صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

مع السيد القائد: الشيخ المفيد

دوره في تثبيت مذهب أهل البيت عليهم السلام على أساس الجمع بين العقل والنقل.

هنا نص الدراسة التي قدّمها ولي أمر المسلمين آية الله الخامنئي دام ظله إلى مؤتمر الشيخ المفيد، وباعتبار أهميتها العالية ارتأت بقية الله أن تنشرها على حلقات تعميماً للفائدة.
فالمفيد هو عملاق من عمالقة العلم والمناظرة، ودائرة معارف متنوعة لكل المذاهب وقد كانت له مع الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف مراسلات هامة.


* المفيد النهر الهادر
ألف سنة من الآن، وفي يوم من أيام بغداد المائجة، اكتظت الجموع في ساحة "أشنان" لمصاب جَلل، حتى ضاقت بأفواج المجتمعين.
كانت آلاف العيون تبكي رجلاً عُدّ موته حادثة كبيرة، فيما مضت عشرات الآلاف تؤدي الصلاة على جثمان رجل عظيم ظلَّ على مدار خمسين عاماً كالمشعل الوضاء أنار بوهج علمه ومعرفته أفناء كبيرة من العالم الإسلامي، وشقَّ إلى جوار ضفاف دجلة بغداد، "دجلة" أخرى من العلم والمعرفة.
إنَّ الحوادث المريرة الدامية وموج التعصّب الطائفي الذي ضرب دار الخلافة العباسية، وما ران على القلوب كُلها عوامل لم تقوَ على إطفاء شعلة العلم والعمل الموصولة بالشجرة الزيتونة المباركة الماثلة بعلوم القرآن ومعارف أهل البيت عليهم السلام والمتلألئة بنور العقل البشري.
أما أشواك وعقبات ذوي الفهم المنحرف وسيئي التفكير فلم يكن بوسعها هي الأخرى أن تكون سداً أمام ذاك النهر الهادر الذي استطاع أن يحيط برعايته الفائقة الفقه والكلام، والعقل والنقل، كي تَيْنَع في تربةٍ خصبة.

صحيح أنَّ بعض القلوب المملوءة حقداً والخالية من الحكمة والكياسة، عدَّت ذلك اليوم الذي اجتمعت فيه الخلائق لتشييع الجثمان الطاهر والصلاة عليه بإمامة السيّد الشريف علي المرتضى، حلقة النهاية في دور هذا الرجل الكريم، حتى كان من سذاجة البعض وسطحيتهم أن احتفلوا بتلك المناسبة! بيد أنَّ موت سيِّد العلماء لا يمكن أن يكون النهاية لرجل انتهلت خمسة عقود من نبع فيضه في الفكر والثقافة، وفي الأخلاق والحكمة، قبل أن يصب عطاءه في نبع فيضه البشري. ذلك أنَّ الإرادة الإلهية وسنن التاريخ أبتا إلاَّ أن تضمن توالد ونمو مساره المعرّفي الخالد عبر الأجيال والعصور والقرون، كيما يصب في البحر غير المتناهي الذي يمثل في مطافه الأخير الرشد النهائي للبشرية.

لقد وُري في ذلك اليوم جسد المفيد النحيف في داره الواقعة في محلة "دَرب الرباح" ببغداد لِيُنقَل بعد ذلك جوار قبر الإمام أبي جعفر الجواد عليه السلام لتنهال عليه في دار السلام تلك الرحمة الإلهية.
بيَد أنَّ شخصيته اللامعة المحكمة لم تغب عن الذاكرة أبداً، بل بقيت على الدوام شاخصة في عين الزمان تُمارس دَورها في مسيرة تكامل وإنضاج الفقه والكلام ومذهب أهل البيت عليهم السلام وبمبادرتكم اليوم أيها الأحبة للاحتفاء بالذكرى الألفية للشيخ المفيد، إنما تبعثون مجدداً وبعد ألف عام من ذلك اليوم، ذكرى ذلك الحدث العظيم لرجل بلغ الذروة في العلم والتقى، بحيث لم تقوَ عشرة قرون من تأريخ تنامي العلم والثقافة أن تقلِّلَ من تألقه وسمو رفعته، أو أن تنال من حضوره.

إنَّ الجيل العلمي فيما يقوم به الآن من إحياء ذكرى الشيخ المفيد وإعادة نشر آثاره، إنما يؤدي في الحقيقة ما عليه من مسؤولية إزاء رجل كان له ولأفكاره الحضور الدائم في المسار المعرفي الغني المثمر لفقه وكلام مدرسة أهل البيت عليهم السلام بالإضافة لدوره المؤثر في إرساء دعائم البناء الرفيع للفقاهة والكلام الشيعيين خلال ألف عام، بما وضع من قواعد كانت بمثابة حجر الزاوية في حركة هذا البناء المنيف.

* حضور المفيد
بيد أني أؤكد أنَّ استمرار حضور المفيد في ساحة الأفكار والآراء العلمية والكلامية الحيَّة، لا يكون من خلال إعادة نشر كتبه وتكرار آرائه- رغم ما يعبّر هذا العمل من شكر لما لهذا الرجل العظيم من منة على جميع المتكلمين والفقهاء من بعده- وإنما يتم الحضور الفاعل بالاستمرار على ذات النهج والخط الذي أسس له وفتح آفاقه في حقلي الفقه والكلام.
ولا ريب أن المبادرة إلى تشكيل هذا المؤتمر عمل يستحق التجليل والثناء لما له من معطيات تتمثل بما يلي:

أولاً: توفير الفرصة المناسبة لجيلنا المعاصر للتعرف أكثر على هذه الشخصية الكبيرة وإيفائها التقدير الذي تستحق، كما يكون ذلك أرضية لاستفادة الأجيال الراهنة والآتية، أيضاً من آثاره وعطائه.

ثانياً: توفير فرصة معطاءة لمحلّلي ودارسي تأريخ الفقه والعلوم العقلية تُساهم في تجديد معرفتهم بكيفية تشكل ورقي هذه العلوم في تلك اللحظة الحساسة من التاريخ، بكل ما كانت تنطوي عليه من عناصر بناءة، وبالتالي انعكاس هذه الرؤية المعرفية الجديدة على المسار الذي قطعته هذه العلوم في خط التكامل والنمو.
هذه النقطة تكتسب أهمية أكبر حين نأخذ بنظر الاعتبار ما كان للقرنين الرابع والخامس من موقع فذّ في حركة نمو واعتلاء الثقافة والعلوم والآداب في العالم الإسلامي.

ثالثاً: إنَّ هذه المناسبة تُيسّر للباحثين الإسلاميين من الفرق والمذاهب المختلفة، وكذا للقاعدة الإسلامية العريضة، فرصة الاطلاع على العلوم الكلامية والمعارف الأساسية للشيعة.
أهمية هذه النقطة تتضح أكثر بلحاظ ما نلمسهُ اليوم من بعض الأقلام المسمومة والمأجورة والحاقدة، وهي تنشر الأكاذيب وتشيع الافتراءات حول معتقدات الشيعة- وهي واحدة من أكبر المذاهب الإسلامية التي تحتل اليوم موقع الطليعة في حركة اليقظة الإسلامية- وبالحجم الذي لا يمكن مقايسته بما وقع عليه طوال التأريخ.

ومما يؤسف له حقاً أنَّ الدوافع السياسية والاستعمارية في حركة التزييف الراهنة تتجلى بصورة أوضح من أية برهة تاريخية أخرى، بل هي تفوق الأكاذيب التي كان يُروج لها خلفاء بني أمية وبني العباس ضدَّ الشيعة، في إطار مواجهتهم الكلية الشاملة لاتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام فيما كان يحسبونه مقدمة ضرورية لتدميرهم والقضاء عليهم.
من هنا ما نعتقده من أنَّ أيَّ بحث في تبيان عقائد الشيعة ومعارفهم يساهم أيضاً في استقرار الوحدة والأخوة بين المسلمين لأنَّ أعداء الإسلام يعمدون إلى إيقاع الفرقة بينهم من خلال تشويه بيان المعارف العقيدية والفقهية لكل مذهب أمام المذاهب الأخرى.
أما الآن، فإلى جوار ما أبديه من شكر للفضلاء الكرام الذين ساهموا في تهيئة مقدمات عقد هذا الاجتماع الكريم، وكذا لكم- الحضور- أيها السادة العلماء وأصحاب النظر فيما ستضفيه مُساهماتكم العلمية من غنى، اسمحوا لي أن أكون شريكاً في عملكم الجمعي الكبير في تصوير شخصية هذا الرجل المتألقة على مرّ القرون، من خلال طرح نقطة مهمة حول الشخصية العلمية لهذا الشيخ العظيم.

إنَّ النقطة التي أعنيها وأؤكد عليها ترتبط ب-"موقع المفيد في مسار التفكير العلمي للتشيّع في حقلي الكلام والفقه" وهي النقطة التي بَدَت لي واقتنعت بها من خلال ما أفادت به القرائن الراجحة من كلمات الشيخ ورؤاه العلمية وآثاره المكتوبة، وكذا ما استفدته من أقوال الآخرين فيه، سواء أكانوا من تلامذته أو ممَّن ترجَمَ له.
والذي أعنيه بهذه النقطة على وجه الاختصار، هو: أنَّ الشيخ المفيد لم يكن في سلسلة علماء الإمامية مُتكلماً بارزاً وفقيهاً محكماً وحسب، بل كان أرفع شأناً من ذلك، فهو المؤسّس والحلقة الأولى لمسار علمي تكاملي في حقلي الكلام والفقه امتدت آثاره إلى اليوم، وتجلت في وجود الحوزات العلمية الشيعية المعاصرة: التي ظَلَّت تحافظ على خصائصها الأصلية وتتماسك في إطار خطوطها الأساسية رغم أنها لم تبق بعيدة عن المؤثرات التأريخية والجغرافية والمذهبية.

إنَّ عملية بيان وإثبات هذه المسألة تكتسب أهميتها من واقع يتَمثّل في أنَّ المسار العلمي المذكور شهِدَ في الفترة بين حياة الشيخ المفيد وإلى ما بعد نصف قرن من وفاته تحوّلاً كبيراً أفضى إلى نضج وتكامل سريع، انتهى بدوره إلى إغفال الدور التأسيسي الذي لعبه الشيخ المفيد.

*بين يدي البحث
والذي نريد التأكيد عليه في هذه النقطة بالذات أنَّ الجهود العلمية الممتازة التي بذلها التلميذ المبرَّرز للشيخ المفيد- وأعني به السيد المرتضى علم الهدى (ت: 436هـ)- والتي وصلت أوجها وبلغت ذروتها في عهد شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (ت: 460هـ) وإنما كانت تنهل من نَبع المؤسِّس محمد بن محمد بن النعمان المفيد، وتواصل النهج الذي أرساه ولبسط القول في هذه المسألة: نحتاج أن ندرس الدور المؤثر والحاسم للشيخ المفيد على صعيد القضايا الثلاث التالية:
1- تثبيت الهوية المستقلة لمذهب أهل البيت عليهم السلام.
2- التأسيس لإطار علمي صحيح في تناول الفقه الشيعي.
3- إيجاد الأساس المنطقي للجمع بين العقل والنقل في الفقه والكلام.

وبهذا ينتهي البناء الرفيع الذي أرساه الفقهاء والمتكلمون الشيعة طوال القرون العشرة الماضية، بما تمخّضت به آثاره العلمية من كنوز وخزائن لا نظير لها، إلى القاعدة التي شيّدها الشيخ المفيد بجهاده العلمي، على أساس تنفيذ المهام الثلاث الآنفة.

* مدارس العلوم الدينية
وعلينا أن نشير قبل أن ندخل في شرح الأبعاد الثلاثة المذكورة إلى أنَّ كلاً من الشيخ المفيد وحوزة بغداد العلمية الشيعية في زمانه كانا من الظواهر التي لم يكن لها مثيل من قبل في تأريخ التشيّع.
لا ريب في أننا شهدنا قبل هذا التاريخ وجود حوزات شيعية غنية ومثمرة امتدت من الشامات حتى ما وراء النهر. فحوزة مدينة "قم" كانت مركزاً كبيراً لمدرسة الحديث وبديلاً ل-"كوفة" القرنين الثاني والثالث. وحوزة مدينة "الري" التي كان الكليني وابن قبة وعدد آخر من الإعلام من بين من نهض منها، لم تكونا سوى جزءٍ من الوجود العلمي للشيعة.

أما في الشرق حيث كانت حوزة ما وراء النهر التي كان العياشي السمرقندي وأبو عمرو الكشي اثنين من أبرز المتخرجين منها، وفي الغرب حيث حوزة حلب التي أنجبت الحسن بن أحمد السبيعي الحلبي وعلي بن خالد الحلبي اللذين غداً من مشايخ المفيد، فكانتا بدورهما على الأرجح، وبما تؤكد ذلك القرائن اثنين من المراكز المهمة للعلوم والمعارف الشيعية.

إن الناظر في فهرست مشايخ الكشي يستبين بجلاء أنَّ منطقة خراسان وما وراء النهر كان لها رغم بعدها عن مركز الحوزات العلمية الأصلية للشيعة، حظّها الوافر في إنجاب وتربية عددٍ ملحوظ من العلماء والمحدّثين، وذلك بما يُقوي الظن بوجود أكثر من حوزة واحدة في تلك الأصقاع كانت مشغولة بإعداد أمثال هذه الشخصيات وتأهيلهم.
إننا نجد ما لا يقل عن عشرةٍ من المشايخ المشار إليهم ينتسبون إلى سمرقند أو كيش (من المدن القريبة إلى سمرقند) وثمة ما يقارب هذا العدد ينتسب إلى مدن بخارى بلخ، هرات، سرخس، نيشابور، بيهق، فارياب، وبعض المدن الأخرى الواقعة في هذا المدار.

إن مشاهدة كل هذه الأسماء التي تنتسب إلى مدن ما وراء النهر وَخَراسان، وتنتمي جميعها أو أغلبها بحسب الظاهر إلى التشيّع- مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّه من غير المألوف عادة أن يترك من كان سكنه في قم أو الكوفة أو بغداد، مدينته ويسعى وراء مشايخ خَراسان وتركستان- يقوّي الظن بأنَّ دار العياشي التي قال في وصفها النجاشي: "كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم" أو: "وَكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أو قارىء أو معلّق مملوءة من الناس" إنما كانت في سمرقند وليس في بغداد وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الحالة تحكي رواج علوم أهل البيت ومعارفهم، وفاعلية الحوزات العلمية الشيعية في تلك المدن.
أما حين نصل إلى الشام وحلب فإنَّ كثرة نفوس الشيعة ووجود الحكم الحمداني الذي كان يولي اهتماماً بأداء الشعائر الشيعية، هُما عاملان يرجحان دون شك وجود حوزة علمية ملحوظة في تلك الأرجاء.
بيدَ أنَّ الذي يدعونا أن لا نُبالغ في حجم هذه الحوزة ولا أنّ نقيسها بالحوزات الكبيرة، هو قرب هذه المنطقة من العراق، وبالتالي ذهاب محدّثيها وفقهائها إلى بغداد، وبعد ذلك، وفي زمن الشيخ الطوسي إلى النجف.
كانت هذه إلماحات إلى الوضع العام للحوزات (العلمية) الشيعية في الفترة التي انتهت إلى عصر الشيخ المفيد.

ومن دون شك كان لبغداد في تلك العهود حوزتها ومكانتها في التعاطي مع العلوم والمعارف الإسلامية، بيدَ أنَّ الأمر اكتسب منحىً آخر مع ظهور شخصية الشيخ المفيد وذيوع صيته العلمي، إذ تحولت بغداد التي كانت يومذاك مركزاً سياسياً وجغرافياً للعالم الإسلامي، بالتدريج إلى أن تكون مركزاً أصيلاً لعلوم الشيعة ومعارفها، وبالتالي أضحت ليست مرجعاً ومناراً لحل المسائل الفكرية والدينية للشيعة وحسب، وإنما كعبة الآمال التي تهفو إليها قلوب طلاب العلم أيضاً.

ثمة بين أيدينا من العلائم ما يؤكد مدى الشهرة والنضج الذي بلغته حوزة بغداد على يد الشيخ المفيد، بحيث احتلت مكانةً لم تبلغها أيّ من الحوزات العلمية الشيعية من قبل. فنحن وإن كنا لا نملك فهرساً مُفصلاً بكافة تلاميذ الشيخ المفيد ومن تلقّى العلم على يديه، وهُم في العادة كثير، بحيث أنَّ كلّ من ذكرتهم كتب التراجم بعنوان تلامذة الشيخ لا يعدو أن يكونوا سوى جزءٍ ضئيل جداً لما ينبغي أن يكون قد ربَّاهم رجل كالمفيد تسلَّم الرئاسة العلمية للشيعة طوال فترة ناهزت النصف قرن، إلاَّ أنَّنا نستدل فيما ذهبنا إليه بعزيمة نابغة كبير كالشيخ الطوسي من طوس إلى بغداد، بحيث لم تقوَ على جذبه إليه أيّ من الحوزات الكائنة بقرب مكان ولادته- يعني خراسان وما وراء النهر- ولم يتوقف لا في "الري" ولا في "قم".
ونضيف إلى ذلك أيضاً، عدم تمخّض تلك الحوزات عن وجوهٍ علمية لامعة ومشهورة لمدة ليست بالقصيرة.

إنَّ ما نعنيه بتمركز حوزة بغداد واشتهارها، يمثّلُ بحيازتها لجميع العلوم الرائجة في مجموع الحوزات الشيعية، بحيث سلبت من الحوزات الأخرى في كل أرجاء العالم الإسلامي، زَونَقها واستمرت في موقعها هذا إلى أن ولدت الحوزة المباركة البكر في النجف (سنة: 448 أو 449هـ) التي أضحت فيما بعد دُرَّة التاج في تاريخ المراكز العلمية الشيعية.

وبلا ريب كان الشيخ المفيد هو محور بروز هذه الحوزة وسرّ تألقها. فبنبوغه الفذ واستعداده الخارق وجهده الدؤوب. وباستثماره لما تتحلى به بغداد من موقع استثنائي بوصفها المركز السياسي والجغرافي لعالم الإسلام، ومحط حركة العلماء من مختلف المذاهب، ثبت الشيخ مركزية هذه الحوزة حتى تميَّزت الحوزة الشيعية ببغداد في زمانه، وأضحت بمثابة القطب ومحور الجذب.
فالمتأمل في الآثار العلمية لهذا الشيخ الجليل ومع الأخذ بنظر الاعتبار سائر القرائن الأخرى يجد بوضوح أنَّ الشيخ أضحى المركز الذي تجتمع فيه وبشكل مثير للعجب أغلب الخصائص التي كانت تتحلى بها الوجوه الشيعية اللامعة حتى ذلك الوقت.
ففي شخصيته تجلى فقه الأقدمين وابن بابويه وجعفر بن قولويه، وفي الكلام تمثَّل ابن قبة وبني نوبخت، وفي علم الرجال الكشي والبرقي، وفي الحديث الصدوق والصفار والكليني، بالإضافة إلى قدرته التي لا نظير لها في الجدل والمناظرة الفكرية، وما يتجلى به من خصائص بارزة أخرى اجتمعت في شخصيته دفعة واحدة.

إنَّ كل واحد من هؤلاء (الأعلام) كان ولا ريب مشعلاً وضاءاً يفتح الطريق إلى واحدة من معارف أهل البيت بيدَ أنَّ المفيد كان مجتمعاً التقت فيه جميع المعارف.
وهذه الحالة لم تكن لتنطبق قبل المفيد على أي من الشخصيات العلمية الشيعية. وللتدليل على هذه المكانة الفريدة يكفي أن نشير إلى ما ذكره ابن النديم (ت:380) من انتهاء رئاسة الشيعة إليه في الفقه والكلام والحديث، وهو لم يتجاوز بعد سن الرابعة والأربعين.
أما الذهبي فإنَّه وإن ذكر المفيد في تاريخ الإسلام، بكلام يفيض بالحقد والشغينة ويتجافى عن الإنصاف، بيدَ أنَّه نقل في نفس الوقت كلاماً لابن أبي طي يذكر فيه المفيد بأنه كان متفرداً مميزاً في كافة العلوم؛ في الأصول، والفقه، والأخبار ومعرفة الرجال، والقرآن والتفسير، والنحو والشعر...؛ فقد كان مُتفوقاً في كل هذه العلوم، ويناظر أهل كل عقيدة.

على أية حال، كان الشيخ المفيد الرجل الذي تكاملت في شخصيته علوم السابقين واجتمعت فيه معارفهم.
وبفضل ما تنطوي عليه شخصيته من شمول وتعدد؛ شقَّت الحوزة العلمية الشيعية طريقها لقرون من بعده، واختطَّت ذات المسار الذي أرسى هو قواعده على أساس أن تُدرس علوم الفقه والكلام والأصول والأدب والحديث والرجال إلى جوار بعضها البعض لتتكامل فيما بينها وتنمو بالبحث والتدريس.
وهذه الحوزة هي نفسها التي أثمرت في واحدة من ذُراها علَماً كالسيد المرتضى، وحين وصلت إلى أوج كمالها تمخّضت عن ولادة شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي.

تأسيساً على ما ذكرناه عن ظاهرة الشيخ المفيد والحوزة المعاصرة له في بغداد، يتوجب علينا حقاً أن نعدّ المفيد واضع أسس الحوزات العلمية الشيعية في المعالم التي تمخَّضت عنها خلال القرون التالية؛ أي بالشكل الذي أضحت فيه مركزاً للجمع بين المعارف الإسلامية العقلية والنقلية، ومحلاً لتدريس هذه العلوم بحيث يكون المتخرج منها متبحراً بكل هذه المعارف أو معظمها.
لقد استمرت هذه الحالة إلى عهد الشهيد الأول على الأقل، أي قبل أن تنكفئ الحوزات العلمية، بحيث يكون الاتجاه الغالب فيها التخصص بتدريس الفقه ومقدماته وحسب. فإلى ما قبل هذا المنعطف رأينا استمرار نفس المعالم في جميع أو أغلب المتخرجين منها، مما يُدلّل على انتهاجها لنفس المسار المتصل بشخصية المفيد والحوزة التي أوجدها، أي حوزة بغداد حتى عام 413هـ.
لذا ليس من الغريب أن ندّعي أنَّ هذه الشخصية الفريدة الممتازة يعود لها فضل التأسيس وفتح آفاق جديدة باتجاه المحاور الثلاثة التي أشرنا إلى عناوينها فيما سلف.
أما الآن فقد حانت الفرصة لبحث الأبعاد الثلاثة في البناء العلمي لشخصية المفيد.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع