نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مواعظ شافية لقلوب قاسية


الشيخ سمير محمد علي ذيب (*)
 


"هكذا تفعل الموعظة البالغة بأهلها". قالها أمير المؤمنين عليه السلام حينما صُعق همّام ومات إثر خطبة له عليه السلام يصف فيها المتّقين.
الموعظة الحسنة والبالغة ترقّق القلوب وتُليِّن الأفئدة، لتعود إلى صِبغة الله تعالى، وتجلو الصدأ عنها، فتأنس بحلاوة ذكره سبحانه والوقوف بين يدَيه. كيف يُصاب القلب بالقسوة وعدم الأنس بعبادة الله تعالى وجفاف الدمعة؟ وما دور الموعظة في ترقيق القلوب وتليينها؟ هذان السؤالان موضوع مقالنا هذا.


* القسوة مرضٌ قلبيّ
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 74).
يرتبط الإنسان بالموجودات الواقعيّة عبر ثلاث وسائل: الحواسّ الخمس، العقل، والقلب المعبّر عنه بأنّه مركز للأحاسيس العاطفيّة والوجدانيّة.
والقلب، الذي هو إحدى الوسائل، قد يتعرّض للانحراف في ما يدركه وجداناً لأسباب عديدة. وللقلب أوصاف وعناوين متعدّدة بحسب الانحراف. ففي بعض الموارد وُصف القلب بالمرض، كما في وصف المنافقين: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾ (البقرة: 10)، وفي أخرى وُصف بالعمى: ﴿تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46)، وفي ثالثة بالختم: ﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ﴾ (البقرة: 7).

* حبّ الدنيا وقسوة القلب
وُصف القلب بالقسوة في موارد عدّة من القرآن الكريم(1)، وكذلك الأمر في روايات كثيرة. وقد جاءت القسوة بمعنى الصلابة والغلظة(2)، وهي ذات مراتب متعدّدة، فهي تبدأ ضعيفة وتشتدّ إلى مرحلة خطيرة، بحيث إنّها لا تقبل بعد ذلك الحقّ، ولا تتأثّر بما يتأثّر به الناس من لين ورقّة، أمام بعض الأحداث أو الأقوال.
وقد ذُكرت قرآنيّاً وروائيّاً أسباب عديدة لقسوة القلب، منها:
1- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب. إنّ أبعد الناس من الله القلب القاسي"(3).
2- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من تعوَّد كثرة الطعام والشراب قسا قلبه"(4).
3- وفيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى عليه السلام: "يا موسى، لا تُطوِّل في الدنيا أمَلك فيقسو قلبك، والقاسي القلب منّي بعيد"(5).
4- وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إيّاكم ومجالسة الملوك وأبناء الدنيا، ففي ذلك ذهاب دينكم، ويعقبكم نفاقاً، وذلك داء دويّ لا شفاء له، ويورث قساوة القلب، ويسلبكم الخشوع"(6).
وبالتأمّل في هذه الروايات يمكن إرجاع كلّ ما ذُكر بشكل عامّ إلى سبب رئيس مرتبط بالدنيا؛ فحبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة. والارتباط بزينة الحياة الدنيا من أمور محرّمة أو مباحة يجعل القلب يتعلّق بها فيقسو ولا يتوجّه إلى الله تعالى. وأمّا "إذا تخلّى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله"(7)، كما عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام.

* الموعظة البالغة
ولمعالجة هذه القسوة يوجد أسلوبان: أسلوب تفصيليّ وهو يحتاج إلى مجال أوسع ممّا نحن فيه، وأسلوب إجماليّ متقوّم بالتوجّه إلى ما يرتبط بالله تعالى والموت والدنيا والجنّة والنار بطريقة تؤدّي إلى تليين القلب ورقّته.
والأسلوب الموصل إلى ذلك يتمّ عبر أمور، منها: الموعظة والدعاء والذكر والتفكّر. وسأقتصر على ذكر ما يرتبط بعنوان الموعظة.
لا شكّ في أنّ المواعظ من الأمور المهمّة لعلاج القسوة؛ لأنّ المواعظ يُلحظ فيها أسلوب التذكير بالخير للوصول إلى تليين القلب وترقيقه؛ عبر الإنذار والتبشير والتخويف والتحبيب(8).
ولكي تترك المواعظ هذا التأثير في النفوس، لا بدّ من توفّر شروط معيّنة. ولا نجد واعظاً للإنسان ككتاب الله المجيد، المنزل على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليكون للعالمين بشيراً ونذيراً.

- القرآن الكريم خير واعظ
فالقرآن الكريم كتاب موعظة مؤثّرة في النفوس بشكل لافت. وقد ورد وصف القرآن في آيات متعدّدة بأنّه كتاب موعظة، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 57).
وورد أيضاً وصفه كذلك في روايات متعدّدة كما في قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أصدق القول وأبلغ الموعظة وأحسن القصص كتاب الله"(9).
وقول الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن"(10).
فالقرآن الكريم أحسن واعظ للإنسان؛ لما فيه من حقائق واقية ومؤثّرات وجدانيّة فائقة لترقيق القلب وتليينه.
فالمظاهر الإلهيّة من رحمة ومغفرة وقدرة وقهر وغير ذلك نجدها مبثوثة بكثرة في آيات القرآن الكريم، وكذلك الكلام في ذكر الجنّة والنار؛ ما يأخذ بلبّ الإنسان إمّا شوقاً وإمّا خوفاً. ويكفي ما وُصف به المتّقون في كيفيّة تعاطيهم مع القرآن الكريم الوارد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام: "أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لأجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ"(11).

- نهج البلاغة موعظةُ أمير المؤمنين عليه السلام
ومن الواعظين المتقنين والمؤثّرين بشكلٍ عجيبٍ ومدهش، الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وخصوصاً ما ورد عنه في كتاب نهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضيّ قدس سره. وهذا السفر المبارك فيه الكثير من الخطب والأقوال التي تحرّك وجدان الإنسان وترقّق قلبه. ويشهد لذلك ما ينقله ابن أبي الحديد بعد خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام بعد تلاوته لقوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ (التكاثر: 1-2):
"وأقسم بمَن تُقسم الأمم كلّها به، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرّة، ما قرأتها قطّ إلّا وأحدثت عندي روعةً وخوفاً وعظةً، وأثّرت في قلبي وجيباً، وفي أعضائي رعدةً، ولا تأمّلتها إلّا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودّي، وخيّلت في نفسي أنّي أنا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حاله. وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى، وكم وقفت على ما قالوه، وتكرّر وقوفي عليه فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي، فإمّا أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نيّة القائل صالحة، ويقينه كان ثابتاً، وإخلاصه كان محضاً خالصاً، فكان تأثير قوله في النفوس أعظم، وسريان موعظته في القلوب أبلغ"(12).

* مواعظ شافية
1- نزل جبرئيل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: "يا جبرئيل عظني، قال: يا محمّد، عش ما شئت فإنّك ميّت، وأحبب من شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه"(13).
2- عن الإمام أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "كتب رجل إلى الحسين عليه السلام عِظني بحرفين، فكتب إليه: من حاول أمراً بمعصية اللَّه تعالى كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر"(14).
3- عن نوف البكالي قال: أتيت أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وهو في رحبة مسجد الكوفة، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: "وعليك السلام يا نوف ورحمة الله وبركاته". فقلت له: يا أمير المؤمنين، عظني. فقال: - "يا نوف، أحسن يُحسن إليك".
فقلت: زدني يا أمير المؤمنين.
- فقال: "يا نوف، ارحم تُرحم".
فقلت: زدني يا أمير المؤمنين.
- قال: "يا نوف، قل خيراً تُذكر بخير".
فقلت: زدني يا أمير المؤمنين.
- قال: "اجتنب الغيبة، فإنها إدام كلاب النار".
ثم قال: "يا نوف، كذب من زعم أنه وُلد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة، وكذب من زعم أنّه ولد من حلال وهو يبغضني ويبغض الأئمّة من ولدي، وكذب من زعم أنّه وُلد من حلال وهو يحب الزنا، وكذب من زعم أنّه يعرف الله عزّ وجلّ وهو مجترئ على معاصي الله كل يوم وليلة.
- يا نوف، اقبل وصيّتي، يا نوف، صِل رحمك يزدِ الله في عمرك، وحسِّن خُلقك يخفّف الله حسابك.
- يا نوف، إنْ سرَّك أن تكون معي يوم القيامة، فلا تكن للظالمين معيناً.
- يا نوف، مَن أحبّنا كان معنا يوم القيامة، ولو أنّ رجلاً أحب حجراً لحشره الله معه.
- يا نوف، إيّاك أن تتزين للناس وتبارز الله بالمعاصي، فيفضحك الله يوم تلقاه.
- يا نوف، احفظ عنّي ما أقول لك، تَنَل به خير الدنيا والآخرة"(15).
هذا، وإن كان كلّ ما في الكون يشكّل موعظةً للإنسان ومنبّهاً وموقظاً له من الغفلة والابتعاد عن الله سبحانه، فقد ورد عن إسماعيل بن بشر بن عمار، قال: كتب هارون الرشيد إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: عظني وأوجز. قال: فكتب إليه: "ما من شيء تراه عينك إلّا وفيه موعظة"(16).

وفي الختام، إنّ أفضل علاج لقسوة القلب يتمثّل بترك ما حرّم الله سبحانه، فعن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ما جفّت الدموع إلّا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا لكثرة الذنوب"(17).
واعلم، أنّ تحقّق الأنس بالعبادة يبدأ من عقد العزم والنيّة على السير في طريق القرب من الله عزّ وجلّ، فقد جاء في دعاء يوم المبعث النّبويّ (27 من شهر رجب): "وقد علمت أنّ أفضل زاد الرّاحل إليك عزم إرادة يختارك بها، وقد ناجاك بعزم الإرادة قلبي"(18).


(*) إمام مجمع سيّد الأوصياء عليه السلام.
1- أذكر منها: الأنعام (43) – الحديد (16) – المائدة (13) وغير ذلك من آيات كثيرة.
2- المفردات، الراغب الأصفهاني، ص530.
3- ميزان الحكمة، الريشهريّ، رقم 16429.
4- (م.ن)، رقم 17000.
5- (م.ن)، رقم 16999.
6- (م.ن)، رقم 2430.
7- الكافي، الكلينيّ، ج2، ص130.
8- المفردات، (م.س)، ص703.
9-ميزان الحكمة، (م.س)، رقم 16429.
10- (م.ن)، رقم 16414.
11- شرح ابن أبي الحديد، ج11، ص152-153.
12- من الطبيعي أن يكون ذلك راجعاً إلى شخص الخطيب؛ لأنّها لم تؤثر في القائل فقط، بل في غيره أيضاً. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج11، ص153.
13- الخصال، الصدوق، ص7.
14- الوافي، الفيض الكاشاني، ج5، ص994.
15- الأمالي، الصدوق، ص278.
16- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج68، ص324.
17- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج11، ص337.
18- مفاتيح الجنان، عبّاس القمّيّ، أعمال يوم السابع والعشرين من شهر رجب.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع