نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مقام الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري قدس سره



تحقيق: حيدر خير الدين


بعد التحقيقات المختصرة التي قدمناها والتي استهدفنا منها تسليط الضوء على مقامات الأنبياء والأولياء والصالحين، ارتأى الأخوة في دائرة الآثار في مؤسسة جهاد البناء إضافة بعض ما عندهم على هذا الصعيد وهم مشكورون مأجورون.. فإلى قرّاء المجلة تلكم التحقيقات والتي ستكون عبر حلقات.

تستوقفك الصرفند تلك البلدة العاملية لتستقبلك بقبة خضراء حوت آثاراً مباركة لعظيم من عظماء الإسلام ولقائد من قادة أعلام تحملوا عناء السفر ووعورة الطريق وظلم القريب ليكونوا على الناس شهداء يذودون عن حياض الإسلام وينشرون بذور الولاء والمبايعة فتغدو في الآفاق الأنشودة النبوءة أنشودة الولاية ونبوءة الرسالة ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر.
فمن هو هذا الصحابي الذي تشرفت هضاب جبل عامل ورباه بحمل اسمه التي تعرف بجبل أبي ذر وأرضه؟ ومن هي هذه البلدة؟

عرفت الصرفند في المصادر الكلاسيكية تحت اسم "سِربَتا" والتي تعني مكان صهر المعادن وتنقيتها فيما اعتبر علماء اللغة أن أصلها "صِرْفَتْ" أي مشتقة من الصرافة لكونها كانت موضع الصرف، ومهما يكن فإن التاريخ يشير إلى أنها من إحدى المدن الفينيقية القديمة التي لعبت دوراً مهماً في الماضي السحيق، وقد ذكرها الملك الآشوري سنحاريب ضمن المدن الساحلية التي افتتحها في حملته الشرق أوسطية وذلك على لوحة كتابية "تيلور"، كما وردت في المسلات المصرية وتل العمارنة، وقد بلغ علو شأنها إلى اعتبارها الحد الفاصل بين مملكتي صيدا وصور حتى كانتا تتنازعان السلطة عليها فكانت تتبع أحياناً صيدا ومرة أخرى صور، وكان لها موقعها الجغرافي المهم والمميز إذ توسطت المسافة بين مدينتي صور وصيدا وهي ذات هضبة استراتيجية مرتفعة تشرف على البر والبحر مما جعل الأقدمون يتحصنون بها ويبنون عندها الحصون والقلاع، ذكرها ياقوت الحموي في معجم بلدانه والسمعاني في كتابه الأنساب وابن عساكر في تاريخه وفي القاموس وتاج العروس بأنها عاصمة للعلم والعلماء والصلحاء والأولياء بها رابط أبو ذر الغفاري وكثير من الصحابة كمحمد بن رواحة والنعمان وأبي الدرداء. وغالباً ما عرّفها الرحالة بعنوان حصن صرفندة.

تبعد عن بيوت مسافة 55 كلم وعن مدينة صيدا مسافة 12 كلم تصلها من الطريق الساحلية صيدا، الغازية، العمروسية، الصرفند وتحيط بها بلدات البيسارية، السكسكية، النصارية، وترتفع عن سطح البحر مسافة 154م.

افتتحها المسلمون مع جملة المدن الساحلية، حيث ارتبط تاريخ فتحها بتاريخ كل من المدن بيروت وصيدا وصور عام 14 للهجرة وغالباً ما ورد اسم الصحابي أي ذر الغفاري في مجمل الذين شاركوا في الفتوحات الأولى، كما كان له السبق في الفضل بالمشاركة بفتح جزيرة قبرص والتي كانت باكورة أعمال المسلمين الحربية البحرية في البحر الأبيض المتوسط إذ لم يركب المسلمون بحر الروم قبلها، ليس وحده وأنما بمشاركة ولده عبد الملك بن أبي ذر. وقد قيّض اللّه تعالى للمسلمين الظفر والنصر والفتح المبين وأصبحت قرى الساحل ومدنه ثغوراً مهمة متقدمة بوجه الروم تدافع إلى المرابطة بها جميع الصحابة والمجاهدين، إذ عد المؤرخون الصرفند من النقاط الساخنة دائماً والمواجهة بين المسلمين من جهة والروم من جهة أخرى، إضافة إلى المدن الساحلية الأخرى عسقلان، عكار، صور، صيدا، بيروت، جبيل، طرابلس وطرطوس.

كما اعتبر أئمة الإسلام أن الرباط في هذه الثغور أفضل بكثير من الرباط في السواحل الأخرى لتعاظم الخطر الدائم عليها وهذا ما جعل الصحابة أبا ذر والمقداد وسلمان وأبا الدرداء ينفرون إليها خفافاً وثقالاً، وقد جعل أبو ذر في البلدة ماحوزاً أو مكان إقامة من يدخل في حوزة المسلمين من أهالي البلاد المفتوحة حيث تسجل أسماؤهم وتقام لهم مكاتب للإشراف عليهم.
وبالتالي فإن وجود مصلّى أبي ذر في الصرفند لدليل لا يدخله أدنى شكل للإقامة الفعلية لهذا الصحابي وان نسبة المسجد والمشهد له حقيقة ساطعة وان كان هناك ثمة شاهد آخر في بلدة ميس الجبل لأنه رضوان اللّه عليه كان يتنقل دائماً متى كان هناك ضرورة لذلك.

وقد تعلق أبو ذر الغفاري بهذه البلاد الطيبة فكما زارها مرابطاً في المرة الأولى زارها منفياً في المرة الثانية عندما احتكرت العطايا وتبدّلت النوايا في عهد الخليفة الثالث والتي غدت حصصاً للطامعين فخرج ثائراً على معاقل الثروة والسلطة بكلمات كانت أمضى من سيوف الأرض كلها حتى أخفق الجميع في مواجهته للفكر الكبير والالتزام العميق الذي تحلّى به هذا المجاهد المقدام فكانت مؤامرة نفيه إلى الشام إلى الثغور الأمامية، بيد أن تلك الربوع والأمصار والأصقاع والضياع خرجت لاستقباله استقبالاً حاراً حالما سمعت بمقدمه حيث التفوا حوله وتنازعوا عليه فيمن يضيفه وهم يقولون له حدثنا يا أبا ذر حدثنا، إنا سمعنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول بحقك "ما أقلت الغبراء وما أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر"، فانبرى عندها قائلاً حكمته المشهورة "عجبت ممن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج إلى الناس شاهراً سيفه"، فكان نفيه إلى تلك الثغور ثورة ضاق بها صدر معاوية بن أبي سفيان، كيف لا وقد عيا عن الجواب عندما سأله أمام جموع من الناس عن حاله قبل السلطة وبعدها وكل ذلك بلا خوف أو مداراة لأن أفضل الجهاد كلمة حق بوجه شيطان أخرس.

وإلى هذا الصحابي يرجع فضل تشيع جبل عامل وأن أول من أطلق اسم الشيعة كان هو إذ أن هذا اللقب كان لصحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وهم أبو ذر، سلمان، المقداد، وعمار إلى حين صفين فانتقل ذلك اللقب إلى موالي الإمام أسد اللّه الغالب علي بن أبي طالب، وبناء عليه، فإن الكثير من العلماء كالحر العاملي والشهيد الأول والثاني يشيرون إلى أن تشيّع أهل عاملة هو أقدم من تشيّع غيرها في كل قطر باستثناء الحجاز.

يقع المقام الشريف على قمة جبل صخرية مرتفعة داخل البلدة بشكل يصعب الارتقاء إليه من جهة الغرب وكان ذلك الموقع قديماً منعزلاً جاء ضمن تربة إسلامية أحاطت به من كحل الجهات وذلك للتبرك من وجود المقام المقدس وبداخل المقام مسجد صغير الحجم ذو جدران تصل سماكتها إلى حوالي المتر تقريباً تتقاطع لديه أربعة عقود حجرية تحمل قبة صغيرة الحجم... وقد توسط جداره الجنوبي محراب متواضع ويشير تجويف في الجدار الغربي إلى احتمال وجود لوحة حجرية تشير إلى ذلك التاريخ.
وثبتت على الجدار الجنوبي من الخارج لوحتان قد طمس الدهر حروف إحداهما فيما الثانية تشير إلى ترميم المقام عام 1289 للهجرة.

ثمة شاهد آخر ضمن البلدة كان سالماً فلم تدمره الحملات الصليبية ولم تمتد إليه يد الغدر الصهيونية أيام الاجتياح عام 1982 وهو مسجد الإمام الحسن العسكري عليه السلام وقد ثبت على حدوده لوحة رخامية تشير إلى سنة بنائه مكتوب عليها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم.
﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ . أمر بإنشاء هذا المسجد المبارك العبد الفقير إلى اللّه تعالى علي بن مسعد غفر اللّه له ولوالديه على صاحبها أفضل الصلاة والسلام سنة أربع وعشرين وتسعماية هجرية، وعلى جانيها كتابتان الأولي لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه علّمه المعلم أحمد بن أبو الرمَّة والثانية العبد الفقير إلى اللّه محمد بن النايب.
فبأمثال هذا الصحابي يحتذى ويقتدى وإلى أشباه هذا المقام تشد الرحال للوقوف على آثار مباركة خلّدها التاريخ بأحرف نورانية مشرقة.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع