نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مع الإمام القائد: وظائف الحوزات العلمية



عند شروعه في بحث الخارج، تعرض آية اللَّه العظمى الخامئني للوظائف الأساسية للحوزات العلمية، ولأهمية الموضوع نقدم لكم نصه تعميماً للفائدة.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة اللَّه على أعدائهم أجمعين.

جرياً على العادة اليومية سأذكر اليوم رواية لكي نتبرك بأنوار معارف أهل البيت عليهم السلام إن شاء اللَّه، وهذه الرواية من "نوادر الراوندي" عن موسى بن جعفر عن آبائه عليه السلام، وهذا السند يعد من الأسانيد المعتبرة لمن قبل بسند كتاب "الجعفريات".

ونحن تكلمنا فيما اسبق وبمناسبات عديدة عن سند كتاب "الجعفريات" أو "الاشعثيات" - وهو يعرف بالاسمين - وذكرنا روايات "فضل اللَّه بن علي الحسنى الراوندي" الذي يعد من أعلام وكبار علماء الشيعة في القرن الخامس والسادس وصاحب كتاب النوادر وكتب أخرى.

واغلب أحاديث هذا الكتاب هي أحاديث كتاب "الأشعثيات" والتي رواها هو.
وقد قلنا فيما سبق أن كتاب "الأشعثيات" أيضاً يحتوي على الروايات التي يرويها "محمد بن محمد بن الأشعث" عن موسى بن إسماعيل وموسى بن إسماعيل يرويها عن إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا السند هو سند إعلائي جداً.

بالطبع فإن بعض الروايات قبل وبعد "محمد بن محمد بن الأشعث" مشكوك فيها. ولكن البعض كالمحدث النوري رضي الله عنه وبعض الأعلام والآخرين يصرون على أن هذا السند من الأسانيد الجيدة.
والمرحوم الشيخ آغا بزرك الطهراني "رحمة اللَّه عليه" ينقل عن المرحوم الشيخ الاخوند رضي الله عنه أنه كان يقول في مجلس إفتائه "أنه لا يمكن لأي فقيه أن يفتي قبل مراجعة كتاب "المستدرك" للمحدث النوري رضي الله عنه. لأن الفحص عن المعارض والحجة و... متوقف على هذا الكتاب.

وأصل كتاب "المستدرك" أيضاً هو نفس "الاشعثيات" وقد أضيفت بعد ذلك روايات من كتب ومصادر أخرى. وعلى هذا فإن البعض قد قبل - وبهذا السند الذي ذكرناه - روايات الاشعثيات بشكل كامل.
فإذا قبل أحد بهذا السند وقال باعتباره - كما بحثنا سابقاً ولا يستبعد أن يكون كذلك - عندها ستكون رواياه "فضل اللَّه بن علي الراوندي" التي رويت في كتاب النوادر معتبرة.

وبهذه المقدمة حول السند، اذكر روايتين أو ثلاث روايات أخلاقية لكي يتم الانتفاع منها إن شاء اللَّه. وهنا يروي المرحوم المجلسي عدة روايات من كتاب "النوادر" اذكر اليوم بعضها بمناسبة البدء بالدراسة.
أن إحدى الروايات التي ينتهي سندها إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هي هذه الرواية: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم "السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم" وذلك لأن العرش الإلهي هو أمر معنوي ويمثل الحد الأعلى من عظمة الذات الربوبية المقدسة.

ومعنى السبق إلى العرش هو لجوء العبد إلى مولاه في أعلى درجة ممكنة. وأن أرقى شيء يمكن افتراضه للعبد هو لجوءه إلى ظل عرش اللَّه سبحانه وتعالى.
ثم يسأل النبي عليه السلام يا رسول اللَّه، ومن هم؟ فيقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "الذين يقبلون الحق إذا سمعوه" أي أن السابقين إلى العرش يتصفون بعدة صفات: الأولى: هي قبولهم للحق، والثانية: "ويبذلونه إذا سئلوا" أي أنهم إذ سئلوا عن الحق فأنهم يقومون بتبيانه من دون خوف أو تحفظ. ويكفي لو تطبق هاتان الجملتان في عالم اليوم الذي يغرق في الفساد - والذي توجد فيه من دون شك أذهان وقلوب وضمائر وعقول حية وواعية - وهؤلاء يستطيعون فهم الحق والحقيقة ويعرفون ما هو الحق. الحق هو الشيء الذي يقوم عليه أساس الخلق ﴿ما خلقناهما إلا بالحق، الحق هو ذلك الشيء الذي يجب أن يكون، وهو ذلك الشيء الذي كان جهاد كل المجاهدين العظماء في التاريخ من اجل الوصول إليه. والحق هو الشيء الذي لو عرف واتبع وتحقق لما بقي أي انحراف ولا أي اعوجاج في العام، إذن فالحق أمر في غاية الأهمية. فبمقدار ما يتحقق الحق تزول الانحرافات، فهل هذا شيء قليل.

ولو أن أصحاب الفهم الذين يعيشون في عالم اليوم - الغارق في الفساد - عرفوا الحق بأكمله أو شطراً منه أو حتى كلمة واحدة منه ويقبلوها ويبينوها للذين هم بحاجة إليها، فسترون آية واقعة ستقع وأي تغيير عظيم سيحدث في العالم وفي حياة البشرية.

إن مشاكلنا اليوم ناشئة من أن الأهواء النفسية والقيود البشرية والأغلال التي في أعناق البشر، هي التي أثقلت كواهلهم ﴿والأغلال التي في أعناقهم ولا تسمح لهم بمعرفة الحق أو تقبله في حال معرفته وتبيانه للذين هم بحاجة إليه، وهذا هو موضع الخلل. فإذا تحقق هذا الأمر "تقبل الحق وتبيانه" فسترون أي تغيير سيحدث.

إذن فمن المناسب حقاً القول "السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم"، وهذا عمل شاق جداً، طبعاً أن هناك - للحق في المقياس العالمي - من يعرف الحق، ومن ينشره، ومن يمنعه، ومن يخبل به، ومن يرفضه، ومن يكفر به، ومن يخفيه.

وان للحق في مقياس المجتمع الذي نعيش فيه معالم وآثار ومصاديق وجزئيات وخصوصيات أخرى. وكل هذه الأمور والخصوصيات لها أهمية أيضاً. فلا ينبغي أن يقال أن فلاناً - الذي أنكر على المستوى العالمي - سواء كان حق النبوة أو حق التوحيد أو أحقية الفكرة الفلانية بأنه ملعون بينما نخرج عن هذا الحكم شخصاً يعيش هنا - في المجتمع الإسلامي - ويرى حقيقة ولكنه يحاول كذاك الشخص "المنكر لحق النبوة والتوحيد" إنكارها وإخفائها وعدم الدفاع عنها أو حينما تعرض عليه يبادر برفضها "فلا فرق بين الاثنين"، فقد جاءت في الرواية كلمة "الذين" والتي يعتبر كل أحد وفي أي مكانمن العالم وفي أي مقياس مصداقاً لها.

الثالثة: "ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم" وهذه إحدى مصاديق الحق الشاقة والمرهقة جداً، فبعض أقسام الحق ليس فيها كثير من المرارة بالنسبة لبعض الناس بل أنها لذيذة عند مذاق أهل الحق. أما ذلك الحق الذي يعتبر مراً بمذاق الجميع وفي كل مكان فهو هذا المصادق من الحق "الذي جاء في هذه الفقرة من الرواية" والذي لو عمل به أحد بصفته إحدى المصاديق المهمة جداً للحق فإنه سيكون قد اثبت جدارته وادى امتحانه بشكل جيد جداً.

أن ذلك الإنسان الذي يعيش في الحوزة وتكون نظرته إلى النظام الإسلامي وإلى أحكام القرآن التي تطبق في هذا النظام.. نظرة غير جدية فإن ذلك الإنسان، أياً كان، هو عنصر أجنبي على الحوزة "ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم" أي أنهم يجب أن يحكموا للناس بنفس ما يحكمون به لأنفسهم ولا يرون فرقاً بينهم وبين الآخرين. وهذه من الأمور الشاقة جداً على نفس الإنسان. وهذا الحديث الشريف سواء بدليل ما نملكه نحن الطلبة اليوم من مكانة اجتماعية خاصة ببركة الثورة الإسلامية وسواء قبل إقامة نظام الجمهورية الإسلامية وعلى طول تاريخ الفقاهة الشيعية وما كان يملكه علماء الشيعة من مكانة اجتماعية مرموقة بشهادة جهادهم ومواقفهم التاريخية أو الأحداث التي وقعت من اجل إقامة الحق والجهاد ضد الباطل، يعتبر - بالنسبة لنا - حديثاً تربوياً ومهماً جداً.

تذكروا هذا الحديث دوماً، وعلى طلاب العلوم الدينية والمعممين والعلماء أن لا ينسوا هذه الكلمات الثلاثة أبداً.
أولاً:
أن يقبلوا الحق أينما وجدوه، بطبيعة الحال مع التشخيص السليم ويكون - بينهم وبين اللَّه - خالٍ من آية شائبة نفسية.
ثانياً: كلما سئلوا عن الحق وطلب منهم تبيانه وإعلانه، فلا يتوانوا في ذلك.
ثالثاً: أن يساووا بين أنفسهم وبين الناس في الحكم، أي أنهم وكما يحكمون للناس - سواء كان الحكم بمنفعة الناس أو ضررهم - يجب أن يحكموا لأنفسهم كذلك. وهذه تعتبر - تقريباً واحداً من اشق وابرز مظاهر الحق.

الحديث الآخر بنفس ذلك السند أيضاً "عن علي عليه السلام قال: قيل لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: ما الذي يباعد الشيطان منا"، أي ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنا؟ بالطبع انتم تعرفون أن الشيطان هو اعمّ من إبليس، الشيطان هو القوى التي تخلق الشر والفساد والانحراف والتي تقوم بحرف الإنسان بصور وقوالب مختلفة. فتارة تظهر بصورة إنسان وتارة بصورة غير إنسان وأحياناً تتمثل في الأهواء النفسية ومرة يكون إبليساً.

والأبالسة هم طائفة من الشياطين الذين وردت قصتهم في القرآن الكريم كما في قصة آدم. وهؤلاء طائفة كبيرة من الشياطين ولكنهم ليسوا وحدهم، هؤلاء شياطين الجن، وهناك شياطين الإنس الذين يكونوا أكثر خطراً في بعض الأحيان.

إذن ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنا؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم "الصوم لله يسود وجهه" لأان الصوم يقمع الغرائز الجسدية المضللة ويمنعها من الطغيان، "والصدقة تكسر ظهره" لأن الصدقة هي ايثار من الإنسان فيما يملك "والحب في اللَّه تعالى والمواظبة على العمل الصالح يقطع دابره".

وهاتان الخصلتان هما أهم من تينك اللتين سبقتهما، وإحدى هاتين الخصلتين هي الحب في اللَّه والتي تعني توجيه العواطف ولا سيما عاطفة الحب وجهة إلهية.

فإن كنتم تحبون أحداً فليكن ذلك الحب لله لا للدنيا.. والروايات الواردة في مسألة "الحب والبغض في اللَّه" هي كثيرة ومفصلة، وفي كتاب الكافي يوجد باب في هذا الموضوع كما توجد روايات كثيرة في كتب الأحاديث الأخرى.

الخصلة الثانية "المواظبة على العمل الصالح" فليس المهم أن تقوموا بالعمل الصالح مرة واحدة لأن الجميع يفعل ذلك، بل المهم أن يواظب الإنسان على العمل الصالح أي يواصل ويستمر على القيام بذلك العمل كما تقرأ في دعاء كميل "والدوام في الاتصال بخدمتك"، فعلى الإنسان أن يكون متصلاً بخدمة الباري على الدوام، وهذا الاستمرار والتداوم هو شيء له أهمية كبيرة جداً.

وإذا قام الإنسان بهذين الأمرين - الذين يمثل أحدهما الجانب العاطفي يمثل الآخر الجانب العملي -، فسوف وقصر النظر.
إذن فالهدف من الاستغفار هو الالتفات إلى الذنوب المرتكبة ولازمه تصحيح العمل، فيجب على كل إنسان تصحيح عمله بصورة مستمرة، وإذا ما تواجد ذلك فسوف يتم التكامل.

وعلى هذا فإن الشرط الأساسي لكمال الإنسان هو وجود حالة التصحيح هذه والتي يعد الاستغفار احد عواملها المهمة. ولهذا أوليت أهمية كبيرة جداً للاستغفار.

الرواية الثالثة: وبهذا الإسناد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم "أوصي أمتي بخمس: بالسمع والطاعة...". فعادة يأتيان بـ "السمع والطاعة....". فعادة يأتيان بـ "السمع والطاعة" معاً في الموارد الأخرى، ولكنهما جاءا أن "السمع والطاعة" يستعملا هنا بمعنى واحد، فـ "السمع" هنا ليس بمعنى "الطاعة".

السمع هنا يعني الاستماع والمبالاة، وأول شيء يمتلكه الوسط العلمي الشيعي هو المبالاة "الاهتمام"، بما يدور حوله من قضايا وأحداث، ولعل السمع الوارد في هذا الحديث يشير إلى هذا المعنى، فلا يمكن ولا يصح ترك الأمور على حالها ولا يصح ان يقال نحن لا نستطيع عمل شيء أو ليس لنا علاقة بهذه الأمور. فهذا الأساس المبارك أي "الثورة والنظام الإسلامي" قام وتأسس لأن ذلك الرجل الإلهي "الإمام الراحل" كان يختلف عن الآخرين اختلافاً أساسياً، فهو لم يقل أبداً لا علاقة له بهذا الأمور في حين أن كثيراً من الناس يرى ما يقع من أحداث في المجتمع - طبعاً كان البعض لا يرى حتى تلك الأحداث ولا يفهمها ولا تلفت نظره - ولكنه يقول لا علاقة لي بها وأنني مشغول، إلا أن ذلك الرجل العظيم "الإمام الخميني" لم يقل يوماً لا علاقة لي بما يحدث، ولهذا صار إماماً للناس وللأمة، والإمامة كانت حقه المسلّم.
فأول شيء هو "السمع" وبعد ذلك "الطاعة" ولكن هذه الطاعة لمن يجب أن تكون؟ الطاعة لـ "من له الطاعة" "ومن حقه الطاعة"، ولا يقبل التمرد والعصيان من أي شخص وفي أي موقع كان، وأن الأمة الإسلامية لا تكون قد عملت بوصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن تلتزم بالطاعة عندما تصبح الطاعة واجباً شرعياً ملقىً على عاتقها.

وفي مقابل الطاعة هناك العصيان، وقد جاء العصيان في آية محذرة في القرآن الكريم والتي قرأتها مراراً وبمناسبات مختلفة وهي ﴿وعصيتم الرسول، فكان هذا العصيان أحد الأسباب التي أدت إلى هزيمة المسلمين في معركة أحد، فالمسلمون يطيعوا أمراً واحداً من أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقعت تلك الفاجعة.

وقد شاهدنا في عهد الجمهورية الإسلامية أنه في أي مورد شوهد فيه عصيان فقد وقعت فاجعة، وفي أي أمر كانت فيه طاعة كان ينتهي إلى الخير والبركة والصلاح.

وبعد ذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم "والهجرة" طبعاً أن لهذه الهجرة مراحل، فحينما أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم الناس بالهجرة لعله كان يهدف إلى تأسيس المدنية الإسلامية التي كانت تستلزم أن يخرج الناس من حياة البدو التي كانوا يعيشونها في جزيرة العرب ويشكلوا حياة مدنية. فما دام الناس لا يعيشون حياة اجتماعية أو على شكل تجمعات أو بتعبير آخر"حياة مدنية"، فلا يمكن تطبيق الأحكام الإلهية في أوساطهم ولا يمكن الوصول بهم إلى هدف معين.

فالمرحلة الأولى هي الهجرة إلى "دار الهجرة" وبعد ذلك الهجرة إلى المدن حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر العشائر والقبائل الرحل بالهجرة إليها. وإذا لم يهاجروا فلا يعطون من الغنائم شيئاً حتى وأن شاركوا في الجهاد، وهذه المسألة تعتبر في رواياتنا جزءاً من مباحث كتاب الجهاد والتي سنصل إليها إن شاء اللَّه.

والهجرة تعني وجوب عدم البقاء في مكان واحد، ومن الممكن أن يكون مصداق هذه الهجرة بالنسبة لطلاب العلوم الدينية والفضلاء المحترمين في الحوزات العلمية في عصرنا هذا هو الهجرة إلى أكناف البلاد الإسلامية لنشر وتبليغ المفاهيم الإسلامية. فهناك البعض ممن يتمكن من الاستقرار في مدينة ما وإرشاد أهلها وهدايتهم ولكنهم كالمئات أو الآلاف من أمثالهم بقوا في قم من دون أن يترتب أي أثر على وجودهم، وأقصى ما يقومون به هو إلقاء درس والذي إذا لم يدرسوه لحضر هؤلاء العشرون أو الثلاثون نفراً - الذين يحضرون هذا الدرس - عند أستاذ آخر وسمعوا نفس الدرس من ذلك الأستاذ.
فلعل أحد مصاديق الهجرة اليوم هو هذا الذي ذكرناه، وفي الوقت الحاضر توجد في بلادنا مدن - فضلاً عن القرى - هي بحاجة إلى عالم دين، فعلى علماء الدين الذهاب إلى تلك الأماكن من دون شروط مسبقة. لأن البعض يقول لنا يجب أن تتوفر لنا الإمكانيات والتسهيلات أولاً لكي نذهب إلى هناك.

أنني لا أقول أنه لا حاجة إلى الأمور المادية ومتطلبات الحياة بل أن الحاجة إلى تلك الأمور قائمة يقيناً، ولكن يجب اعتبار تلك الأمور المادية ضمن المتطلبات القهرية وعدم افتراضها شرطاً مسبقاً. فلا بد من التحرك وبذل الهمم.
وبطبيعة الحال أن هذا ليس أمراً فردياً لأنه من الممكن أن يتيقن منكم خمسون نفراً بأنه أصبح واجباً عليهم الذهاب إلى المدن الأخرى من أجل تبليغ الإسلام، فيذهبون من اجل ذلك إلا أن هذه الحركة سوف تتوقف بعد ذلك.

فلا بد من إيجاد حركة في الحوزة العلمية بقم وبالطبع في سائر الحوزات العلمية وأن يشارك الجميع وأن يصبح هذا الأمر متواصلاً ومستمراً، وعلى إدارة الحوزة وأكابرها والشخصيات المتنفذة فيها أن يبادروا إلى القيام بهذا الأمر وليبدؤوا بأنفسهم أولاً، ولو أن بعض الأكابر يذهبون إلى مدن أخرى بدلاً من البقاء في قم لكان وجودهم هناك أكثر فائدة وأكثر عطاء وهذا يصدق حتى على أكابر العلماء أيضاً.
فقد لاحظنا كي أن عالماً كالمرحوم آية اللَّه الميلاني رضي الله عنه جاء إلى مدينة مشهد قادماً من كربلاء القريبة من النجف الأشرف وأقام حوزة علمية كبيرة هناك - في مشهد - في الوقت الذي كان الكثيرون من أمثاله في كربلاء والنجف.

حقاً أن وجود آية اللَّه الميلاني رضي الله عنه كان من النعم الإلهية على الحوزة العلمية في مشهد. فقد جاء إلى مشهد وكان بإمكانه البقاء إلى آخر عمره في كربلاء، فكان عالماً بين عدد من العلماء من أقرانه بل من الممكن أن بعضهم كان متقدماً عليه من بعض الجوانب - حتى وأن لم يكونوا متقدمين عليه من الناحية العلمية، ولكنهم كانوا متقدمين عليه من جهات أخرى - إلا أنه جاء إلى مشهد وأصبح منشأ للخير والبركة.
إذن فهذا الأمر يجري حتى على الشخصيات أمثال آية اللَّه الميلاني. فلا بد من التصدي لمسألة تجمع وتراكم العلماء في مكان واحد. فمن مصاديق الهجرة هو الهجرة إلى الأماكن التي تحتاج إلى عالم دين وإلى المدن والحوزات الكبيرة والصغيرة.

ومن الممكن أن تكون إحدى مصاديق الهجرة في الوقت الحاضر هي الهجرة لتبليغ الإسلام ونشره خارج البلاد أو في المؤسسات الحكومية وفي الدوائر والمصانع وفي الأماكن التي يطلب إليهم الذهاب إليها وتوجد رغبة في وجودهم فيها.

النقطة الرابعة "والجهاد" والجهاد هو أمر واسع وعمل عام وشامل ونافع لا ينضب، وهو يتحقق بصورة وأشكال مختلفة، وقد قلنا في أول كتاب الجهاد أن معيار الجهاد ليس السيف ولا ميدان الحرب فحسب، أن معيار الجهاد هو ما يقال في اللغة الفارسية ب- "مبارزة" مثلاً كان يقال: "هل فلان مجاهد أم لا"، فهناك صنفان من "الكاتب والعالم والجامعي وطالب العلم والمجتمع، مجاهد وغير مجاهد"، ويلزم في الجهاد أمران:

 الأول: الجد والجهد والتحرك، فالإنسان لا يستطيع أن يجاهد وهو في فراشه أو قابع في قعر داره لأن الجهاد يجب أن يكون فيه جد وجهد، وبالرغم من أن الجهاد في النفس له بعض المجالات ولكن نأتي هنا بالأمثلة التي تتعلق بالجهاد في المجالات الاجتماعية.
إذن الشرط الأول للجهاد هو بذل الجد والجهد والتحرك.

ثانياً: أن يكون الجهاد والكفاح ضد عدو، فلا معنى للكفاح والجهاد مع عدم وجود عدو، وعلى هذا فإن قوام الجهاد شيئان الأول: بذل الجد والجهد، والثاني: وجود العدو.
فمن يجد ويجهد ويتحرك ضد الدولة الإسلامية فهذا ليس جهاداً أو كفاحاً بل هو فتنة وإخلال، ومن بذل جهده وجهد ضد حكومة الحق والصلاة فعمله هذا فتنة وليس جهاد، بل هو محاربة لدولة الحق سواء كان بصورة كتابة أو قول أو كتاب أو منشورات أو إشاعات أو افتعال السلبيات، وكل هذه الأمور هي صور لبذل الجد والجهد ضد دولة الحق، وهي فتنة وتضليل وبعض أشكالها تعد محاربة.

وأن كان هذا الجد والجهد ضد عدو اللَّه ورسوله وأوليائه عليه السلام، فيعد جهاداً في سبيل اللَّه وهو الجهاد الذي دعا إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، إذن فالتقاعس والبطالة والكسل واللامبالاة هي أمور لم تراد من أمة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

والنقطة الأخيرة هي "والجماعة"، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "ومن دعا بدعاء الجاهلية فله جثوة من جثاء جهنم"، فما سمح اللَّه - لمعاداة ومواجهة هذا النظام، فإن شاهدنا أمثال هؤلاء يجب علينا أن نعير أهمية أكبر لتهذيب النفس.

فعندما نرى أن هناك علماً موجوداً في الحوزات العلمية إلا أن هذا التحرك والنشاط لا يساهم - كما ينبغي - في ملء الفراغات التي يعاني منها النظام الإسلامي، عند ذلك يجب أن نهتم بمسألة التهذيب الأخلاقي. لماذا؟ لأنه إذا سادت الأخلاق وتهذيب النفس في الحوزة العلمية وأوجدت الصفاء الروحي، عندها لا بد لكل كلمة تقرأ أن تكون في منفعة الناس.

أنني أودّ التأكيد على مسألة التهذيب لأن حوزاتنا مليئة بالشباب الطاهرين المخلصين، ويندر أن يعيش مثل هذا العدد الكبير من الشباب في مكان واحد كما هو الحال في الحوزة العلمية بقم، فهناك آلاف من الشباب الصالحين الذي اعرضوا عن زخارف الدنيا الدنية والذين يعتبر بعضهم حقاً مصداقاً لهذه الفقرة من دعاء الندبة "شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجه".

وأن لتجمع كل هذا العدد من الشباب فرصة ممتازة، وإحدى مسؤوليات الحوزة العلمية هي:
أولاً:
تثبيت وحفظ وتعميق الروح المعنوية والصفاء الروحي الموجود لدى طلبة العلوم الدينية الشباب.

ثانياً: العمل على تكميل وتربية تلك الروح وذلك النقاء المعنوي وصقلهما، وأنا أرجو أن ينصب الاهتمام في جميع الحوزات العلمية إلى هذه النقطة، وهذا لا يعني عدم وجود ذلك ولكن أرجو أن يكون التوجه

والاهتمام بها أكبر وأكثر. أن عالم اليوم هو عالم فساد وهذا الفساد آخذ بالاستشراء في جميع أرجاء العالم ولا يوجد أمامه سد أو حصار سوى التبليغ والتبيين الصحيح.
فمن هم الذين يجب أن يقوموا بهذا التبليغ الصحيح؟ أن هذا التبليغ يقوم به أناس هم أقوياء وصامدون، أي هؤلاء الشباب والعلماء الذين يدرسون المعارف الدينية ويتعلمونها ويبينوها للناس. فيجب أن يكون هؤلاء - من الناحية الأخلاقية - أقوياء جداً وصامدون ولا يمكن التأثير عليهم.

أما النقطة الأخرى التي تعتبر الأساس الثاني في الحوزات فهي مسألة التطور والتدبر ومواكبة الركب العلمي.

وما أود قوله لكم أيها السادة هو أن الخصوصية الأساسية لفقهائنا العظام من قبيل صاحب الجواهر رحمه الله - حيث أننا أقد اسمينا فقهنا - حسب تعبير الإمام رضي الله عنه - بالفقه الجواهري - هي أنهم كانوا

أصحاب تغيير في الفكر الفقهي الذي كان رائجاً في زمانهم، فالمرحوم صاحب الجواهر رحمه الله من الأشخاص الذين يولون عناية كبيرة للإجماع والشهرة، وبعض الفقهاء لم يولوا هذا القدر من الأهمية للشهرة والإجماعات المنقولة إلا أن صاحب الجواهر يعتمد عليهما كثيراً في مختلف المسائل، ولكن بالرغم من ذلك فإن هذا الرجل كان يمتلك أفكاراً جديدة، فهو لديه فتاوى - وفي المواضع التي لم يصل كلامه إلى حد الفتوى، فإنه يقترب بالكلام من الفتوى - يمكن القول أنه لم يسبقه أحد من الفقهاء في ذلك أو على الأقل غير معروفة، وإحدى تلك المسائل هي مسألة الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة، فالمعروف والمشهور بين المتأخرين بأنه غير مشروع ولكنه يبحث المسألة بشكل فتكون نتيجة بحثه هي المشروعية - وهو يقول أن لم يكن إجماع في البين - وهذا هو الإبداع، والمرحوم صاحب الجواهر رحمه الله هكذا في مختلف المسائل.

والفقيه الذي يمتلك مثل هذه الروح يمكنه أن يكون قدوة وبارزاً وعظيماً، المرحوم آية اللَّه البروجردي رضي الله عنه الذي وصل إلى قمة الفقاهة الشيعية في زمانه كان من هذا القبيل، والإمام الراحل رضي الله عنه أيضاً كان من هذا القبيل.

فيجب أن تكون روح التتبع العلمي موجودة في الحوزة العلمية. ومن الممكن أن لا يتم إعداد مواد بقدر الفتوى، فلا بأس بذلك فليواصلوا البحث العلمي.
وأنني أرى في بعض الأحيان أن بعض الأشخاص يطرحون أفكاراً جديدة في بحث من الأبحاث الفقهية فيهاجمون من هنا وهناك لطرحهم هذه الأفكار.

وأخيراً قام بعض الفقهاء الأفاضل من أصحاب الأفكار الجديدة بطرح بعض الأفكار التي لا ضير في طرحها. فيجب أن يكون تحمل الحوزة العلمية كبيراً للاستماع للأفكار الجديدة حتى لو لم تصل إلى حد ليفتي هذا الفقيه بذلك، لأنه من الممكن أن يضيف عليها فقيه آخر شيئاً ويفتي. ولهذا فإنني أوصيت فضلاء وعلماء من قم أن يقوموا بإعداد وإصدار مجلة فقهية تطرح فيها الأفكار والآراء الفقهية الجديدة، ولكن أولئك العلماء لم يقوموا بهذا العمل، إلا أن مجموعة من الشباب قاموا بانجاز عمل في هذا المجال، وهذا العمل وان كان ليس هو المشروع المثالي والأساسي إلا أنه قابل للثناء والتقدير لأنه يمثل خطوة في هذا السبيل، وبالرغم من هذا فإن انجاز ذلك المشروع الكبير ما زال ممكناً أيضاً، ولو كانت توجد مجلتان أو ثلاث مجلات فقهية في حوزة قم فإن ذلك ليس بكثير، وان تكون مجلة خاصة بالفلسفة والكلام، وبحمد اللَّه توجد مجلة كلامية في الحوزة العلمية بقم إلا أنها تنشر بكميات قليلة ومن الممكن أن يكون الكثير منكم قد سمع باسمها إلا أنه لم يرها، ولكنني - والحمد لله - قد رأيتها واشكر القائمين على إصدارها، هكذا يجب أن تكون العلوم حيث تطرح الأفكار الجديدة في الحوزة العلمية يوماً بعد يوم وأهم جميع العلوم والمقدم عليها جميعاً هو الفقه ثم العلوم الأخرى.

النقطة الثالثة: هي ضرورة أن تكون الحوزة العلمية في الخط الأمامي لحركة المجتمع العظيمة. وكما شاهدتم فإن مراجعنا العظام - سواء في حياة الإمام رضي الله عنه أو بعد رحيله وحتى اليوم - كالمرحوم آية اللَّه العظمى السيد الكلبايكاني رضي الله عنه والمرحوم آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي رضي الله عنه والمرحوم آية اللَّه العظمى الشيخ الآراكي رضي الله عنه كانوا دوماً في الخط الأمامي. فقد كانوا يتقدمون على الآخرين في كل أمر مهم من أمور المجتمع، ففي يوم الانتخابات "مثل" كان المرحوم السيد الكلبايكاني والسيد المرعشي رضي الله عنه من أول المبادرين إلى الإدلاء بآرائهم في الصباح، وهذا الموقف هو موقف رمزي لأنه بالإمكان الإدلاء بالرأي عصراً إلا أنهم كانوا يدلون بآرائهم صباحاً، وكما كنتم تشاهدون كان بفعل ذلك أيضاً.

هكذا كان مراجع قم، كانوا في الخط الأمامي دوماً، في الأمور الأساسية، في الحرب، والتواجد في جبهات القتال، وترغيب الناس للتواجد في جبهات القتال، وفي القضايا الاقتصادية ونحو ذلك من الأمور كانوا دوماً من المبادرين والمتقدمين فيها، وهكذا يجب أن تكون الحوزة العلمية.

وإن ذلك الإنسان الذي يعيش في الحوزة وتكون نظرته إلى النظام الإسلامي وإلى أحكام القرآن التي تطبق في هذا النظام وكذا إلى الحكومة الإسلامية التي قامت ببركة جهاد هذا الشعب نظرة غير جدية فإن ذلك الإنسان - أياً كان - هو عنصر أجنبي على الحوزة.

الحوزة العلمية الشيعية ليست هكذا، فيجب على الجميع - في الحوزة - أن يعتبروا أنفسهم في الصفوف الأمامية ولا سيما طلبة العلوم الدينية الشباب الذين كانوا - ولله الحمد - هكذا دوماً. فعلى الفضلاء والطلبة الشباب وكبار الحوزة والأساتذة المحترمين الذي كان لهم موقع في الصفوف الإمامية في جميع الأمور والجوانب أن يبقوا دوماً في تلك، الصفوف والمواقع، وان شاء اللَّه وببركة الإرشادات الدينية لعلماء الدين الكبار وحاملي رايات علوم الدين سوف يتمكن هذا النظام من أن يتكامل يوماً بعد يوم. والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع