نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قصة: السمّوقة



إن هذه القصة التي بين يديك - قارئي الكريم - ليست قصة خيالية نسخها كاتب وحلَّق في أجوائها أديب، وإنما هي واحدة من القصص التي صنعتها المقاومة الإسلامية المظفرة في لبنان، وأن فضيلة الشيخ كاظم ياسين قد أحسن صياغتها في كتاب له "قصص الأحرار" فإليكموها..

وقف أبو حسين الأمر قرب المسجد ينتظر وصول "الفان" الذي سوف يكون له دور في خطة جريئة صمّمت المقاومة الإسلامية على تنفيذها، ولم يطل انتظاره فها هو يطلُّ بضجيج محركه وهيكله الذي أكل الدهر عليه وشرب، ولم يكن بمقدورهم وهم لا يكادون يحصلون على ما يقيتون به أنفسهم آنذاك إلا استئجار "الفان" أو أن يكون أحدهم مالكاً له.
توقف قرب أبي حسين وتبادل سائقه معه كلمات قصار سرعان ما استأنف بعدها سيره بينما كان أبو حسين يحث السير إلى جهة أخرى.

كانت بلدة جبشيت خلال الاجتياح اليهودي الهمجي لجبل عامل قلعة من قلاع المقاومة والمواجهة بشيخها الشهيد وبأهلها الذين لم يترددوا يوماً في احتضان رجال المقاومة والدفاع عنهم.. ولذلك كثيراً ما كانت هدفاً يومياً لحملات الدهم والتفتيش والحصار ومنع التجوال التي نادراً ما لا يتخلّلها اعتقال لشباب البلدة أو نسفٌ لأحد بيوتها أو مطاردة لمجاهدين مرّوا فيها.

وجبشيت قرية وسط المنطقة تمر فيها من القرى المحيطة بها وإليها عدة طرق معبّدة وغير معبّدة أحياؤها الجديدة منتشرة والقديمة متلاصقة وبعضها دخل التاريخ: تاريخ المقاومة المجيدة التي هزمت الغول اليهودي ولقنته - على ضعفها - درساً لن ينساه.

من هذه الأحياء حي السمّوقة، فقير بشكله وشكل بيوته وطرقه الترابية التي هي أيضاً مدخل من مداخل جبشيت المتعددة، والتي منها كان يأتي العدو من آنٍ لآخر بعجيجه وضجيجه، يثير الغبار كما يثير السخط، فياسر أو يعتقل ويفتش البيوت أو ينسفها حتى غدا حيّ السمّوقة ممراً له، مما حدا برجال المقاومة الإسلامية إلى تركيز النظر على هذا الحي الممر والعمل على إنجاز عمل ضخم فيه: أسر أفراد للعدو من أجل استعما لهم في إطلاق الأسرى والمعتقلين في سجون اليهود.
- كيف ننقل الأسرى من جبشيت إلى خارجها؟ فإن العدو سوف يفتش البلدة بيتاً بيتاً.
- بسيطة، سوف نستأجر "فاناً" ينقلهم وإذا ما اقتضى الأمر نشتريه..

راقت الفكرة لأبي حسين وسرعان ما طبقها الرجال، وها هو "الفان". قد توجّه إلى قرب حيّ السمّوقة إذ ربما يكون موعد العمل ضد العدو هذه الليلة، وانطلق الحاج الشهيد مروان كسرواني (ربيع) ليبلغ الرجال: لقد وصل "الفان"!!.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبسرعة وبدون أن يعقب دبر صلاته كما يفعل عادة وبدون أن يشارك المصلين في الصلاة الجماعية على محمد وآل محمد وبصوت عالٍ بادر أبو حسين الأسمر إلى السجود شكراً لله ونهض وغادر المسجد، فقد هبط الظلام وأصبح الوقت مما لا يقدر بقيمة، إذ يمكن أن يأتي اليهود في هذه اللحظات.. وحتى وإن كان لم يطمئن بعد إلى أن جميع الرجال قد أتمّوا صلاة العشاء مثله ولكن حرارةً عالية كانت تدفعه إلى الإسراع والحضور إلى حيّ السمّوقة.

تتابع حضورهم، بصمتٍ وهدوء، فالحي سكني ويمكن أن يلاحظ حركتهم مراقب، ولذلك سرعان ما كان كل واصل منهم يحتل موضعه ا لمرسوم له في خريطة الكمين ذي الأضلاع الثلاثة، إذ كان الهدف قتل البعض وأسر البعض الآخر، ولذلك لا بد للكمين أن يكون محكماً ومقفلاً..

وكجزءٍ من الخطة ربض أحد الرجال بعيداً عن الكمين خمسين متراً يراقب الطريق ويعطي إشارة التنبيه لرفاقه حين وصول الدورية اليهودية.. مما أضفى على قلوب الرجال نحواً من الطمأنينة الجزئية لجهة عدم خوفهم من حصول مفاجأة لهم بسبب وجود مراقب يراقب نقطة مجيء اليهود.. هذه الطمأنينة أثمرت كلاماً بينهم وهمساً وتثاؤباً بل وحتى تكاسلاً وانشغالاً بأمور أخرى ما كانوا يفعلونها عادة.. وطال الوقت.. وتسرب القلق إلى قلوب الرجال فأخذ (أبو حسين الأسمر) ينادي الراصد كي يستفسر منه عن وضعه إلا أن وجوباً لم يصدر منه. وتكرّر النداء والجهاز صامت لا يجيب.

 وهنا اعترى أبا حسين شك غامض فتوجه إلى حيث كان الراصد المراقب ليرى إن كان حصل له حادث، وبما أنه لم يكن يستطيع التوجه إليه عبر طريق مرور الدورية خوفاً من أن تفاجئه منفرداً، إلتف إليه عبر طريق جانبية خلفية.. وهناك كانت المفاجأة: إنه غير موجود!! مستحيل! أين هو؟ نحن لا نمزح، فهذه لحظات حاسمة قد يؤدي خطأ صغير فيها إلى كارثة.. ولم يستطع مناداته ولا رفع صوته، فالظلام مطبق وقد يكون اليهود قادمين أو كامنين. أو قد يكونوا أسروه.. فبحث قليلاً حوله وتأمل في الظلام فلم يرَ له أثراً..

وهنا، هبط من مكان الراصد إلى الطريق قاصداً التوجه إلى حيث الرجال عبر الطريق الذي سوف تمر منه الدورية، وما أن مشى أمتاراً حتى فوجئ المفاجأة الثانية.. فإن دورية عسكرية إسرائيلية راجلة مكوّنة ممّا لا يقل عن عشرين رجلاً تتقدم أمامه ببطء وقد أصبح هو خلفها وهي بينه وبين الكمين..

هل يطلق النار عليهم من الخلف؟ سوف تفشل العملية إذ سوف يستنفرون وتضيع فائدة الكمين. هل يختبئ ويتركهم يصلون إلى الكمين؟ إن الشباب غير حذرين بسبب اعتمادهم على الراصد وعليه شخصياً حيث ذهب ليطلع على الراصد، ويمكن أن يفاجأوا بوصول العدو وتقع الكارثة. وقرّر أمراً غريباً.. إذاً ليحاول أسرهم!!.

- ارفعوا أيديكم! قالها بصوت عالٍ جهوري جداً إما لإخافتهم وإما لإسماع رجال الكمين فإذا رفضوا الاستسلام وقتلوه فهذا كافٍ لتنبيه الكمين.

أصيب اليهود بالذهول، فبندقيته مصوبة إلى وجوههم، ولكن أمراً بالعبرية من قائدهم جعلهم ينتشرون إلى الجانبين وينبطحون أرضاً ويرميه بعضهم برشقات لم تنفع في إصابته فقد بادر هو أيضاً إلى الانبطاح أرضاً في الوقت الذي كان فيه الشهيد ربيع قد تحّكم في موضع مشرفٍ على اليهود فرمى حامل جهاز اللاسلكي برشقة من بندقيته أودت بحياته فوراً وبدون أن يعلم رجال الكمين أن اتصال الدورية اليهودية بقيادتها قد انقطع بسبب مقتل جندي الإشارة فقد بادروا فوراً وفي تلك اللحظات إلى صبّ الرماية الغزيرة على أفراد الدورية التي كانت تطلق النار على أشباح وسط الظلام، بينما كان أفرادها يتساقطون تباعاً..

واستمر الاشتباك طويلاً، وتتالى سقوط الذئاب اليهودية.. وجندي الإشارة ممدد بلا حرا ولا يوجد من الدورية مَنْ يجرؤ على الانتقال من مكانه إلى جهاز اللاسلكي لإبلاغ قيادته.. فقد كان كل واحد منهم يحاول البقاء حيّاً ويطلق النار على كل مكان يحتمل فيه وجود أحد.

ولكن تمكُّن رجال المقاومة من الكمين ومعرفتهم التامة بحي السمّوقة واحتلالهم للمواقع المشرفة على الطريق ساهم كثيراً في إسكات آخر بندقية لليهود...
وساد السمّوقة صمت المقابر.. وهنا تقدّم أبو حسين الأسمر إلى وسط المعركة وأخذ يدوس جثثهم بقدميه ويقلّبها، ثم يرفع كلَّ جندي إلى صدره ويحاول التأكد من وجود ولو جريحٍ حيٍّ واحدٍ بينهم يمكن الاستفادة منه ومبادلته بمعتقلي سجن أنصار..

ولكن - للأسف - لم يبقَ واحد منهم حيّاً.. وتلطخت ثيابه بدمائهم بلا فائدة.

لم يبقَ أحد حيّاً؟ كلا!
بل بقي واحد، ولعل بقاءه كان لطفاً من ألطاف الله تعالى الخفية.. فقد تمارت حينما أخذ صاحبنا بتفقدهم واحداً واحداً.. ولكنه عندما وصل اليهود أخبرهم بسرعة أن المقاومين فرّوا باتجاه بلدة عبّا المجاورة...
كيف؟ من أين علم بذلك؟

إنه لم يعلم أبداً إلى أين انسحبوا، فهم لم ينسحبوا قطعاً إلى بلدة عبّا!
ولكن ساهرين من بلدة عبّا كانوا يتسامرون في يتقرب السمّوقة سارعوا فور انتهاء المعركة وصمت البنادق إلى افرار بسياراتهم إلى بلدتهم قبل أن تصل إمدادات اليهود.. فسمع الجندي الجريح هدير محركات السيارات بعد توقف إطلاق النار ورآها تتجه باتجاه بلدة عبّا.. فأخبر قائده فور وصوله أن المقاومين فرّوا إليها..

وفعلاً توجهت حملة التفتيش بكل زخمها وإرهابها ووحشيتها إلى بلدة عبّا بينما كان الرجال في الحقيقة قد توجهوا إلى الجهة المعاكسة تماماً..
فور انتهاء المعركة، انسحب الرجال بهدوء، ودار محرك "الفان" وانطلق خارجاً من جبشيت خالياً.. ومن الجهة الأخرى للبلدة وعلى صوت الرصاص الغزير خرج أحد وجهاء البلدة ليستطلع الأمر فوجد شاحنة في وسط الطريق وقد ركّبت عليها "دوشكا" ووجهت إلى مدخل البلدة من جهة حاروف للتصدي لأي تدخل يهودي سوف يحصل من تلك الجهة.
فوجىء بهذا المشهد العجيب:

"دوشكا" على سيارة؟ ومتى؟ وسط الاحتلال والقبضة الحديدية؟
وفيما كان الرامي يفك الدوشكا بعد انتهاء المعركة ومرور "ا لفان" بقربه كان صاحبنا ينظر إليه وقد امتلأ فخراً واعتزازاً برجال المقاومة الذين يتحدّون الاحتلال وهم بين أنيابه ومخالبه..

لقد فشلت خطة الأسر..

ولكن دورية كاملة للعدو أبيدت.. وساد القلق والترقب أجواء بلدة جبشيت التي كانت تصغي لأصوات المعركة بكل جوارحها.. ولم يطل انتظارها فقد وصلت الطوّافات والآليات وسيارات الإسعاف.. وأنير حيّ السمّوقة، وأضيئت جنباته وامتلأت شوارع جبشيت بجنود الاحتلال، ووقف "أوري أور" مذهولاً أمام مقبرة حيّ السمّوقة: تسعة عشر قتيلاً وجريح واحد؟!!.
ماذا يفعل؟ كيف يغضب؟ كيف ينتقم؟ ونسف اليهود عدداً من المنازل حول حيّ السمّوقة وفتشوا بلدة عبّا.. ولكن الرجال في وقتها كانوا بعيدين جداً.. يتندّرون ويتساءلون:
- ولكن أين حضرة الراصد الذي أرسلناه ليرصد لنا الطريق؟

قال: قد انتبهت إلى أن شحنة جهاز الإرسال قد فرغت ولم يَعُدْ يرسل فذهبت لكي أحاول تبديله بجهاز آخر ولكني سمعت بعد قليل رماية النيران فلم أستطع العودة.
- الله يسامحك.. كان ممكن أن تخرب بيتنا.
وضحكوا...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع