نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قرآنيات‏: أحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص (2)

الشيخ محمود سرائب‏


إن القرآن الكريم كرسالة سماوية خالدة وشاملة قد خاض في فنون المعارف البشرية المختلفة بأحسن أسلوب وأقوم منهج وبلغ في جميع ذلك أعلى الغايات. والقصة القرآنية كانت من أهم الوسائل التبليغية التي استخدمها القرآن، وقد خضعت هذه القصة لأغراض دينية بحتة، وإن كان هذا لم يمنع من بروز الطريقة الفنية المتناسقة في إدارة مشاهد القصة القرآنية، كما أسلفنا في البحث السابق، الذي تحدثنا فيه عن أهداف القصة القرآنية، ونكمل في هذا البحث حول الآثار المترتبة لخضوع القصة القرآنية للغرض الديني، لأن هذه الأهداف كما أثَّرت على أسلوب الأداء، أثَّرت أيضاً على مادة العرض للقصة القرآنية. ولكن قبل الدخول في الآثار التي تركتها هذه الأهداف، لا بد أن ألفت عناية القارئ بأن القصة القرآنية بهذه الصورة التي نجدها في الكتاب العزيز مرسومة بريشة ربانية ولمسات فنية وذوقية رائعة، وبألفاظ موسيقية خاصة، وبأجراس وأنغام تقرع السمع فتترك فيه رنيناً خاصاً. كل هذه الأسباب أضفت على هذا المشهد سحراً وجاذبية أخرجت القرآن عن حد السيطرة والطبيعة وجعلته مهيمناً على القلوب ومعجزة فاقت العقول.


* الآثار المترتبة على الأهداف‏
أ- التكرار في القصة:

بمعنى أن ترد القصة الواحدة مكررة في مواضع شتى، وهذا التكرار لا يطال جسم القصة بكاملها، إنما حلقات خاصة، وهذا يخضع للأهداف ولمناسبات خاصة بالسياق. ونأخذ على سبيل المثال أكثر قصة مكررة في القرآن وهي قصة النبي موسى عليه السلام فقد وردت في حوالي الثلاثين موضعاً ونأخذ بعض هذه العيِّنات.

1- في سورة الأعلى إشارة قصيرة وعابرة إلى ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (الأعلى: 19).

2- في سورة الفجر كان ذكر النبي موسى عليه السلام غير مصرَّح به، فذكرت القوى المنفعلة والمتحركة وهو فرعون، ولم تذكر القوى الدافعة والفاعلة في المجتمع وهما النبي موسى عليه السلام وهارون عليه السلام. ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (الفجر: 10).

3- في سورة الأعراف، ذكرت قصة النبي موسى عليه السلام مع باقي الأنبياء عليهم السلام، وكيفية دعوتهم وتقبل أقوامهم لرسالاتهم.

4- وفي سورة طه، يبدأ تفصيل آخر، وهو منذ رؤية موسى للنار.

5- وفي سورة الشعراء تُعرض قصة النبي موسى عليه السلام مع الرجل المصري وكيفية قتله لهذا الرجل. وهكذا في باقي السور المختلفة التي عرضت قصة النبي عليه السلام، والغرض من هذا الكلام أن التكرار كان لأهداف مختلفة لذلك فإن الحلقات الأساسية في القصة لم تكرر إلا نادراً وذلك لضرورة السياق القرآني.

ب- العرض بمقدار أداء الغرض:
إن خضوع القصة للأهداف الدينية، جعلها تُعرض بمقدار أداء هذا الغرض، فمرة تعرض من أولها، ومرة من وسطها، وتارة تعرض كاملة بكافة حلقاتها والسبب في ذلك أن الهدف التاريخي ليس من الأمور التي يستهدفها القرآن في عرضه. مثلاً: قصة السيدة مريم عليها السلام تبدأ من نذر والدتها لها وهي في بطنها، ثم كفالة النبي زكريا عليه السلام لها لأن هذه الحلقة هي من الحلقات المهمة في حياتها عليها السلام. وقصة النبي عيسى عليه السلام تبدأ من الولادة لإظهار مقدرة اللَّه عزّ وجلّ، وقصة النبي يوسف عليه السلام تبدأ وهو صبيٌ. لأنه في عمره هذا بالتحديد بدأ المنعطف الكبير في حياته ففيه كانت الرؤيا التي رافقته طوال عمره. وهكذا باقي الأنبياء عليهم السلام، وغيرها من القصص القرآنية الأخرى.

ج- الهدف يؤثر على الحجم:
بمعنى أن خضوع القصة للأهداف كما يؤثر على الابتداء كذلك يؤثر على الأطناب والإيجاز مثلاً: هناك قصة تعرض بشكل كامل كقصة النبي موسى عليه السلام.
وهناك قصص متوسطة التفصيل كقصة النبي نوح عليه السلام.
وهناك قصص قصيرة كقصة النبي هود عليه السلام، وصالح عليه السلام وشعيب عليه السلام.
وهناك قصص متناهية في القِصَر كقصة النبي زكريا عليه السلام.
هذه هي أهم الآثار المترتبة على خضوع القصة القرآنية للأهداف الدينية، ولكن كما قلنا أن هذا لا يمنع من وجود الخصائص الفنية.

* الخصائص الفنية، وأهمها:
أ - تنوع طريقة العرض:

وهذا يؤدي إلى عدم ملل المستمع وعدم الرتابة في العرض فمثلاً: تارة يعطي ملخصاً عن القصة ثم يبدأ بعملية عرضها كقصة أصحاب الكهف. ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (الكهف: 9). وأخرى تذكر عاقبة القصة ومغزاها قبل عرضها ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (القصص: 4). وثالثة تُذكر بلا مقدمة ولا تلخيص.

ب - استخدام عنصر المفاجأة:
ولعل هذا من أهم العناصر والأساليب التي يستخدمها العمل السينمائي المعاصر، لأن المفاجأة في عملية العرض تؤدي إلى إثارة الوجدان الإنساني وتؤثر على الأحاسيس البشرية. فمثلاً: قد تُعرض أحداث ومفاجأت متوالية لا نفقه تفسيرها مما يشكل لنا حالة من الدهشة، وفي آن واحد يكشف لنا الستار عن خلفيات هذه الأمور وهذا ما حصل فعلاً في قصة النبي موسى عليه السلام مع العبد الصالح.

ج - استخدام المشاهد في العرض:
إن القرآن الكريم لا يعرض القصة بشكل ودفعة واحدة، بل يترك بين المشاهد فواصل، ويقسم القصة إلى مقاطع، وبهذا الأسلوب ينفي الملل عن المستمع ويجعله ينتظر المشاهد الآتية ويترك له طائر الخيال يسبح في استيحاء أو توقع ماذا سيحدث فيما بعد. وقصة النبي يوسف عليه السلام خير شاهد على هذا الأسلوب في عرض المشاهد. مثلاً: من مشاهدها عندما قدم إخوته وهو على خزائن الأرض وذلك في سنوات الجدب، وماذا حصل معهم، ثم يسدل الستار لنلتقي بهم في مشهد آخر أمام أبيهم، ثم نرى مشهداً آخر بين يعقوب عليه السلام وبنيه، ونراه قد ابيضت عيناه... وهكذا، وهذا الأسلوب يعتبر من الأساليب التي تميز بها العرض القرآني للقصة.

د- التصوير في عرض القصة:
لعل هذا الأسلوب من أبرز الخصائص الفنية القرآنية في عرض القصة، وهذا الأسلوب قد فرد له بعض علماء التفسير موضوعاً خاصاً، وكتبت فيه بعض الكتابات منها ما يحمل نفس هذا الاسم، كالكتاب المميز في هذا الباب "التصوير الفني في القرآن" تأليف الأستاذ سيد قطب ونأخذ على سبيل المثال مشهداً من هذه المشاهد التصويرية التي عرضتها الريشة الربانية في سورة الكهف. في المشهد الأول: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (الكهف: 16) وهذا المشهد يشعرنا بالدخول الهادئ‏ داخل الكهف. في المشهد الثاني: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (الكهف: 18) انظر إلى هذا التصوير المتحرك الذي يشعرك بأنك داخل الكهف، وكيف استطاعت هذه الألفاظ ببراعة وبسهولة أن ترسم المشهد أمامنا وفجأة سينتفض هؤلاء النيام بعد مئات السنين وتدب فيهم الحياة، وكأنك تشعر أن الدم يجري الآن في عروقهم. ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ... (الكهف: 19) وهكذا إلى آخر القصة. 

فاللفظ ينبض بالحيوية والحركة كأنك أمام حادثة تحصل الآن؛ وهذه قدرة اللَّه تعالى تجلت في كتابه فتبارك اللَّه أحسن الخالقين.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع