نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الشعر الحسيني (2/2): فنٌّ وثّق التـاريخ

السيد حسين علي إبراهيم

عرضنا في العدد السابق أن الشعر ديوان العرب، الذي يجمع آثارهم وأخبارهم، ويدوّن أحوالهم وتاريخهم، ويخلّد أفراحهم وأحزانهم وانفعالاتهم. وحاولنا أن نجيب عن غرض الشعر الحسيني وأنه يَجُوزُ الأغراض التي يَغلب عليها الطابع الفرديّ كالرثاء، والتأبين، أو هجاء أعداء الحسين عليه السلام ، إلى أغراضٍ دينية واجتماعية؛ فما تَفَجُّعُ الرثاء، والحرص على تأبين المتوفَّى بذكر موقعه وخصاله وخصال من معه، إلّا لأن الدين أصيب بمصابه، ولأن من أرادوا قتله أرادوا بذلك قتل دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ...

ثم ولَجْنا إلى الإجابة عن سؤال المقالة الوحيد: عن إرهاصات الشعر الحسيني وبداياته الأولى التي تشكّل إرهاصاً بنشأة هذا اللون الشعريّ، وذلك في ثلاث مراحل متوالية:
1- قبل يوم العاشر وفي طريق كربلاء.
2- في يوم عاشوراء.
3- في أسر الكوفة والشام.

ثم يُتمُّ هذا المقال نقطتين إضافيتين:

4- بدايات النشأة في المدينة المنوّرة

نقصد بإرهاصاتِ نشأة الشعر الحسينيّ في المدينة المنوّرة الشعرَ الذي أُنشئ عند عودة الإمام السجاد عليه السلام والعيال إلى المدينة المنورة، أو الذي أُنشئ قبل ذلك بفعل معرفة البعض باستشهاد الحسين عليه السلام ، قبل ذلك، كأمّ سَلَمة على ما في حديث القارورة(1)، أو غيرها.

أ- لعلّ أول ما يُذكر هو إرسالُ الإمام السجّاد عليه السلام بشير بن حذلم لينعى الإمام الحسين عليه السلام قبل بلوغ الرَّكْب المدينة، فلمّا بلغ بشير مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع صوته بالبكاء وأنشأ يقول: [الكامل]

 يا أهلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لكم بها  قُتِل الحسينُ فأدمعي مِدْرارُ
 الجسم منه بكربلاء مضرّج  والرأسُ منه على القناةِ يُدار(2)

ثم ذكر كثرة بكاء نساء المدينة وكثرة تفجعهنّ، ونقل قول جارية تنوح على الحسين عليه السلام وتقول: [الطويل]
 نعى سيّدي ناعٍ نعاهُ فأوجَعَا  وأمرضني ناعٍ نعاه فأَفْجَعَا
 فعينيَّ جودا بالدموعِ واسكبا  وجودا بدمعٍ بعد دمعكما مَعَا
 على من دهى عرش الجليل فزعزَعَا  فأصبح هذا المجدُ والدينُ أجَدَعَا
 على ابنِ نبيِّ الله وابنِ وصيِّهِ  وإن كان عنّا شاحطَ الدار أشْسَعَا(3)

ب- ونسب إلى زينب أم كلثوم عليها السلام أنها قالت: [الوافر]
 مدينةَ جَدِّنا لا تقبلينا  فَبِالحسراتِ والأحزانِ جِيْنَا
 خرجنا منكِ بالأهلينَ طُرّاً  رَجَعْنا لا رجالَ ولا بَنِيْنَا(4)
(...)
 ومولانا الحسينُ لنا أنيسٌ  رَجَعْنَا والحسينُ به رَهِينا
 فنحنُ الضائعاتُ بلا كفيلٍ ونحنُ النائحاتُ على أَخِينا 
 ونحن السائراتُ على المطايا  نُشالُ على جِمَالِ المبغضينا(5)

ولعل القائلة هي زينب الصغرى، وهي زوجة عون بن جعفر الطيار، وقد كانت مع أخيها الحسين عليه السلام بكربلاء(6)، هذا على قولٍ مشهورٍ بعدم اتحاد الزينبين والكنيتين.

ج- وخرجت أمّ لقمان زينب بنت عقيل بن أبي طالب على الناس بالبقيع تبكي قتلاها بالطف وهي تقول: [البسيط]

 ماذا تقولون إن قال النبيُّ لكم  ماذا فعلتم وكنتم آخر الأُمَمِ
 بأهلِ بيتي وأنصاري وذرِّيَتِي  منهمْ أُسارى وقَتْلى ضُرِّجُوا بدمِ
 ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم  أن تَخْلُفوني بسوءٍ في ذَوِي رَحِمِي(7)

5- بدايات النشأة الأولى على قبر الحسين عليه السلام

بعد أيام قليلة من شهادة الإمام الحسين عليه السلام بدأ بعض الشعراء بالوفود على قبره ورثائه، وقد ادُّعيت أوّلية الزيارة والرثاء لبعض الشعراء:

أ- سليمان بن قتة (أو قَنّة) (ت: 126هـ).
فعن السيد محسن الأمين أنه ينبغي أن يكون أول من رثاه، فإنه مرّ بكربلاء بعد قتل الحسين عليه السلام بثلاث ليال، فنظر إلى مصارعهم واتكأ على فرسه وقال: [الطويل]

 مررتُ على أبياتِ آل محمد  فلم أرها أمثالَها يومَ حلّتِ
 ألم تَرَ أن الشمسَ أضحتْ مريضةً  لقتلِ حسينٍ والبلادَ اقْشَعَرَّتِ
 وكانوا رجاءً ثم أضحوا رَزِيّةً  لقد عَظُمَتْ تلك الرّزايا وجلّتِ
(...)
 وإن قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشمٍ  أذلَّ رقابَ المسلمين فذلّتِ
 وقد أعولتْ تبكي السماءُ لفقدِهِ  وأنجُمُنَا ناحتْ عليه وصلّتِ(8)
وقيل إنّ هذه المقطوعة لأبي الرميح الخزاعي الذي سيأتي الكلام عليه، أو للتيميّ بن مرّة(9). ولا يظهر من المقطوعة أن صاحبها قصد الزيارة، بل فيها "مررت على أبيات آل محمد".

ب- عقبة بن عمرو السهمي
نقل سبط ابن الجوزي عن السدّي أنه أول من رثى الإمام الحسين عليه السلام ، ورواه المفيد في المجالس، قال من قصيدة هذا مطلعها: "إذا العين قَرّت في الحياة..." ولكن البيت المذكور ليس مطلع القصيدة. والنقل عن عقبة السهميّ أثبتُ من النقل في سليمان بن قتّة السابق، ولكن زمان قصده كربلاء يعود إلى أواخر المائة الأولى، بينما سليمان مرّ سنة إحدى وستين بعد ثلاثة أيام من استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، على فرض الصحة. ويمكن أن يكون تاريخ القصيدة (المقطوعة) أسبق من زمان إلقائها عند الزيارة، وبهذا يصح التمسك بالأوّلية المذكورة. وهي- على فرض ثبوتها- أوليّة نسبيّة؛ لأن الذين رَثَوا الإمام الحسين عليه السلام من الآل وغيرهم بدؤوا بذلك منذ الاستشهاد، بل يكاد يكون ذلك قُبَيْلَهُ- أيضاً- مع التسامح، مثلما نبهنا عليه آنفاً.

ومقطوعة عُقْبَةَ السهميِّ لا تصرّحُ بقصد الزيارة، بل يُعَبّرُ فيها بالمرور على قبر الحسين، ولكنه يأتي فيها بعد ذلك: وقلَّ لها منّي سلامٌ يزورها؛ والمقطوعة هي: [الطويل]

 مررتُ على قبر الحسين بكربلا ففاض عليه من دموعي غَزِيرُها 
 وما زلتُ أبكيه وأرثي لشَجْوِهِ  ويُسْعِدُ عينِي دمعُها وزَفِيرُها
 وبكَّيْتُ من بعدِ الحسينِ عصائباً  أطافتْ به من جانِبَيْهِ قبورُها
 إذا العين قرّتْ في الحياة وأنتمُ  تخافون في الدنيا فأظلمَ نورُها
 سلامٌ على أهل القبور بكربلا  وقلَّ لها مني سلامٌ يزورها
 سلامٌ بآصال العشيِّ وبالضّحى  تؤدّيه نكباءُ الرّياحِ ومورُها
 ولا برحَ الوُفّادُ زُوّارُ قبرِهِ  يفوحُ عليهم مِسْكُها وعَبِيرُها(10)

ج- أبو الرُّمَيح عمير بن مالك الخُزَاعيّ (ت: 100هـ)
كان مكثراً في رثاء الحسين عليه السلام مُقِلّاً في غيره، دخل على فاطمةَ بنتِ الحسين عليهما السلام فأنشدها:
 أجالتْ على عينِيْ سحائبُ عَبْرَةٍ  فلم تصحُ بعد الدَّمْعِ حتّى ارْمَعَلَّتِ
 تبكي على آل النبيّ محمد  وما أكثرتْ في الدمع لا بل أقلّتِ
 أولئك قوم لم يَشيموا سيوفَهُم  وقد نكأتْ أعداءهم حينَ سُلَّتِ
 وإن قتيلَ الطفِّ من آل هاشمٍ  أذلَّ رقاباً من قريش فذلَّتِ(11)

واشتراك البيت الأخير- هنا- اشتراكاً شبه تام مع البيت قبل الأخير من المقطوعة المنسوبة لسليمان بن قتة. والغريب أن أبا الرميح- وفق الرواة- قد تَلَقَّى تعديلاً من فاطمة بنت الحسين عليهما السلام بإبدال كلمة "المسلمين" من عبارة "من قريش"، فتماثل البيتان في القصيدتين تماماً(12). فهل هذا يقوّي احتمال كون أبي الرميح صاحب البيت الأصلي، وأن سليمان أو غيره اقتبسه؟ ربما مع صحة الخبر.

د- عبيد الله بن الحُرّ الجُعْفِيّ (ت: 68هـ).
من أشراف الكوفة، شاعر فحل، له نسخة يرويها عن أمير المؤمنين عليه السلام ، انحاز إلى معاوية بعد قتل الخليفة عثمان، وشهد معه صفين، وخذل الإمام الحسين عليه السلام عندما استنصره وعرض عليه فرسه لينجو عليها، فقال الإمام: "لا حاجة فيك ولا في فرسك، وما كنت متخذَ المضلين عضداً". ثم ندم ندماً شديداً على خذلان الإمام، بعدها التحق بالمختار الثقفي ثأراً للحسين عليه السلام ، ولكنه رجع مغاضباً لإبراهيم ابن الأشتر، فلحق بمصعب بن الزبير، ثم خرج على مصعب لأنه حبسه، وانتهى أمره غرقاً سنة ستٍ وثمانين(13)، وكان له ثلاثة أولاد من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام .

وقد رُوي عن أبي مخنف أن أول من زار قبر الحسين عليه السلام بعد مصرعه ومدفن الأجساد هو عبيد الله بن الحرّ الجُعْفيّ... فوقف على أجساد الشهداء، وبكى بكاءً شديداً، واستعبر، ورثى الحسين وأصحابه الذين قتلوا معه بقصيدة طويلة منها:

 يقول أميرٌ غادرٌ وابن غادرٍ ألا كنتَ قابلتَ الشهيد بن فاطمه 
ونفسي على خِذْلانِهِ واعتزالِهِ  وبيعةِ هذا الناكثِ العهدَ لائمه
 فيا ندمي ألا أكونَ نصرْتُهُ  أَلاَ كلُّ نفسٍ لا تُسَدَّدُ نادِمَه
(...)
 سقى اللهُ أرواحَ الذين تآزروا  على نصرِهِ سقياً من الغيث دائِمَه
 وقفتُ على أجداثهم ومجالهم  فكاد الحشى ينفضُّ والعينُ ساجِمَه
 لعمري لقد كانوا مصاليتَ في الوَغَى  سِراعاً إلى الهَيْجَا حُماةً خضارِمَهْ(14)

وله في ندمه على نصرة الحسين عليه السلام وفي رثائه عدة مقطوعات وقصائد.

هذه هي إرهاصات الشعر الحسينيّ وبداياته الأولى، منذ كانت أبياتاً تنعى الشهيد المعلوم، والحتف القادم المرسوم، حتى بدت بكاءً مرّاً وتفجّعاً على الأب، والولي، والإمام، والسبط، وعلى آله المُجَزَّرِين كالأضاحي، ورثاءً للطهر والإيمان والتقى، وتأبيناً للإخلاص والوفاء والنقا، وهجاءً للكفر والنفاق والذلّة والعمى، ورفضاً للظلم والجور والغيّ واستبدالِ الأرض بالسما...

وقد جاءَ هذا الشعر فطرياً طبيعيّاً، مجافياً للتكلّف، مرتجلاً في كثرته الكاثرة. ويَلْفِتُ فيه درجة مشاركة النساء ارتجالاً وإنشاداً ونواحاً ورأياً واقتراحاً، كما يلفت فيه درجة حضور الآل في هذه البدايات الأولى، حتى كأنهم شاطروا الناس فيض هذا الحبّ والوفاء والولاء، فقاموا هم بقسط، وقام أشياعهم بالقسط الآخر، بل يلفت مشاركة الحسين عليه السلام في رثاء نفسه قبل شهادته.

ومما يحسن الانتباه إليه كمُّ هذا الدفق الشعريّ ونوعه في كربلاء وفي الأيّام والشهور القليلة التي تلتها، وهو الدفق الذي سيشتدّ وينمو في انفجار شعريّ ما زال يشكّل إلى يومنا ظاهرةً فريدةً في الاجتماع الإسلاميّ والعربيّ والإنسانيّ، وفي آداب العالم.


1- أودع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قارورة فيها تراب من كربلاء لدى أمِّ سلمة وأخبرها أنها متى فارت دماً يكون الحسين عليه السلام قد استشهد.
2- مقتل الحسين عليه السلام ، المقرّم، ص374.
3- أدب الطفّ، جواد شُبّر، ج1، ص65.
4- مقتل الحسين عليه السلام ، م.س، ص375- 376.
5- وردت الأبيات كاملة: بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص197.
6- أدب الطفّ، (م.س)، ج1، 76- 77.
7- أدب الطفّ، (م.س)، ج1، ص75، حيث ورد صدر البيت الثاني "بِعِتْرتي وبأهلي بعد مُفْتَقَدِي"، وهذا موافق للمفيد في الإرشاد، ج2، ص123.
8- الدرّ النضيد في مراثي السبط الشهيد، السيد محسن الأمين، ص58.
9- (م.ن).
10- أدب الطفّ، (م.س)، ج1، ص52.
11- (م.ن)، ج1، ص59- 60.
12- مقتل الحسين عليه السلام ، (م.س)، ص190.
13- أدب الطفّ، (م.س)، ج1، ص98.
14- (م.ن)، ج1، ص93- 100.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع