نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

من القلب إلى كل القلوب: في يد الله قبل يد الفقير



سماحة السيد حسن نصر الله


من أهم المواصفات أو الصفات التي أحبها الله سبحانه وتعالى وأرادها في عبده المؤمن إلى جانب إقامة الصلاة، التي هي - معراج المؤمن - صفة الإنفاق أو ما ورد في القرآن الكريم إما بتعابير الإنفاق "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ"(البقرة:261-262-265) ، أو بتعابير إيتاء الزكاة ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ"(المائدة:55)، أو بتعابير الصدقة والتصدق "الْمُصَدِّقِينَ"(البقرة:280). لكن، حتى لا نكرر الكلمات فلنقل التصدّق، لأن عنوان الصدقة هو عنوان واسع جداً.

* طريق تزكية النفس:
التأكيد القرآني والنبوي على موضوع التصدق هو تأكيد كبير. طبعاً، الرسالة الإلهية السماوية - من خلال تركيزها على هذه الصفة هي - تريد أن تحقق غرضين أو هدفين دفعة واحدة: الغرض الأول يتعلق بنفس الإنسان، لأن الإنسان الذي ينفق ويتصدق ويعطي من ماله ويجاهد بماله - هذا الإنسان - يتطهر ويتزكى من خلال هذا الإنفاق. ولذلك، ورد في الآية الكريمة ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا(التوبة: 103). هناك الكثير من المؤمنين الذين يهتمون بالسير والسلوك والأعمال التي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن بنفس الوقت يمكن أن يتطرقوا إلى أعمال تكون شاقة جسدياً. لكن الله سبحانه وتعالى هو الذي دلنا على طريق التزكية والتطهر، ومن جملة وسائل التزكية والتطهر النفسي والروحي والمعنوي هو هذا الإنفاق. وعندما ننفق أولاً، نحن المستفيدون في الدنيا على المستوى النفسي، وفي الآخرة على المستوى الشخصي. في الحقيقة إنَّ تطهير الإنسان وتزكيته هدف مركزي في كل العبادات والأعمال والأحكام الشرعية.

* مسؤولية من؟
والغرض الثاني هو المساهمة في معالجة المشاكل الاجتماعية المعيشية المستعصية التي يعيشها الناس عموماً منذ بدء الخليقة إلى الآن وإلى يوم تكون لله تعالى فيه مشيئة أخرى، في كل مجتمع بشري فقراء وأغنياء، مكتفون ومحتاجون، وأناس قادرون على العمل وآخرون عاجزون عن العمل والخ... في الفهم الإسلامي، الدولة مسؤولة والمجتمع الذي يعيش فيه هؤلاء الفقراء والعاجزون والأيتام والمساكين هو أيضا يتحمل مسؤولية من هذا النوع. تأتي ثقافة إيتاء الزكاة والتصدق والإنفاق والجهاد بالمال ورعاية أو تكفل الأيتام وقضاء حوائج المحتاجين وما شاكل، لتعالج جانباً كبيراً من هذه المشكلة، ولكن بخلفية ثقافية إيمانية أخلاقية إنسانية. هذا ما ورد الحثُّ عليه في الكثير من الآيات والروايات.

* يُربي الصدقات
الله سبحانه وتعالى - من باب الترغيب للمتصدقين - يقول لهم: أنا الذي يأخذ منكم الصدقات بشكل مباشر، الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير أو المحتاج أو اليتيم ؛ ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(التوبة: 104). وقد ورد في الروايات ما يؤكد هذا المعنى، أن الصدقة تقع في يد الله سبحانه وتعالى قبل أن تقع في يد الفقير أو المحتاج. من باب التشجيع أيضاً، وعد الله سبحانه وتعالى في القرآن المجيد بأنه هو الذي يربي الصدقات . عندما يدفع الواحد منا صدقة، هذه الصدقة إلى أن يحشر يوم القيامة تنمو وتنمو، فيفاجأ يوم القيامة كأنه تصدق بمثل جبل أحد كما ورد في بعض الروايات، كل ما تصدق به فقط هو هذا المبلغ المتواضع الذي خرج منه. لكن الله سبحانه وتعالى وعد بأن يربي الصدقات وأن ينميها تشجيعاً على الإنفاق لعباده. الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن الله عزّ وجلّ يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فصيله حتى يوفيه إياها يوم القيامة، وحتى يكون أعظم من الجبل العظيم" . في بعض الروايات ورد أنه "كجبل أحد".

* من بركات الصدقة
في الصدقات، الروايات كثيرة تتحدث عن الصدقة التي "تدفع البلاء" . روايات تتحدث عن الصدقة التي "تدفع ميتة السوء" . الإنسان سيموت ولا مهرب من الموت. ولكن، هناك أشكال للموت. هناك الموت الذي هو قتل في سبيل الله، وموت على الفراش أو بحادث سيارة أو عن طريق الخطأ الخ... الصدقة تدفع عن الإنسان ميتة السوء. ورد في الروايات أيضاً أن الصدقة مما يتداوى بها من الأمراض . وأن الصدقة أيضاً "تطيل العمر" وإنها "مفتاح الرزق" . كان رسول الله صلى الله عليه وآله يأمر بعض الذين سُدّت عليهم أبواب الرزق بالتصدق لتفتح عليهم هذه الأبواب وليتطلع الله سبحانه وتعالى إليهم.

* عطاء بلا حساب
وللتشجيع أيضاً على تحقيق الغرض الثاني (أي المساهمة في معالجة المشاكل الاجتماعية)، نجد بأن الإسلام لم يشجع فقط المتصدقين أنفسهم، لأن الإسلام يعرف أنه سيأتي يوم من الأيام لا يستطيع الواحد منا أن يقوم بمبادرة فردية للتصدق، وأنه سيأتي يوم تصبح فيه مؤسسات ضخمة تعمل في هذا الموضوع. ولذلك نجد بأن الأجر والثواب الذي وعد به المتصدق وعد به أيضاً من يسعى في تأمين الصدقة، ومن يحمل الصدقة من المتصدق إلى اليتيم أو المحتاج أو الفقير. قال رسول الله صلى الله عليه وآله كما روي عنه "من مشى بصدقة إلى محتاج كان له كأجر صاحبها من غير أن ينقص من أجره شيء والله واسع عليم" . الله سبحانه وتعالى يعطي بلا حساب، وتكفل للساعي في تأمين الصدقة ويوصلها إلى المحتاجين بثواب وأجر المتصدق نفسه دون أن يُنقص شيئاً من أجر هذا المتصدق. وورد أيضاً في رواياتنا حول مفهوم الصدقة في الإسلام الكثيرُ من أخلاقيات وآداب هذا السلوك وهذه الممارسة وهذه الفريضة وهذا العمل المستحب، فيما يتحدث عن صدقة السر أو العلن وأولوية ذوي الأرحام .

*خيرٌ من الصدقة:
ومن أهم الأمور التي تعبر عن هذا البعد الأخلاقي والإنساني في التشريع الإسلامي هو حرمة إلحاق المنّ والأذى بمن نعينهم أو بمن نساعدهم، هذا يؤكد أن الغرض في الحقيقة والخلفية الأساسية هي خلفية أخلاقية وإنسانية. لذلك، قال الله سبحانه وتعالى ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى(البقرة: 263). هناك الكثير من الناس من يتصدقون أو يساعدون، أو مثل بعض الدول التي تقدم المساعدات والمعونات لجهة معينة، ثم فيما بعد يلحق بهم من الأذى والمنّ ما يذهب بماء وجوههم جميعاً. بينما ركز الإسلام على حفظ ماء وجه اليتيم والمحتاج والفقير الذي نتصدق له أو ننفق عليه أو نساعده في الحقيقة. ولعل هذا أيضاً أحد إيجابيات أو خلفيات صدقة السر. حتى أنه ورد في بعض الروايات في الآداب أنك عندما تعطي مالك للفقير لا تنظر إلى وجهه، حتى لا يخجل ويستحي منك. إلى هذا الحد حاول الإسلام أن يراعي كرامة أولئك الذين تمتد إليهم اليد لمعونتهم ولمساعدتهم وسد حوائجهم.

﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى (البقرة: 264). أصلاً عندما تتصدق على إنسان ثم تمنّ عليه وتؤذيه فقد أبطلت صدقتك ولم يعد لها أجر ولا ثواب ولا مكان ولا معنى. وهذا يؤكد أن حرص الإسلام على الكرامة الإنسانية هو أشد بكثير من حرص الإسلام على أن يملأ بطن الجائع. ولذلك، قالت الآية: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى (البقرة: 263). هذا كرامته أهم من بطنه، ولذلك، إن كنت تريد أن تشبع بطنه عليك أن تحفظ الأهم، وهو كرامة هذا الإنسان.  عندما يصبح في كل دكان وفي كل بيت مكان للصدقة، وصندوق للصدقة، وعندما تنتشر ثقافة الصدقة بين الناس، هذه الأموال المتواضعة والبسيطة تتراكم، وعندما تتراكم هذه المبالغ تستطيع أن تحل مشكلة عدد كبير من العائلات.

(*)مقتطف من كلمة الأمين العام لحزب الله في إفطار مؤسسة الإمداد الخيرية 29-11-2001

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع