إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد

القدوة وبناء الإنسان


السيد عباس نور الدين


كثيراً ما نسمع أشخاصاً قد اتَّخذوا من بعض العظماء لأنفسهم قدوة، لكن سيرة حياتهم لا تنسجم مع هذا الإدِّعاء. فهم بحكم الفطرة التي تصبو إلى العظمة والكمال، قد وجدوا في هذا العظيم أو ذاك تلك الصورة المثالية التي يحلمون بالوصول إليها. لكنَّهم لسبب ما لا يتحرَّكون بالشكل الذي تتطلبَّه تلك القدوة. هؤلاء يعلمون أنَّ قدوتهم قد وصل إلى ما وصل إليه بفضل سعيه ومثابرته، لكنَّهم لا يبذلون جهداً متناسباً مع ما يصبون إليه!

* جوهر القدوة في حياة الإنسانية
لا يتحرَّك الناس بمجرد حصول القناعة والفهم، فالمحبَّة والرغبة والانجذاب إلى الشيء هي التي تشكل الدّافع الأكبر نحوه. إذا قمنا بتحليل الدّوافع الأساسية في أيّ تحرك أو نشاط يقوم به الإنسان، لوجدنا أن تمثّل النتيجة والأثر في صورة خياله، وما تعطيه من لذة أو مصلحة متصوَّرة عنده، هي التي تدفعه نحو ذلك الشيء. لكن عندما يكون الأمر متعلِّقاً بشخصيته وما يريد أن يكون عليه بذاته، فإنّ المسألة تتطلّب شيئاً أبعد من ذلك. فما لم تكن الشخصية التي يحلم بالوصول إليها متمثلة بشخص واقعي، فإنَّ السعي إليها يصبح من المستحيلات تقريباً. وهنا جوهر القدوة والأسوة في حياة الإنسان.

* الكمال غاية الإنسان
يندفع كلُّ واحد منا في مراحل عمره الأولى لبناء شخصيته بحسب ما يراه كمالاً. ومثل هذا الاندفاع هو أمر طبيعي بحكم الفطرة التي تعبّر عن خلقته الأصيلة. لا يوجد إنسان خارج عن حكم الفطرة الطالبة للكمال ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي‏ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّه(الروم:30). ففطرتنا لا تعشق إلا الكمال المطلق كما يقول إمامنا الخميني قدس سره، "نحن مفطورون على عشق الكمال المطلق، ومن هذا العشق -شئنا أم أبينا- ينشأ العشق لمطلق الكمال الذي هو من آثار الكمال المطلق. والأمر الملازم لفطرتنا هذه هو السعي للخلاص من النقص المطلق، وتلازمه الرغبة في الخلاص من مطلق النقص أيضاً"(1). لكن هذه التوجّهات والميول الفطرية نحو الكمالات، تخضع عند كلِّ إنسان لقناعاته ورؤيته حول الكمال. فمن الناس من يرى الكمال في المنصب والشهرة، ومنهم من يراه في الثروة والمال، ومنهم في العلم والمعنويات؛ وهكذا يختلف الناس في تحديد ما يريدون أن يكونوا، لا بحسب طلب أصل الكمال، بل بحسب نظرتهم إلى الكمال.

* السعي لبناء الشخصية
لا شك بأنّ عملية السعي في بناء الشخصية هي عمل شاق يتخلّف عنه كثيرون لأسباب سوف نشير إليها بعد قليل، وذلك لأنّها عملية تتطلّب المثابرة والسعي المتواصل على مرِّ السنين في أغلب الحالات والمصاديق. وما أجمل ما ذكر الله تعالى في كتابه بهذا الشأن حين يقول عز وجل: ﴿لَوْ كانَ عَرَضاً قَريباً وَسَفَراً قاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة(التوبة:42). فعندما يرى هذا الإنسان أنَّ الصورة المطلوبة، أو الشخصية المثالية (بحسب تصوره) أمر بعيد المنال، قد يصاب باليأس والإحباط، ويبدأ بالبحث عن صورة بديلة تتناسب مع قدرته بحسب زعمه. وعليه فلا يكفي أن يتصوّر كلّ واحد منا ما يريد أن يكون عليه، بل يحتاج إلى عزم وقوَّة نفسيّة للمثابرة والسعي على هذا الطريق.

* القدوة حلم قابل التحقق
معظمنا يعلم أنَّ الصورة المثالية للكمال الذي نحلم به، لن تشكِّل سبباً للاندفاع والتحرّك نحو تحقيقها إلا إذا تمثلت في شخص حقيقي حيث تجد لنفسها مصداقاً واقعياً. والسرُّ وراء هذا الأمر هو أنّ هذا التحقق يعطي للمثال والحلم واقعية ويضفي على القناعة إمكانية ويدفع عن الحلم وساوس الشك والترديد. إنّنا ننتقل بسرعة لاتِّخاذ قدوة لنا لأنَّنا لا نقدر على البقاء في الحلم والمثال؛ فنحن بطبيعتنا كائنات تطلب الاقتناع والتصديق. القدوة يأتي ليثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن حلمنا قابل للتحقّق. لكن هذه القناعة لوحدها لا تكفي لتشكِّل الدافعية المطلوبة التي ذكرنا أنَّها في مجال بناء الشخصية ينبغي أن تكون على درجة عالية. فالدَّافع القوي في مثل هذه الحالة إنَّما يتشكَّل بعد إدراك الواقع الذي نحن عليه، بالإضافة إلى المثال والغاية، حيث نقوم وبسرعة خاطفة بإجراء مقارنة بين ما نحن عليه وما ينبغي أن نكون. وإذا عظمت المسافة ورأينا الفارق كبيراً يشقُّ ذلك علينا ويتألَّم باطننا، وهذا الألم ينشأ عن فطرتنا الطالبة للكمال والماقتة للنقص. وهنا بالذات يأتي القدوة ليخرجنا من دوامة اليأس التي يمكن أن نسقط فيها.

* سرّ طلاّب الكمال
لا يوجد مثل القدوة في بناء الشخصيَّة والاندفاع نحو الكمال من عامل مؤثِّر. القناعة والأمل والرغبة في التكامل أمور تحدث بفعل وجود القدوة في حياتنا. إلا أنَّ ها هنا عاملاً آخر لا ينبغي أن يغيب عن بالنا، وهو السرُّ الذي يميِّز طلاب الكمال ويرفعهم درجات. إنَّه مستوى الحبِّ والتعلّق بالقدوة. يقول الشهيد مطهري: "الحب هو الذي يجعل القلب قلباً فلولا الحبُّ لكان مجرَّد طين وماء. إنَّ الحبَّ يحيل الثقيل الكسول إلى خفيف سريع الحركة بل إنَّه يحيل الأحمق إلى ذكي حادِّ الذهن.."(2)؛ ويقول سماحة الإمام القائد في خطابه في ذكرى يوم المباهلة: إنَّ هذه المودَّة تمثِّل الدعامة والخلفية. فلو لم تكن المودة موجودةً لكان ذلك البلاء لينزل بالأمَّة الإسلامية؛ وهو ما حدث في العصور الأولى حينما قامت فئة وأزاحت المودَّة جانباً حيث أدَّى الأمر بالتدريج إلى إزاحة الطاعة والولاية. فبحث الولاية مهم جداً. فهذه المودَّة تحصل من خلال هذه العلائق العاطفية؛ وإنَّ ذكر مصائبهم يؤدِّي إلى إيجاد نوع من الارتباط العاطفي، مثلما أنَّ ذكر مناقبهم وفضائلهم يؤدِّي إلى نوع آخر من هذا الارتباط العاطفي.

* قدوة البشر كمالات واقعية
الرغبة بعد القناعة توجد فينا تحرّكاً واندفاعاً. لكن بناء الشخصيّة والوصول إلى الكمال يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، فالمصاعب كثيرة والعقبات كبيرة، ولا يمكن تجاوزها بالقناعة والرغبة فقط. فما لم يتولد فينا ذلك العشق لتلك الشخصية، سيكون من المستحيل علينا أن نتخطَّى كلَّ تلك العوائق. لهذا كان طرح المودَّة والمحبة للكمّل والأولياء من الدين، بل هو الدين كما في حديث الإمام الصادق عليه السلام الذي أجاب سائلاً عن محبَّتهم عليهم السلام: و"هل الدين إلا الحب"(3). إنَّ من مميزات دين الإسلام ومنهج الربِّ المتعال أنَّه لا يدعو إلى الكمال من خلال العقل فحسب، بل ينسجم مع فطرة الإنسان وأصل خلقته وتركيبته النفسيَّة السليمة بدعوة القلب وتحريكه من خلال إيجاد الشخصيَّات الكاملة في حياة البشر. فلم تخلُ الأرض يوماً من كامل ولن تخلو. ولو بقي يوم واحد من الدنيا لطوَّله الله حتّى يخرج الحجة. والأعظم من ذلك بالطبع أنَّ ما يميِّز الدين الإلهيّ في منهجه التربوي التكميلي أنَّ الذين يطرحهم كقدوة للبشر هم أشخاص بلغوا أعلى درجات الكمال وتميّزوا بالكمالات الواقعية لا الكمالات الوهمية الزائلة.

* إختبر نفسك: من هو قدوتك الواقعي؟

جميعنا قد نقول إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قدوتنا. لكن هل هو قدوتنا في الواقع؟ وهل نتحرّك نحوه في سيرنا التكاملي؟ هل غلبت علينا الدنيا، بحيث لم تعد ذكراه سوى حلم بعيد؟!

- قد تكون هذه الأسئلة مساعدة على اكتشاف حقيقة الأمر.
- ما هي أهم صفة تميَّز بها الرسول الأكرم؟
- هل أسعى لتحصيلها؟
- ما هي الموانع التي تحول بيني وبين ذلك؟
- ما هي أهمّ مقامات الرسول الأعظم؟
- هل أسعى للتعرف إلى رسول الله؟
- ما هي الكتب التي قرأتها لغاية الآن حول سيرته الطاهرة؟
- بماذا كان يحلم رسول الله؟
- هل لدي نفس الحلم؟
- ما هي أعظم الإنجازات التي قدمها للبشرية؟
- هل يمكن أن أسلك نفس الطريق الذي يحفظ هذه الإنجازات؟


(1) وصايا عرفانية، الإمام الخميني"قدس سره".
(2) الشهيد الشيخ مرتضى المطهري، علي في قوتيه الجاذبة والدافعة.
(3) الخصال، الشيخ الصدوق، ص21.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع