقاء الإنسان وسبب ترك الواجب، وترك الواجب يعني جعل مصالح الإسلام مهددة بالخطر. وفي تلك الحال يهدد الله تعالى بقوله ﴿فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ (التوبة: 24) وهذا تهديد عجيب! ولذلك إذا كان صحيحاً أن الزوجة والولد هما قرة عين الإنسان فلا بدّ أن تتجلّى محبّتهما في شكل معتدل، فلا ترجح محبة الزوجة والولد على التكاليف الإلهية فيمتنع عن القيام بها.

* المعيار هو الحق والباطل
بناءً على ما تقدم ينبغي الإشارة إلى عدد من المسائل في خصوص محبة الزوجة والولد، فقد ورد في بعض الأماكن التأكيد على الالتفات إلى أن الولد والزوجة قد يصبحان عدوين للإنسان. لا تتصور أن العلاقة العاطفية بين هذا المجموع يؤدّي باستمرار إلى السعادة والمحبة والحميمية، فقد جاء في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم (التغابن:14) وجاء في آية أخرى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم (التغابن: 15). هنا يأتي التحذير من الله تعالى أن لا تظنّوا بأنّ الزوجة والولد يؤدّيان دائماً وبشكل مطلق إلى سعادة الإنسان. وهناك من الأشخاص من يقدّم منافعه الشخصية، ولذائذه المادية على منافع ولذائذ الزوجة والأبناء عند التزاحم. ويظهر ذلك بشكل واضح في المجتمعات الصناعية والمادية المعاصرة حيث ضعفت العواطف الإنسانية والوفاء للأب والأم والأبناء. وكان هذا الأمر يقع في الماضي، حيث نشاهد أنّ بعض الزوجات كنَّ عدوّات لأزواجهنّ والأبناء أعداء لآبائهم. فالمعيار في العلاقة بين أفراد العائلة، الوالدين والأبناء، الزوج والزوجة، الأخوة بين بعضهم بعضاً، المعيار هو الحق والباطل وأن لا تؤدي العلاقة معهم إلى التعارض مع الدين فتضطرون إلى الامتناع عن الحفاظ عليها.  وحتى في حال أصبح الوالدان مشركَين، على الشاب المسلم أن يكون تعامله مع والديه حسناً مع الانتباه، طبعاً، إلى مسألة عدم اتباعهم: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً (لقمان:15).

* مهارة عظيمة
من جهة أخرى، فإن من المهارات العظيمة أن يدرك الإنسان كيف يوجّه عواطفه وأين عليه إظهارها، لذا ينبغي له أن يمتلك قوّة كبيرة على ضبط عواطفه وأن يكون تابعاً في ذلك للعقل والشرع. فالذين يملكون علاقة عاطفية قوية مع الزوجة والولد أو الأب والأم، هؤلاء قد لا يلتفتون إلى أن هذه العلاقة قد تصل أحياناً إلى حدّ الإفراط، فيصبح هذا الحب مانعاً من القيام بالتكاليف الواجبة. مع العلم أن رضاهم ليس شرطاً ضرورياً عند وجود تكليف واجب، لذلك على هؤلاء السعي كي لا يكون الحب مانعاً أمام القيام بالتكليف الشرعي ويجب العمل أيضاً ليكون الحبّ والبغض حباً وبغضاً منطقياً، معقولاً ومشروعاً وأن لا يخرج عن حدّ الاعتدال. أما رعاية حدّ الاعتدال في الحب فهي مسألة لا يستهان بها وتحتاج إلى تعليم. وقد كان عباد الله الصالحون يعملون دائماً على عدم ترجيح كفة حب الزوجة والأبناء على حب الله. ولعلّ أفضل مثال على ذلك ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إذ قال: "ولقد كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وأخوالنا وأعمامنا" (2). فعندما يوجب التكليف الديني ويتحرك بعض الأشخاص ضد الإسلام، يجب حينها مواجهة عدو الإسلام ولا يختلف الأمر سواء كان المعادي للإسلام أباً أم أخاً أم عماً، وليكن من يكون حيث يجب مواجهة عدو الإسلام ثم يقول الإمام عليه السلام: "فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر" (3) ثم يتابع قائلاً: "ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم لما قام للدين عمود ولا اخضرّ للإيمان عود" (4). وبما أن الدين ما زال باقياً وأن خيمة الإسلام ما زالت مشيدة، فهذا كله بسبب تلك التضحيات التي قدمناها، لقد حاربنا أعداء الدين حتى لو كانوا من الأقربين إلينا، حاربناهم لأنهم كانوا على باطل، هذا هو الصدق الذي أراده الله تعالى منا. أطعنا الله تعالى وعندما أثبتنا صدقنا نصرنا من عنده، لذلك فهذا الأمر يحتاج إلى أصلب الرجال الذين لا يخافون شيئاً عند القيام بالتكليف.

* خلاصة ما تقدم
بناءً على ما تقدم، فإن حب الولد والأب والأخ والأخت أمر مطلوب ونعمة إلهية توجب بقاء البشر وبقاء العائلة، وبالتالي تأسيس مجتمع صحيح، ولكن إذا وصل هذا الأمر إلى حدود الإفراط ترك آثاراً عكسية. إذاً، فحب الأولاد والزوجات والأصدقاء غير مطلوب إذا كان يمنع الإنسان عن القيام بالتكاليف الإلهية ويؤدي إلى سقوط الإنسان، ولو خرج هذا الحب الإلهي الذي هو نعمة إلهية عن حدّ الاعتدال، فسيترك آثاراً سلبية عديدة على حياة الإنسان.


(1) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 281.
(2) مصباح البلاغة، الميرجهاني، ج 2، ص 267.
(3) م.ن.
(4) م.ن.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع