نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

وصايا العلماء: مناجاة الزاهدين(3): إلهي أسكنتنا داراً


آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)


تحدّث الإمام زين العابدين عليه السلام في مطلع "مناجاة الزاهدين"، عن وصف الدنيا بالخدّاعة، وعن زهد أحباب الله فيها. إلّا أنّ الإنسان قد خُلق في هذه الدنيا، فلمَ لم يُخلق في دار أخرى حيث لا مكر ولا زينة ولا خداع؟
لِمَ لمْ يُخلق في الجنّة منذ البداية، كالملائكة مثلاً؟! وهل نستحقّ الجنّة دون اختبار الدنيا؟!
هذا ما سيحاول المقال في هذا العدد، الإجابة عنه.


* محلّ تعالي الإنسان ورشده
لماذا خلقنا الله تعالى في دنيا نتعرّض فيها إلى الخداع والسقوط باستمرار، وإذا غفلنا فيها ابتُلينا بالهلاك والخذلان الأبديّ؟ لماذا لم يخلقنا الله في الجنّة من البداية لنرتاح من الآلام والمصائب، ونبتعد عن الخداع، ونستفيد من رحمة الله الواسعة ونعمه اللامحدودة؟ لا شكّ، إنّ طرح هكذا سؤال يعود سببه إلى الجهل بحكمة وجود الجنّة وشرط دخولها.

تؤكّد التعاليم القرآنيّة والروائيّة أنّ الدخول إلى الجنّة والاستمتاع بنِعَمها يكون في ظلّ أعمال الإنسان الاختياريّة، وما يحصل للمؤمنين في الآخرة، هو نتيجة عملهم الصالح في الدنيا. فكلّما زاد الإنسان من أعماله الصالحة، علا مقامه في الجنّة وازدادت نِعمه فيها. وعلى هذا الأساس جاء في رواية الإمام الباقر عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قال: سبحان الله، غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومن قال: الحمد لله، غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومن قال: لا إله إلا الله، غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومن قال: الله أكبر، غرس الله له بها شجرة في الجنّة. فقال رجل من قريش: يا رسول الله، إنّ شجرنا في الجنّة لكثير. فقال: نعم، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك أنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: 33)"(1).

ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول بعض أحداث ليلة المعراج: "لما أُسرى بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعاناً، ورأيت فيها ملائكة يبنون لُبنة من ذهب ولُبنة من فضة، وربما أمسكوا، فقلت لهم: ما لكم قد أمسكتم؟ فقالوا: حتى تجيئنا النفقة. قلت: وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"، فإذا قال بنَينا، وإذا سكتَ أمْسكْنا"(2).

* الملائكة: كرامٌ موكلون
نسبت الآيات والروايات مسؤوليات وأعمالاً إلى الملائكة. وقيل من جملة ذلك إنّ بعضهم يؤدي دور الحارس في القيامة يخدمون المؤمنين وعندما يدخل أهل الجنّة يخاطبونهم: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ (الزمر: 73). كما أنّ هناك تسعة عشر نفراً من الملائكة، حرّاس جهنم والموكّلون بها (المدثر: 30) هم ملائكة غلاظ وشداد.

وقد حَذَّر الله تعالى المؤمنين الوقوع في نار جهنم، يقول حول أولئك الملائكة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم: 6).
فهل يمتلك الملائكة الموكلون بالجنّة، نصيباً من نعم الجنّة، وهل لهم نصيبٌ من الثواب المعدّ للمؤمنين؟ وهل يلتذّون بتلك النعم؟ وكذلك هل الملائكة الموكّلون بجهنّم والذين يتولّون مسؤوليّة عذاب أهل النار، سينالهم نصيبٌ من ذاك العذاب؟

إنّ الملائكة حرّاس الجنة، وليس لهم نصيب من نعم الجنة؛ لأنّ تلك النعم هي ثواب أعمال الخير التي أتى بها المؤمنون باختيارهم. كما إنّ الملائكة حرّاس جهنم، مقربون من الله تعالى ومعصومون، ولا يصدر عنهم الخطأ فلا يُعاقَبون. يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الشأن: "بل هم خَلقٌ من خَلق الله، لهم ذواتٌ طاهرة نوريّة، لا يريدون إلّا ما أراد الله ولا يفعلون إلّا ما يؤمرون؛ ولذلك لا جزاء لهم على أعمالهم من ثواب أو عقاب، فهم مكلّفون بتكليف تكويني غير تشريعي، مختلف باختلاف درجاتهم"(3).

* الدنيا محلّ الاختبار والاختيار
إذاً، يتضح أنّنا إذا لم نُخلق في الدنيا، لن ندرك الجنّة. لقد أتينا إلى الدنيا لنصنع الجنّة لأنفسنا، ونحن نجعل الجنّة تليق بنا. وقد وضع الله تعالى بين أيدينا القصور وحور العين والفاكهة ونِعم الجنة الأخرى مقابل سلوكنا اللائق؛ نعم نحن عاجزون عن إدراك وفهم عظمتها، وهي جنّة تخاطب أصحابها عند دخولهم: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ (ق: 34-35).

فإذا كان الإنسان يتمتّع بالسعادة الأخرويّة بناءً على العبادة وخدمة الخلق وأعمال الخير، وبما أنّ أرضيّة تلك الأعمال موجودة في الدنيا، يمكن القول: إنّ الدنيا ذات قيمة كبيرة؛ لأنّه يمكن الاستفادة منها للوصول إلى السعادة والجنّة، وهي وسيلة للحصول على رضوان الله. وعلى هذا الأساس، فإنّ ذمّ الدنيا هو باعتبار القول بأصالتها وجعلها هدفاً، وحين يعمل الإنسان للوصول إليها ولو عبر الطريق اللامشروع.

* مفترق طريقين
عندما يقال: إنّ السعادة والجنة تليق بالإنسان بواسطة أعماله الاختياريّة، فهذا يعني أنّ الإنسان يقف عند مفترق طريقين، ينتهي به أحدهما إلى الجنّة والآخر إلى النار. وإذا اختار الإنسان الطريق المؤدّي إلى الجنّة، ونظّم سلوكه على أساس ذلك، وصل إلى السعادة والجنّة.

لذلك، يجب الالتفات إلى أمرٍ هام؛ فعلى الرغم من ميل الإنسان إلى الماديّات واللذائذ الدنيويّة، وعلى الرغم من الموانع والصعوبات التي تقف في مسير كماله وسعادته، وعلى الرغم من أنّ طيّ مسير السعادة والجنّة شديد الصعوبة، فمن الطبيعي إنّ الوصول إلى السعادة وإلى نعم الجنّة الأبديّة صعب وشاقّ، وكما كلّ عمل ومقصد يختاره الإنسان في حياته، لا يخلو من الصعوبة. عندما يرغب الشاب أن يكون موظّفاً، عليه أن يهيّئ المقدّمات الضروريّة لذلك، فكيف لا يقتنع الإنسان بتحمّل المشقّات والصعوبات وبصرف القليل من الوقت للعبادة والقيام بأعمال الخير مقابل الجنة التي وعد الله بها، والتي يقول حول عظمتها: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 133)؟!

* حقيقة الدنيا: فرصةٌ للكمال
إذاً أرضيّة كمالنا وتعالينا موجودة في الدنيا. ويمكننا الاستفادة اللائقة من الفرصة السانحة لنا في الدنيا في طيّ مراحل السعادة والتعالي، والوصول إلى أعلى المدارج الإنسانيّة؛ ليَمُنَّ الله علينا برضوانه والجنّة. فلو لم نأتِ إلى هذه الدنيا، لبقينا في ذاك التراب.

إذاً، الدنيا قيّمة من ناحية الإمكانيّات التي تضعها بين أيدينا. أمّا ذمّ الدنيا وما جاء في مناجاة الإمام عليه السلام عند قوله: "إلهي أسكنتنا داراً حفرت لنا حفر مكرها..." فذلك لنكون على يقظة ولا يخدعنا الشيطان ولا يخدعنا مظاهر الدنيا؛ وكي لا نعتقد بأصالة الدنيا، ولا نجعلها هدفاً لنا. نعم، تحدّثت التعاليم الدينيّة الواردة في كلام المعصومين عليهم السلام وفي آيات القرآن العديدة عن ذمّ الانخداع باللذائذ الدنيويّة، والوقوع في ورطة الدنيا والغفلة عن الآخرة. وفي هذا الإطار نذكر آيتين من باب المثال: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان: 33). وقال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (الحديد: 20).


1.وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص186 - 187.
2.(م.ن)، ج4، ص1208.
3. تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج19، ص334.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع