نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناسبة: شـهـادة...لكل المواسم

تحقيق: زينب صالح


كانت بيوتاً ككلّ بيوت الزمن التي يدخلها الدّهر ويخرجُ خالي الوفاض من سنبلةٍ يخلّدها في قلب التاريخ، قبل أن ينبري منها الشعلة، ليحلّق شهيداً، زارعاً في الأرض عزم روحه. ومن بعده، لا تتوقّف المسيرة، إذ يُلمْلم الأخ أو الإخوة متاعهم ويودِعون الأهل أمانةً بيد الله ويذهبون، فتضجّ جدران الوطن والقلوب بهم، إخوة الشهداء، الذين تناوبوا على العطاء في مواسم البدايات إلى التحرير، إلى حرب عدوان تموز، وأخيراً الحرب ضدّ التكفيريين.

*عطاء الدم حبر المقاومة
يعرف جيّداً، كلّ من يلتحق بقافلة المقاومة، أنّ عطاء الدم لا يتوقف، وأنّ كل مرحلة من مراحل الجهاد تتميّز بتضحياتٍ لا يواسي فيها سوى العبارة الشهيرة "إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي"، و"يا ربّ، خذ حتّى ترضى".

وفي نهاية كلّ موسم، وعندما تتوَّج الأمة بالنصر، تقف عائلات وفي عينيها ألف دمعة، تبتسم بشموخٍ. ففي أيامنا، تختلط دموع الفقد لشهداء الدفاع عن المقدسات بدموع أخرى، على شهداء، إخوتهم من ذاك الزمن القريب، قبل تحرير عام 2000م؛ ومن هذه العائلات الكريمة، تناولنا الحديث عن عائلتين.

*أيام الاحتلال.. ذكريات قاسية
تحت كل شعرة بيضاء من رأس الرجل السّتينيِّ "أبو علي بدّاح" والد المجاهدين والشهداء، ألْف حكايةٍ وحكايةٍ تسردها تجاعيده النّاعمة التي لا تعرف إلّا أن تبتسم وتقول: "الحمد لله".
بيته هادئٌ هدوءَ تقبّله لكلّ خبر استشهادٍ اعتاد عليه، يقول دائماً: "الله أعطى والله أخذ، الحمد لله".

تميّزت فترة الاحتلال بغياب الوعي العام بضرورة المقاومة والجهاد، إذ يقول أبو علي: "بدأت معاناتنا قبل التّحرير بسنواتٍ طويلةٍ؛ أي منذ عمر الاحتلال، ولأننّي لم أرضخ للتعاون أو التعامل مع العدو الإسرائيلي المحتلّ ولا مع عملائه، ولأنّي ربّيت أولادي على أنّ إسرائيل عدوٌّ وعلينا مقاومتها، كان ذلك كلّه سبب أيام مليئة بذكرياتٍ قاسيةٍ عشناها أيام الاحتلال".

هكذا، بين هضبات "بيت ليف"، القرية الصّامدة على الحدود مع فلسطين المحتلّة، تربّى يوسف وإخوته على الإيمان بالله وحبّ أهل البيت عليهم السلام. يتكلّم الحاج أبو علي عن شغف خاصّ سكن قلب ابنه يوسف: "ذات يومٍ، طلب مني ابني يوسف، وكان في أول سنين المراهقة، أن أعلّمه أدعية الإمام السجّاد عليه السلام، فعلّمته. وذات مرةٍ، سمعته يقول في صلاة الليل بصوت متقطّعٍ من البكاء: يا رب امنحني شهادةً تتقطّع بها أوصالي حتّى أواسي الإمام الحسين ونجله الأكبر وأخاه أبا الفضل العبّاس".

في تلك الظروف، ترك يوسف وإخوته بيت القرية ونزحوا إلى بيروت ليلتحقوا بدرب المقاومة، بعدما تعرّضوا للأذى والتنكيل من قبل العدو وعملائه، فيما بقي الوالد "أبو علي" صامداً في القرية، لمؤازرة المقاومين في عمليّاتهم.

*شهادة يوسف(1)
"كان الإسرائيليون وعملاؤهم يمارسون الضغط عليّ بسبب التحاق أبنائي في صفوف المقاومة، وتعرّضت للسّجن والضّرب مراتٍ عديدة، وكذا زوجتي سُجنت. كان الإسرائيليون يُشيعون بين الناس أنّ القصف الذي تتعرّضون له في "بيت ليف" هو بسببي وبسبب أبنائي الذين هم في المقاومة ينفّذون عملياتٍ يسمّونها "تخريبية" بحقّ جيش الاحتلال، ما وضعني، في بعض الأحيان، تحت ضغط الناس عليَّ بضرورة إيقاف هذه العمليّات.

عندما استشهد ولدي يوسف، شمت بي العدو وعملاؤه وسجنوني لبعض الوقت. في تلك الأثناء خفّت عمليّات المقاومة ضد العدو، فتوقّف القصف على بيت ليف. فادّعى الإسرائيليّون أمام أهل القرية أنّ ولدي يوسف كان السّبب وراء قصف القرية. كان ذاك مؤلماً بالنّسبة إليّ، خاصة أن الشهيد يوسف بقي عاماً ونصفاً تحت الشجرة مكان استشهاده دون أن يقبل جيش الاحتلال تسليمه إلينا كي نكرمه بدفنه".

*شهيد ثانٍ..
تضحية عائلة "بدّاح" لم تتوقف هنا، فالبيت الكريم لا يجف عطاؤه، إذ اختارت الشهادةُ ابنَه الحاج محمد(2) "أبو حسن" بطلاً من أبطالها أثناء مواجهته التكفيريّين.

عن القائد الكبير "أبو حسن" الذي أعيا الإسرائيليين قبل تحرير الـ2000م وأثناء حرب تموز، يقول أبو علي: "كان الحاج محمد ابناً بارّاً، وله مكانة خاصة عندي أنا وأمّه، وفي قلب كل مَن عرفه. كنت أرى فيه الأخلاق العليا السامية المرنة، إضافةً إلى أنّه كان حنوناً عطوفاً، يَصِل رحمه ويتصدّق على الفقراء". ثم يضيف: "عندما استشهد الحاج محمد اتّصل بي شقيقه قائلاً: لقد قضى الحنون يا أبي، لقد قضى كبيرنا. فعرفت أنه المقصود. فوجئت لبعض الوقت، قبل أن أحمد الله وأستعدّ من جديد لتحمّل مسؤولية ليست أهون أو أسهل من المسؤوليات التي وضعتني أمامها شهادة يوسف من قبله. لقد كانت هذه الشهادة مؤلمة لنا جميعاً".

تدمع عيناه، ثم يقول بقوّة: "قابلت الكثير ممّن تأثّروا كثيراً بشهادة "أبو حسن"، كان الجميع يحتضنني ويبكي، وكنت أصبّرهم وأطلب منهم أن يكونوا أقوياء لنكمل الطريق، إنّه طريق التحدّي والمقاومة والتّضحيات".

وفي بيت الرجل، أيتام لشهيدين، يقول الحاج أبو علي: "ربّيت أولاد الشهيد يوسف، وقد كبروا ودخلوا الجامعات، وأنا الآن أمام مسؤولية تربية أبناء الحاج محمد، على خطى والدهم وعمّهم الشهيدين. إنّها مسؤولية ليست سهلة، فيها الكثير من الآلام، لكنّه طريق أهل البيت، الطريق الذي يرضاه الله تعالى".

*الشهيدان العنقوني(3)
في مشغرة جارة القمر، من بيتٍ متواضع، انطلقت شعلتان في موسمين مختلفين، الأولى كانت بانطلاقة "علي" ليكون من طليعة الشباب الذين قرّروا محاربة المخرز. وكان ذلك الشابّ ذخر أهله وصاحب الجمال "اليوسفي" والأخلاق الرفيعة، والطموح الكبير، حيث صبّ الوالدان أحلامهما فيه، ليحقّق ما لم يستطيعا تحقيقه.

لكنّ "علي العنقوني" رأى الحياة في طريقٍ آخر، طريق يوصل نحو الجنوب القاني بلون الدم، المعبّد بتضحيات ثلّةٍ هم أجمل ما يمتلك آباؤهم.

تقول أخته "أم عمّار": "لم تكن مرحلة الاجتياح الإسرائيليّ مرحلة سهلةً أبداً، خاصةً عندما قرّر شباب المقاومة المواجهة، بأسلحتهم المتواضعة وعددهم القليل. لم تُثنهم المقولات الشائعة عن صعوبة الانتصار، فكان أخي عليّ يقول: ألف ضربة بالسيف ولا ميتة على فراش. وقبل معركة ميدون، كان الشباب يستعدّون لاجتياح كبير. كان عددهم ثمانية عشر، عندما ذهبوا لزيارة أحد الجرحى، وعند خروجهم، أخذوا صورة جماعية قائلين: لعلّنا استشهدنا سوية، علينا أن نترك صورة تذكارية لأهالينا.

عندها تعاهدوا، إن دخلت القوّات الإسرائيلية، فإنها لن تدخل إلّا على جثثهم جميعاً.

*اجتياح ميدون
كان علي يتمنّى أن تكون شهادته في ليلة شهادة أمير المؤمنين عليه السلام، وبالفعل حدث ذلك، عندما حصل اجتياح ميدون، تصدّى الشباب للقوات الصهيونيّة بكلّ بسالةٍ ورباطة جأش، استشهد عليّ مع رفاقه، صائماً قائماً، لاقياً الله بثيابه المعطّرة بدمائه الزكيّة".

لم يكن وقع خبر شهادة "علي" سهلاً على عائلته. كان واقعاً مصبوغاً بالألم والصبر والاحتساب، خاصةً وأنّ عزاء واحتضان أسرة الشهيد لم يكن شائعاً بين الناس لغياب الوعي بضرورة المقاومة.

وبعد "عليّ"، صار شقيقه "حسين"، أنيس أمّه وسلواها، وبرعم الصبر في حياتها. عاش معها أكثر من بقيّة إخوته، فصار جليسها، يحدّثها ويسلّيها، ولا يأكل إلّا بين يديها، فصارت ترى فيه صورة "علي" وما بقي من حياتها.

*حسين العنقوني... موسمٌ آخر
عندما اندلعت المواجهات مع التكفيريين، انبرى حسين "أبو ساجد" مع غيره من المجاهدين للدفاع عن حرمة الدين. تقول أخته أم فادي: "عندما بدأت الحرب مع التكفيريين، خفت على أخي حسين كثيراً، لأنه كان سلوى فؤاد أمي، بعد استشهاد علي.

وعندما أخبرته ذلك قال: "ويعني إنْ لم أستشهد ألن أموت؟ وإن لم أحارب ألن ينتهي عمري؟.

وبعدما أخبرته عن خوفي على والدتنا إذا استشهد قال: أمي مؤمنةٌ وصابرة، ولها أسوة بالسيدة زينب عليها السلام التي فقدت كلّ عائلتها وإخوتها وأهلها في يوم واحد.. أمّي أمانة بيد الله الذي لا تضيع عنده الودائع".

تتابع أم فادي: "كان وقعاً أليماً جدّاً علينا استشهاد "أبو ساجد"، لأنّه كان الأخ البار العطوف على الجميع في العائلة، كان الرجل الذي يحبّه كلّ الناس على اختلاف انتماءاتهم".

هكذا، صارت الأعياد لهذه العوائل الكريمة كلّ عامٍ تستقبل ورودها على عدّة أضرحة، تتوزّع حولها أفراد العائلة: الأب، الأم، الأخوات وما بقي من الإخوة والأبناء وربما الأحفاد... يصنعون من هذه الأزهار أيقونات صبرٍ، لإكمال المسيرة التي قد لا تكتفي بهذه الدماء، ولسان الحال يقول: "يا ربّ، خُذْ حتّى ترضى".


1- الشهيد يوسف أحمد بداح، استشهد بتاريخ 24/11/1997م.
2- الشهيد محمد أحمد بداح، استشهد بتاريخ 8/5/2013م.
3- الشهيد علي قاسم العنقوني، استشهد بتاريخ 5/4/1988م؛ الشهيد حسين قاسم العنقوني، استشهد بتاريخ 18/3/2014م.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع