نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مع الإمام الخامنئي: عاشوراء إحياء القيم الإنسانيَّة



إنّ واقعة عاشوراء وإن أفاض فيها الكثير من الكلمات والخطب، وأُلقيت فيها البحوث والدراسات، إلا أنَّ جوانب وآفاق هذه الحادثة العظيمة الخالدة مهما بُحثت تبقى تشعّ منها أبعاد جديدة ويشرق منها مزيد من الأنوار فتسطع على حياتنا. والبحث في عبر عاشوراء يختصُّ بالزمن الذي تكون فيه الحاكمية للإسلام. ويمكن القول إنَّ مثل هذا البحث يختصُّ الجانب الأساس منه بمثل هذا الزمن الذي يوجب علينا أخذ العبرة.

* ارتداد وانحراف
كيف أنَّ المجتمع الإسلامي الذي التفَّ حول الرسول وأحبّه وآمن به وامتلأ بالدين حبّاً وشغفاً، ونشأ وتنامى في ضوء الأحكام، كيف وصل به الحال بعد خمسين سنة إلى أن يجتمع ويقتل سبط الرسول أبشع قتلة؟ وهل هناك ارتداد ونكوص وانحراف أشدُّ من هذا؟! ألقت السيّدة زينب الكبرى عليها السلام في سوق الكوفة خطبة عصماء بليغة تمحورت حول هذا، قالت فيها: "ألا يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟"(1) وذلك لأنَّهم حينما شاهدوا رأس الحسين على الرمح، وبنت عليٍّ مسبيَّةً، ولمسوا عمق المأساة ضجّوا بالبكاء، "فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنّة..." ثمَّ قالت: "إنَّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً تتَّخذون إيمانكم دخلاً بينكم"(2). وهذا هو النكوص والارتداد ورجوع القهقرى. فأنتم في الحقيقة كالمرأة التي غزلت الصوف ومن بعد ما أتمَّته نقضت الغزل وعادت إلى ما كانت عليه. وهذا هو التراجع. وهذا عبرة. كلُّ مجتمع إسلامي معرّض لمثل هذا الخطر. فهل كلُّ مجتمع إسلامي معرّض للانسياق لمثل هذه الخاتمة؟ من الطبيعي أنَّه إذا اتَّعظ لا ينتهي إلى مثلها، ولكنه إذا لم يتعظ فمن الممكن أن يتسافل إلى هذا الحد. فهذه عبر عاشوراء. أما نحن فقد وفّقنا في هذا العصر بحمد الله وفضله لاقتفاء السبيل من جديد، وإحياء اسم الإسلام في العالم، ورفع راية الإسلام والقرآن عالية. إلا أننا إذا انتابتنا الغفلة، ولم نحترس أو نحاذر ونثبت على المسار كما ينبغي، فمن الممكن أن ننتهي إلى نفس ذلك المصير. وهنا يتَّضح معنى العبرة من عاشوراء.

 ثلاث مراحل من حياة الحسين عليه السلام
ولأجل أن يتَّضح مدى عظم تلك الفاجعة، أستعرض بصورة إجمالية ثلاث مراحل قصيرة من حياة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، لنرى شخصية الحسين عليه السلام في هذه المراحل الثلاثة. هل من الممكن أن يحتمل أحد أن تحاصره حشود من أمّة جدّه في يوم عاشوراء وتقتله أشنع قتلة هو وأصحابه وأهل بيته وتسبي عياله؟ تتلخَّص تلك المراحل الثلاثة في:

- المرحلة الأولى: في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كان الحسين عليه السلام طفلاً مدللاً ومحبوباً عند رسول الله صلى الله عليه وآله. الرسول صلى الله عليه وآله الذي كان زعيم العالم الإسلامي وحاكم المسلمين ومحبوب كلِّ القلوب يضمُّه بين ذراعيه ويصطحبه إلى المسجد. فحينما كان الرسول يلقي خطبة من فوق المنبر علقت رجل هذا الطفل بعائق فسقط على الأرض، فنزل الرسول صلى الله عليه وآله من فوق المنبر واحتضنه ولاطفه. لاحظوا، هكذا كانت محبة الحسين عليه السلام عند الرسول صلى الله عليه وآله. ولو قال قائل حينذاك إنَّ هذا الطفل سيقتل على يد أمّة هذا الرسول بلا جرم أو جريرة، ما كان ليصدّقه أحد.

- المرحلة الثانية: هي الفترة التي استمرت خمساً وعشرين سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله إلى خلافة أمير المؤمنين عليه السلام. إذ كان عليه السلام شاباً متوثّباً وعالماً وشجاعاً، شارك في الحروب وخاض شدائد الأمور. كان معروفاً عند الجميع بالعظمة. واسمه يسطع بين جميع مسلمي مكة والمدينة وحيثما امتدَّ الإسلام، بكلِّ فضيلة ومكرمة. وحتى خلفاء ذلك العصر كانوا يبدون له التعظيم والإجلال. وهكذا لو أنَّ شخصاً قال آنذاك إنَّ هذا الشاب سيُقتل على يد هذه الأمّة، لما صدّقه أحد.

- المرحلة الثالثة: هي تلك المرحلة التي انحصرت فيها الإمامة في الحسين، وإن لم تكن الخلافة في يده فكان ذا شخصية محبوبة ورجلاً شريفاً نجيباً أصيلاً عالماً. ولو أنَّ أحداً كان يقول في ذلك الوقت إن هذا الرجل الشريف الكريم العزيز النجيب الذي يجسّد الإسلام والقرآن في نظر كلِّ ناظر، سيُقتل عمّا قريب على يد أمة الإسلام والقرآن قتلة شنيعة، لم يكن أحد ليتصور صحّة ذلك. إلا أنّ هذه الواقعة العجيبة البعيدة عن التصوّر، قد حصلت فعلاً! ولكن من هم الذين فعلوا ذلك؟ فعله أولئك الذين كانوا يتردَّدون عليه ويوالونه ويعربون له عن محبتهم وإخلاصهم! وما معنى هذا؟ معناه أنَّ المجتمع الإسلاميَّ أُفرغ طوال هذه الخمسين سنة من قيمه المعنوية وجرِّد من حقيقة الإسلام، فكان ظاهره إسلامياً وباطنه خاوياً. وهنا مكمن الخطر. فالصلوات تقام وصلاة الجماعة موجودة، والأمة توصف بالأمة المسلمة، وحتى أن بعضهم يوالي أهل البيت! حينما يصبح المجتمع خاوياً تقع مثل تلك الحادثة. ولكن أين العبرة من هذا؟ تكمن العبرة في ما ينبغي عمله لكي لا ينزلق المجتمع إلى مثل ذلك المآل. وهذا ما يوجب علينا فهم الظروف التي ساقت المجتمع إلى تلك النهاية.

* ركائز بنية النظام النبوي
أشير أولاً وكمقدّمة للموضوع إلى أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله أرسى أُسس نظام كانت بناه الأساس تقوم على عدّة ركائز، تعتبر أربع منها الثقل في ذلك البناء، وهي:
-أولاً: المعرفة المتقنة الخالية من الغموض في شؤون الدين، ومعرفة الأحكام، والمجتمع، والتكليف، ومعرفة الله والرسول، ومعرفة الطبيعة.
-ثانياً: العدالة المطلقة، فقد كان العدل حينذاك عدلاً مطلقاً لا تشوبه شائبة. ولم يكن في عهد الرسول استثناء لأي شخص يجعله خارج إطار العدالة.
-ثالثاً: العبودية الخالصة لله والخالية من أيِّ شرك؛ أي العبودية لله في العمل الفردي.. العبودية في الصلاة حيث يجب أن يكون فيها قصد التقرب إليه. وكذلك العبودية له في بناء المجتمع وفي النظام الحكومي وفي نظام الحياة، والعلاقات الاجتماعية بين الناس.
-رابعاً: المحبّة الغامرة والعاطفة الفياضة. وهذه من السمات الأساس للمجتمع الإسلامي.. حبُّ الله، وحبّه تعالى للناس ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ،(المائدة: 54) ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، (البقرة:222) ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ (آل عمران: 31). الحب.. حب الزوجة وحب الأولاد، والأعظم هو حب الرسول وأهل بيته. قال تعالى: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.(الشورى: 23) لقد رسم الرسول هذه الخطوط العريضة وأرسى ركائز المجتمع على أساسها، وبذل الرسول قصارى جهده لترسيخ تلك الأسس.

* المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله
وأما عن الوقائع التي جرت من بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله، فما الذي حدا بالمجتمع الإسلامي خلال تلك الخمسين سنة للنكوص عن تلك الحالة إلى هذه؟ من البديهي أنَّ البناء الذي بناه الرسول ما كان لينهار بهذه السهولة. ولهذا نلاحظ أنّه بعد رحيل الرسول، استمرت كافة الأمور –باستثناء قضية الوصية- على ما كانت عليه. فكانت العدالة في وضع حسن، والذكر في حالة حسنة، والعبادة على ما يرام. وإذا نظر المرء إلى الهيكل العام للمجتمع الإسلامي في سنواته الأولى يجد الأمور كما كانت ولم يرجع شيء القهقرى. بيد أن ذلك الوضع لم يدم طويلاً، فكلَّما كان الوقت يمضي كان المجتمع الإسلامي ينحدر تدريجياً صوب الضعف والخواء؛ لأنه من الطبيعي حينما تضيع العدالة، وحينما تزول عبودية الله، يصبح المجتمع مجتمعاً خاوياً وتفسد النفوس. فذلك المجتمع حين يصل به التهافت على حطام الدنيا واكتناز الثروة إلى ذلك الحد، والشخص الذي ينقل فيه المعارف للناس هو كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم لاحقاً ولم يدرك عهد الرسول، ما بالُك بذلك المجتمع؟! حينما تُفتقد المعايير وتضيع المقاييس وتتقوّض القيم، وتُفرَّغ القضايا من المحتوى وتقتصر على الظواهر، وحينما يستولي حبُّ الدنيا وجمع المال على أناس قضوا عمراً مديداً بالعزَّة والزهد في زخارف الدنيا وقُيّض لهم نشر تلك الراية عالياً، حينها يتصدَّى لشؤون الثقافة والمعرفة مثل ذلك الشخص الذي اعتنق الإسلام لاحقاً ويطرح باسم الإسلام ما يراه هو شخصياً لا ما يقوله الإسلام.

* هذا حال الخواص
ثمَّ إنَّ العوام يتَّبعون الخواص ويسيرون وراءهم حيثما ساروا. ولهذا فإنّ من أكبر الجرائم التي ترتكبها الشخصيات البارزة المتميّزة في المجتمع هو انحرافها؛ لأنَّ انحرافها ينتهي إلى انحراف الكثير من الناس الذين إذا رأوا القيم قد خُرقت وأنَّ الأعمال تناقض الأقوال وتناقض ما جاء في سنّة الرسول، تجدهم يسيرون هم أيضاً في هذا المسار أسوةً بالخواص.

* أهمية التقوى
اعلموا يا أعزائي أنَّ المرء لا يقف على حقيقة مثل هذه التطورات الاجتماعية إلا بعد مرور وقت طويل. وهذا ما يوجب علينا الانتباه والحذر والمراقبة؛ وهو معنى التقوى.. فالتقوى معناها أن يتحرّز على نفسه من ليس له سلطان إلا على نفسه، وأن يتحرّز على نفسه وعلى غيره من له سلطان على غيره أيضاً. أمَّا الذين يقفون على رأس السلطة فيجب عليهم التحرز على أنفسهم وعلى المجتمع كلّه لكي لا ينزلق نحو التهافت على الدنيا والتعلق بزخارفها، ولا يسقط في هاوية حبِّ الذات. وهذا لا يعني طبعاً الانصراف عن بناء المجتمع، بل يجب بناء المجتمع والاستكثار من الثروة، ولكن لا لأنفسهم، فهذا مستقبح. كلُّ من لديه قدرة على زيادة ثروة المجتمع والقيام بإنجازات كبرى، يكسب ثواباً عظيماً. وإنَّما يصدق حبُّ الدنيا فيما لو كان المرء يطلب النفع لذاته ويعمل لنفسه، أو يفكِّر في جمع الثروة لنفسه من بيت مال المسلمين أو من غيره. وهذا هو التصرف القبيح. يجب إذن الحذر من الوقوع في مثل هذه المنزلقات. وإذا انعدم الحذر ينحدر المجتمع تدريجياً نحو التخلي عن القِيَم ويبلغ مرحلة لا تبقى له فيها سوى القشرة الخارجية، وقد يأتيه على حين غرّة ويفاجئهُ ابتلاء شديد – كالابتلاء الذي تعرَّض له ذلك المجتمع حين اندلاع ثورة أبي عبد الله - فلا يخرج منه ظافراً.

* الوجه الآخر لملحمة عاشوراء
أشير هنا بكلمة في تحليل واقعة عاشوراء. شخص كالحسين عليه السلام – والحسين تجسيد لكلِّ القيم الإلهيّة والإنسانية - ينهض بالثورة حتى يقف بوجه استشراء الانحطاط الذي أخذ يتفشَّى في أوصال المجتمع وأوشك أن يأتي على كلِّ شيء فيه. بلغ الانحطاط أن لو شاء الناس العيش حياة إسلامية كريمة، فإنِّهم يجدون أيديهم خالية من كلِّ شيء. وفي ظرف كهذا يثبت الإمام الحسين ويقف بكل وجوده أمام ذلك الخواء والفساد المتصاعد، ويضحّي من أجل القيم الإلهيّة بنفسه وبأحبّائه وبابنيه: علي الأصغر وعلي الأكبر، وبأخيه العباس.. ثم يصل إلى النتيجة المطلوبة. أحيا الحسين جدّهُ رسول الله، وهو معنى قول النبيّ صلى الله عليه وآله: "وأنا من حسين"(3). هذا هو الوجه الآخر للقضية. فواقعة كربلاء الزاخرة بالحماسة، وهذه الملحمة الخالدة لا يمكن إدراك كنهها إلا بمنطق العشق وبمنظار الحب. فهي واقعة لا يتيسر النظر إليها إلا بعين العشق ليُفهم ما الذي صنعه الحسين بن علي من بطولة ومجد خلال يوم وليلة أي منذ عصر يوم التاسع من المحرم وحتى عصر العاشر منه.. بحيث خلّده في هذه الدنيا وسيخلّده إلى الأبد، ولهذا أخفقت جميع الجهود التي بذلت لمحو حادثة الطف من الأذهان وطيّها في أدراج النسيان. لم تكن واقعة الطفوف هذه استنقاذاً لحياة شعب أو حياة أمّة فحسب، وإنّما كانت استنقاذاً لتأريخ بأكمله. فالإمام الحسين، وأخته زينب، وأصحابه وأهل بيته أنقذوا التاريخ بموقفهم البطولي ذاك.


(1) بحار الأنوار، المجلسي ج 45، ص 109.
(2) م. ن.
(3) أوائل المقالات، الشيخ المفيد، ص 178.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع