صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

شخصية العدد: رائد العلم وشهيد الحق (الشهيد الثاني)


السيد علي محمد جواد فضل الله


قمة من قمم العلم والفكر والنبوغ والعرفان، قلما يجود الدهر بأمثاله، هو الشيخ زين الدين الجبعي العاملي المعروف بالشهيد الثاني (911 966هـ). يذكره الخوانساري في روضاته بقوله: (لم ألفَ إلى هذا الزمان الذي هو في حدود ثلاث وستين ومئتين بعد الألف أحداً من العلماء الأجلة، يكون بجلالة قدره، وسعة صدره، وعظم شأنه، وارتفاع مكانه، وجودة فهمه، ومتانة عزمه، وحسن سليقته، واستواء طريقته ونظام تحصيله، وكثرة أساتيذه، وظرافة طبعه ولطافة صنعه، ومعنوية كلامه، وتمامية تصنيفاته وتأليفاته، بل كاد أن يكون في التخلق بأخلاق الله تبارك وتعالى تالياً تلو المعصوم).

* ولادته:

في بيت من بيوت العلم والأدب والفضيلة ولد الشهيد الثاني قدس سره في بلدة جبع العاملية، وذلك في 13 شوال من سنة 911هـ. وكان أبوه من أفاضل عصره وكذلك جداه (جمال الدين) و(التقي). وكان جده الأعلى (الشيخ صالح) من تلامذة العلامة الحلي. فكان ستة من آبائه من الفضلاء المرموقين وكذلك بالنسبة لأبنائه حيث إنهم كانوا من أعلام العلماء، ابتداء من ولد الشيخ حسن صاحب كتاب (المعالم). وهنا يذكر السيد الأمين في خططه أنه تعاقب من ذرية الشهيد الثاني (اثنا عشر عالماً سُمّوا بسلسلة الذهب).

* عصر الشهيد الثاني:
لقد احتل جبل عامل منزلة مرموقة من بين أقطار العالم الإسلامي بعامة والشيعي بخاصة في مجال العلم والمعرفة وكثرة العلماء وانتشار المعاهد والحوزات العلمية. ونستطيع أن نتلمس المكانة العلمية والفكرية للشهيد الثاني، مما كان يتمتع به من تلك الثقافة الموسوعية والمتنوعة والتي شملت مختلف جوانب العلوم والمعارف في زمانه من علم الفقه إلى علم الأصول والكلام والفلسفة والتفسير والقراءات إلى مختلف العلوم الأدبية واللغوية وصولاً إلى علم الفلك والجبر والحساب والطب.

* موقعه الفكري وتراثه العلمي:
ومن اللافت في مسيرة الشهيد الدراسية أنه كان يحضر وفي وقت واحد درس الفلسفة والفقه والأدب والتفسير والقراءة والطب والرياضيات وغيرها، وهذا يدل على مدى الحضور الذهني لديه، وقوة التركيز والاستيعاب العقلي والجلادة والصبر في الخوض في غمار هذه العلوم المختلفة في آن واحد. ومن اللافت أيضاً، أن هذه الموسوعية في الإحاطة بهذه العلوم لم تكن سطحية، بل كانت عبر دراسة معمقة تصحبها دقة في النظر والملاحظة، وهذان شيئان (أعني الإحاطة وعمق النظر والتخصصية في العلوم) قلّما يجتمعان في شخص واحد، لأنه وكما يقول بعض المحققين الآصفي إن (الذهنية التي تمارس الإلمام والإحاطة تختلف عن الذهنية التي تمارس الدقة والملاحظة، وقلما يتفق أن تجتمع هاتان الخاصتان في ذهن واحد). لقد كان لهذا التنوع الثقافي أثره الكبير الذي يمكن تلمسه في آثار الشهيد فيما تركه لنا من كتب ورسائل، حيث إن هذه الثقافات المتنوعة قد انصهرت وتلاقحت في ذهنية الشهيد ليتولد منها معطى علمي وفكري له تميزه وخصوصياته، طبع نتاجه الفكري الضخم وميزه عن المعاصرين له والسابقين عليه.

* غزارة إنتاج وظروف صعبة:

إلى هذا، فالشهيد وبالرغم من رحلاته الطويلة وسفراته المتعددة، إضافة إلى اهتماماته بشؤون الناس والقيام باحتياجاتهم إن على صعيد الفتيا أو التوجيه أو غيرها، إضافة إلى قيامه بحاجاته وحاجات عياله دون مساعدة من أحد، حيث إنه كان يقضي نهاره في بلده بالتدريس وقضاء حاجات المحتاجين ويمضي ليله بالاحتطاب وحفظ الكرم كما يحدثنا عنه تلميذه ابن العودي، حتى أنه كان يقوم ببعض الأعمال التجارية والتي كانت تستلزم منه بعض الأسفار، على ما ذكر ابن العودي أيضاً، فإن من كرامات هذا الشهيد والتي لا تجتمع لأحد أنه بالرغم من كل الظروف التي عاشها، ومنها إضافة لما تقدم خوفه على نفسه وتستره من السلطات الحاكمة آنذاك والتي كانت تراقبه وتكيد له، بالرغم من كل ذلك فقد جاء نتاجه الفكري كبيراً ومتنوعاً. وهنا، ينقل الحر العاملي في (أمل الآمل) عن بعض ثقاته أن الشهيد الثاني قد خلف ألفي كتاب، منها مئتا كتاب كانت بخطه الشريف. وفي هذا المجال، فإنه يُذكَر حول غزارة التأليف لديه وسرعته في ذلك أنه قد ألف كتابه القيم والثمين (الروضة البهية) في ستة أشهر وستة أيام على ما ذكره صاحب (أمل الآمل) أو في خمسة عشر شهراً على ما ذكره صاحب الحدائق، وهذا شيء ملفت وعجيب خاصة لمن يعرف هذا الكتاب وما ينطوي عليه من دقائق لفظية ومعنوية لا تدرك إلا بمراجعات دقيقة ومطالعات عميقة. وقد سكب الشهيد قدس سره في هذا الكتاب براعته الأدبية فجاءت عباراته بليغة رصينة سلسة، بلا إطناب ممل ولا إيجاز مخلّ، فحريّ بالشهيد أن يوصف بعد ذلك بأنه أديب الفقهاء وكذلك فقيه الأدباء.

إلى ما تقدم وحول سرعة الشهيد في التأليف وكونها هبة إلهية وكرامة ربانية معجزة حباها الله سبحانه هذا الشهيد العالم والعارف، يقول صاحب (الروضات) بعد ذكره لكتاب مسالك الأفهام للشهيد الثاني: (ويقال إنه صنف ذلك الكتاب أيضاً في مدة تسعة أشهر، والله يعلم أن الكاتب المؤجر نفسه لمحض الكتابة يصعب عليه مثل ذلك غالباً، إلا أن التأييد من عند الله تعالى شيء آخر). إلى هذا، وانطلاقاً مما تقدم، فقد شيّد الشهيد قدس سره مدرسة قائمة بذاتها لها خصائصها ومميزاتها، فجاءت آثاره مطبوعة بطابع (الموضوعية في الدراسة والعمق في الفكرة والوضوح في التعبير والسلاسة في صياغة الألفاظ والانسجام في الترتيب والأناقة في العرض وحسن السليقة في التبويب والطرافة في التنظيم) كما يقول العلامة الآصفي، والذي اعتبر أن من أهم مميزات هذه الشخصية العلمية هي خوضها مختلف ميادين العراك العلمي والفكري باطمئنان وقوة واعتداد بالنفس. ويلاحظ في آثار الشهيد أنه لم يقتصر في التأليف على طبقة العلماء والمتخصصين، بل إنه إضافة إلى كتبه العلمية البحتة والتي تخاطب أهل العلم والفكر، فإنه ألف كتباً أخلاقية وتوجيهية يقدر على فهمها عامة الناس ممن لا حظّ لهم من العلم والمعرفة. إلى ما تقدم ومما يدل على هذا النبوغ والألمعية عند الشهيد هو اجتهاده في سن مبكرة نسبياً، حيث يذكر ابن العودي ذلك بقوله: (أخبرني قدس الله نفسه وكان في منزلي بجزين متخفّياً من الأعداء ليلة الاثنين 11 صفر سنة 956 أن ابتداء أمره في الاجتهاد كان سنة 944، وأن ظهور اجتهاده وانتشاره كان في سنة 948 فيكون عمره لما اجتهد 33 سنة). ومما يدل على عظيم مقام الشهيد العلمي وإحاطته بالمذاهب الإسلامية المختلفة هي الحركة العلمية التي أحدثها عند مجيئه إلى (بعلبك)، حيث غدت (بعلبك) أيام الشهيد مركزاً علمياً كبيراً يقصده الناس ويأتيه العلماء من مختلف الأرجاء. وكان الشهيد هو القيم والمشرف على هذا الحراك العلمي، فجلس على كرسي التدريس والإفتاء على المذاهب الخمسة وأخذ يفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها. يقول ابن العودي حول ذلك: (كنت في خدمته في تلك الأيام ويقصد أيام وجود الشهيد في بعلبك ولا أنسى وهو في أعلى سنام، ومرجع الأنام، وملاذ الخاص والعام، يفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها ويدرّس في المذاهب كتبها، وكان له في المسجد الأعظم بها درس مضافاً إلى ما ذكر، وصار أهل البلد كلهم في انقياده...).

* أخلاقه:
على الرغم من مكانة الشهيد في العلم والشهرة والمسموعية، إلا أنه كان على غاية من التواضع ولين الجانب، وإذا اجتمع بأصحابه وتلاميذه عَدَّ نفسه واحداً منهم دون تمييز، يقول تلميذه ابن العودي: (ولقد شاهدت منه سنة ورودي إلى خدمته أنه كان ينقل الحطب على حمار في الليل لعياله ويصلي الصبح في المسجد ويشتغل بالتدريس بقية نهاره إلى أن قال وكان يصلي العشاء جماعة ويذهب لحفظ الكرم ويصلي الصبح في المسجد ويجلس للتدريس والبحث كالبحر الزاخر ويأتي بمباحث غفل عنها الأوائل والأواخر).

*استشهاده:

وكانت خاتمة هذه الحياة المعطاءة هي الشهادة في سبيل الحق والقيم التي عمل لها الشهيد وعاش من أجلها، فقد وشى به الحاسدون لدى السلطان العثماني ودسوا له التهم حسداً وكيداً من عند أنفسهم لما بلغه الشهيد من مقام مرموق واحترام واسع عند عامة الناس، فأرسل السلطان بطلبه، وما كان من جلاوزة السلطان إلا أن غدروا بالشهيد وقتلوه على ساحل البحر من بلاد الروم وكان ذلك سنة 966 للهجرة.


ـ روضات الجنات، الخوانساري، ج3، ص337 368.
ـ الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، مقدمة، محمد مهدي الآصفي، ج1، ص149 194.
ـ جبل عامل بين 1516 1697، علي إبراهيم درويش، ص130ـ وص137 139 وص 177 194.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع