نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

من القلب إلى كل القلوب: واختم لنا بخير...

سماحة السيد حسن نصر الله

 


من المسائل المهمة جداً في حياتنا وسلوكنا وعلاقتنا مع الآخرين مسألةُ تقييم الأشخاص وكيف نتعامل معهم، هل على أساس الماضي فقط؟ أم على أساس الحاضر؟ وما هي الأسس التي نبني عليها موقفنا العاطفي والعملي تجاههم؟ فإذا أردنا تقييم إنسانٍ ما، فإن من الجَور أن نبني على ماضيه فقط، بل يجب الأخذ بعين الاعتبار حاضر هذا الإنسان. أما الذي يختلف ماضيه عن حاضره؛ فإن الإسلام يقودنا للتعاطي معه على أساس حاضره، فالمهم هو حاضر الإنسان الآن وواقعه الحالي. وبناءً على ذلك، فإن المعيار الذي يتعلّق بحسابات وموازين الآخرة في تقييم الأشخاص هو حالهم عند رحيلهم عن هذه الدنيا؛ فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فيحيف (يظلم) في وصيّته فيختم له بعمل أهل النار، وإنّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيّته فيختم له بعمل أهل الجنة"(1). فالرواية تشير إلى أن العمل الذي يختم به الإنسان حياته مؤشرٌ على حاله ووزنه في الآخرة.

* من موارد دعاء النبي والأئمة عليهم السلام
إذاً، فالذي يجب أن يشغل بال الإنسان حقيقةً ليس الحاضر بقدر المستقبل، مستقبل دينه وسلوكه وأخلاقه والتزامه، التزامه الفكري والسياسي والعملي. فهذا الذي ينبغي أن يشغل حيّزاً كبيراً من تفكيره؛ ولهذا نجد في الأدعية عن النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام الطلب من الله أن يختم حياتهم بالخير وأن يرزقهم حسن العاقبة وأن يجعل عواقب أمورهم خيراً. وهنا، علينا أن نفكّر ماذا ينبغي أن نفعل لتكون خاتمتنا طيّبة فتحسن عاقبتنا. وما هي الأمور التي علينا أن نحذر منها ونبتعد عنها حتى لا تسوء عاقبتنا.

* عوامل مؤثرة في العاقبة
إن العوامل والأمور المؤثرة في هذا المقام كثيرة، ولكن سأكتفي بذكر المهم والمؤثر منها:

1ـ الأمن من مكر الله سبحانه وتعالى

ويكون ذلك من خلال اطمئنان الإنسان إلى عمله الماضي واعتبار نفسه متديّناً، مجاهداً ومضحّياً... وقد يصل به ذلك إلى الإعجاب بعمله والاغترار به. وهذا الأمن من مكر الله سبحانه يؤدي إلى نتائج سلبية على المستوى الروحي. ومع الوقت يجد الإنسان نفسه في مكان آخر مع العصاة والظّالمين. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: "يا ابن آدم إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره" (2).
فانتبه أيها الإنسان من أن تعتَبر نفسك أهلاً لهذه النّعم. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحذّر من هذا الأمر ويوصي المؤمن بأن يكون خائفاً وقلقاً من سوء العاقبة، فعنه صلى الله عليه وآله: "لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقّن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له..." (3). فقلق المؤمن وخوفه ينتهيان عند نزع الروح. فمتى ما دام التكليف فعلياً عليه فهو في حالة خوفٍ وقلقٍ من أن يختم حياته بعملٍ سيّئ فتسوء عاقبته لا سمح الله.

2ـ اليأس من رحمة الله
عندما يتذكر الإنسان ماضيه السّيئ ومعاصيه وآثامه وخطاياه التي قد ارتكبها ييأس من رحمة الله ويعتبر أن باب التوبة قد أُغلق بوجهه، وهذا يجعله يغرق أكثر في المعصية، وبالتالي تسوء خاتمته وعاقبته. الله سبحانه وتعالى يقول لنا لا تيأسوا ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا (الزمر: 53). فالآية تقرر أن باب التوبة والإنابة والرجوع إلى الله مفتوح ولا يجوز للإنسان أن ييأس من رَوح الله مهما كانت ذنوبه ومعاصيه كثيرة. إلا أنّ هناك أمراً لا بُدّ من الالتفات له، وهو أن هذا الاستغفار لا علاقة له بما تعلَّق في ذمّة الإنسان من حقوق الناس، كالاعتداء عليهم أو على أموالهم وممتلكاتهم. فلا بُدّ من إرجاع الحقوق إلى أصحابها والمسامحة منهم. من هذين العاملين نفهم معنى أن يعيش الإنسان المؤمن بين الخوف والرجاء؛ فلا الأمن من مكر الله جائز ولا اليأس من رحمته جائز أيضاً.

3ـ الغفلة عن الله سبحانه وتعالى
فالإنسان المؤمن بالله سبحانه يمكن أن يغفل عنه وينساه. هذه الغفلة إذا طالت فإنها تؤدي إلى قسوة القلب وإلى البعد عن الله، بل الله سبحانه يبعدنا عنه ﴿نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ (التوبة: 67) ويكلنا إلى أنفسنا ويرفع عنا عنايته وهدايته ولطفه، وبالتالي ستكون عاقبتنا وخاتمتنا سيئة. وكذلك عندما نأتي لموضوع الغفلة عن الموت وعمّا بعد الموت فإن ذلك يؤدي إلى قسوة القلب والتعلق بالدنيا والغرق في الشهوات والأطماع والأهواء فتسوء عندئذٍ العاقبة والخاتمة. إذاً، فالذي يغفل عن الله ولا ينتبه إلى انغماسه في المعاصي ولا يجد ما يردعه عن تلك الأفعال والأقوال. ولكن، بالمقابل، الذي يبقى يقظاً من خلال حضور الله سبحانه وتعالى في وجدانه لا يغفل ولا ينسى، بل يبقى ذاكراً، وهنا الذكر ليس المراد منه الذكر اللساني، بل الذكر الحقيقي الذي أرى من خلاله حضور الباري عزّ وجلّ في كل المواقف، فلا أعصيه خجلاً وحياءً منه، ولا أطيعه تقرباً وتزلّفاً للناس، بل شوقاً وحباً له عزّ وجلّ.

هذا التذكُّر لله سبحانه والانتباه إلى حضوره وإلى مراقبته وإلى أنه سميعٌ وبصير ومحيط، يمنع الإنسان من المعصية ويشجعه على الطاعة. وفي حديث للإمام الباقر عليهم السلام قال: "ثلاثٌ من أشدّ ما عمل العباد: إنصاف المرء من نفسه، ومواساة المرء أخاه، وذكر الله على كل حال، وهو أن يذكر الله عزّ وجلّ عند المعصية يهمُّ بها فيحُول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (الأعراف: 201)(4). فلنتأمل، في هذه الأمور الثلاثة التي ذكرتها الرواية فإنها أشد ما فرض الله:

الأمر الأول: إنصاف الناس من نفسك
وفي الواقع تحقيق هذا الأمر بحاجة إلى مجاهدة وإلى مرتبة عالية من الإيمان، فأن تحكم بالعدل بين المتخاصمين أمر جيد ومطلوب ولكن أن تحكم بالعدل فيما لو كنت أنت نفسك أو أحد أقربائك طرفاً في القضية، فهذا بحاجة إلى إخلاص وإلى مرتبة عالية من التقوى والورع والتوفيق الإلهي.

الأمر الثاني: مواساتك لأخيك
أن تواسي أخاك في مالك إذا احتاج لك أو وقع في مشكلة تعينه وتشدّ أزره. وهنا كلمة الأخ مطلقة وهي أعم من الأخ الرحمي.

الأمر الثالث: ذكر الله على كل حال
هذا الذكر الذي يرغّبك في طاعة الله ويقوي عزيمتك ويدفعك ويحثُّك للاقتراب أكثر في ساحة العبودية لله سبحانه وتعالى، كما أنه يردعك ويمنعك من ارتكاب المعصية. وفي الواقع، إن التجربة تقودنا إلى أن لا نركن إلى أية ضمانات وأن لا ندع طول الأمل يدخل ساحتنا، فلا الشباب ولا الصحة ولا المال يمكن أن تشكل ضمانة للإنسان لتجنب سوء العاقبة وسوء الخاتمة.  وفي هذا السياق نرى أن الكثير من التشريعات الإسلامية جاءت لتحثَّ الإنسان على التذكر والتفكر بالعاقبة والخاتمة، ومن ذلك استحباب إعلام المؤمنين عند موت الإنسان، ومواساة أهله، واستحباب زيارة القبور... فكل هذه الأمور تحيي قلب الإنسان بالموعظة وتجعله ذاكراً، لا يغفل ولا ينسى ربّه. عن الإمام الباقر عليه السلام: "إياك والغفلة، ففيها تكون قساوة القلب" (5).

4ـ التقوى والتزكية
يقول تعالى مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وآله: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (طه: 132)، ويقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص: 83). نستفيد من هاتين الآيتين أن العاقبة الحسنة هي نتاج التقوى. والتقوى تعني أن يتّقي الإنسان كل ما يفضي إلى الإثم ويوقعه فيه. ولذلك ورد عن الإمام علي عليه السلام: "التقوى اجتناب" (6)، وبمعنى آخر التقوى تعني المراقبة، أي أن يعيش الإنسان حالةً يراقب فيها نفسه وأقواله وأعماله فيردعها عن ارتكاب الذنوب وفعل المعاصي ويشجّعها على فِعل الطّاعات والواجبات. عن رسول الله صلى الله عليه وآله في وصيته لأبي ذر: "عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله"(7). فالتقوى هي الأساس والأصل للأمور الثلاثة التي تقدّم ذكرها، ومن حصل عليها فقد تمسّك برأس الأمر كله. وعن الإمام علي عليه السلام: "أيسرُّكَ أن تكون من حزب الله الغالبين؟ اتق الله سبحانه وأحسن في كل أمورك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"(8). والحديث الأخير في مسألة التقوى هو ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "التقوى حصنٌ حصين..." (9). فالمتقي محصَّن، فلا شياطين الجن والإنس ولا الفضائيات ولا الإنترنت ولا زخارف الدنيا وبهارجها ولا كل ما يراه ويسمعه يمكن أن ينالوا من عزمه وإرادته والتزامه واندفاعه وتقواه.

* التّزكية ضمانة التقوى
هذا بالنسبة للتقوى، وأما التزكية التي من خلالها يصل الإنسان إلى مرحلة يسيطر فيها على قواه النفسية والجسدية فتصبح نفسه مطيعةً ومنسجمةً ومقتنعةً وتابعةً لما يريده الله سبحانه، فلا يحتاج بعدها المرء لمعركة مع نفسه الأمّارة حتى يتخلى عن الذنب ويتركه، بل يرى أن من السهل اجتناب المعاصي والذنوب. هذه التزكية بحاجة إلى تربية وجهد وعناء وصبر وعزيمة وإصرار وتوكّل وإرادة، وبالتالي يصبح عندنا ضمانة للتقوى ولحسن العاقبة ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (الشمس: 9)، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (الأعلى: 14). وفي الختام نذكر أنّ هناك أعمالاً خاصة تساعد على حسن العاقبة، منها قضاء حوائج الإخوان والإحسان إليهم، فعن الإمام الكاظم عليه السلام: "إن خواتيم أعمالكم قضاءُ حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلا لم يقبل منكم عمل، حنّوا على إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا" (10). 

نسأل الله سبحانه وتعالى حُسن العاقبة وأن يختم لنا بخير وأن يُعيننا على أنفسنا وعلى ابتلاءاتنا وعلى اختباراتنا وعلى امتحاناتنا لنكون إن شاء الله من أهله ومن أهل جنته ورضوانه ومن أهل جواره وهذا ما يحتاج إلى الدعاء والنية والعزم والإرادة والجهد.


(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 100، ص 200.
(2) نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، الشريف الرضي، ج 4، ص 7.
(3) بحار الأنوار، م. س، ج 6، ص 176.
(4) الخصال، الشيخ الصدوق، ص 131.
(5) بحار الأنوار، م. س، ج 75، ص 164.
(6) عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص 60.
(7) بحار الأنوار، م. س، ج 63، ص 289.
(8) ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج 1، ص 600.
(9) بحار الأنوار، م. س، ج 75، ص 62.
(10) م. ن، ج 72، ص 379.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع