نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

رسالة القرآن في الثقافة

آية الله جوادي الآملي‏


إن دين الإسلام عبارة عن مجموعة من الدعاوى والدعوات. فالدعوى في نبوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة إلى قبول أصولها وفروعها، وإن كان بعض الأحكام الفرعية ذا جهة تعبدية خارجة عن متناول الحس والعقل المتعارف، وسوف تتضح المصلحة منها بعد مضي الزمان والتجارب المديدة، ولهذا قال الله تعالى:
﴿ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. فهذا العلم الذي يقدمه النبي ليس مجهولاً فحسب، بل لا يمكننا أن نحصل عليه لوحدنا.

لكن خطوطها العامة مما يقام عليه البرهان، فإن أصول الدين كافة يستدل عليها بالبرهان، ويكون العقل قادراً على إدراكها على نحو مستقل، هذا، وإن كانت الشواهد الشرعية بدورها معيناً مناسباً ومعاوناً مساعداً له. وكذلك فإن الأبحاث الأخلاقية والحقوقية والفقهية الإسلامية التي لها أبعاد فطرية وإنسانية واجتماعية وأمثالها، فإنه بدورها صالحة للاستدلال، ولكن ليس بحد الأصول الأولية.
لكن خطوطها العامة مما تقام عليه البرهان. فإن أصول الدين كافة يستدل عليها بالبرهان، ويكون العقل قادراً على إدراكها على نحو مستقل. هذا، وإن كانت الشواهد الشرعية بدورها معيناً مناسباً ومعاوناً مساعداً له. وكذلك فإن الأبحاث الأخلاقية والحقوقية والفقهية الإسلامية التي لها أبعاد فطرية وإنسانية واجتماعية وأمثالها، فإنها بدورها صالحة للاستدلال، ولكن ليس بحد الأصول الأولية.

إذا برهن المذهب على مبانيه الأساسية، فإن يصان من هجمات الناقدين وأوهامهم. ولكن، إذا أخذت الأصول المذكورة على أساس السنة القديمة لتقليد المقلدين اللاحقين للمقلّد السابق، وأصبح مجرد السبق الزماني حجة قاطعة له، وجلس التصديق الباطني مكان البرهان العقلي، وجعل السماع مكان الاستدلال وأخذ البصر مسؤولية البصيرة، وأضحى شعار "حسبنا السمع والبصر" سبباً لعزل القلب وحبس الفؤاد، فإنها (الأصول) ستكون معرض الناقدين المدققين. وبما أن القدرة الدفاعية ليست موجودة، فإن مخاطر الارتداد أو التحجّر والتكفير، أو حراب الطرد والطعن واللعن هي التي ستحكم. وكلا المنهجين في الإفراط والتفريط ساقطان لأنهما بعيدان عن الصراط المستقيم للعلم والعقل.

ومن يمكن القول أن فكرة فصل الدين عن العلم تشبه الفكر المتحجر الذي يدعو لفصل الدين عن السياسة، وكلاهما يستلزم سلسلة من التوالي الفاسدة. الفكر الذي يقول بأن "العلم والدين وإن كانا غير مخالفين لبعضهما وكلنهما مختلفان" إذا كان يعني أن الخطوط العامة للدين غير قابلة للتعليل العقلي، بل هي أمر وجداني وباطني لا يصلح للاستدلال، فإنه يستلزم محاذير كثيرة سوف نشير إلى بعضها فيما بعد.
ومن اللازم نبين بشكل عام الفارق بين العلم بمعنى مجموع المسائل والأحكام. العلم ما هو - هنا نكون ناظرين إلى أقسامه من قبيل الحسي والعقلي والقلبي. العلم كم هو - هنا يقصد به تمييز العلوم عن بعضها وكيفية ارتباطها ومداه، ومدى انفصالها ومقداره، لكي لا نقع في الفصل حين الارتباط، والربط حين الانفصال.

فالمعارف الدينية، وإن كانت شاملة للمسائل الحسية والتجريبية التي يمكن الإحساس بها وطرحها في العلوم الحسية، لكن القسم المهم منها أبعد شأواً من الحس، وهو يدخل في نطاق العلم العقلي. هذا مع أن منشأ الجميع هو الوحي والإلهام الذي يفوق نطاق الحس والعقل ويدخل في نطاق العلم القلبي الذي هو شهود الحقائق. وذلك لأن أساس العلم الحسي يعود إلى المبادئ‏ لكلية الخارجة عن نطاق التجربة والتي لا يمكن تعليلها إلا بواسطة العقل المحض. وإذا وفق العارف إلى نيل العلم القلبي وشهود المعارف دون أن يتمكن من صب هذه المعارف القلبية في قالب البرهان العقلي وعرضها وتقديمها للآخرين أو إقناع قلوب آخرين بواسطة الإعجاز بها، فإنه لن يتعدى حدود وجوده، ولا يمكن حينئذ التمييز بين العارف صاحب القلب والعابد صاحب السمع والزاهد صاحب النظر لا البصر. ولا شك أن الطمأنينة عند صاحب القلب أثبت كثيراً من الآخرين، لكنه لن يتمكن أبداً من إنقاذ غريق.

ومن هنا، لم يكن القرآن الكريم لوحده يقوم بالاستدلال على الخطوط الأساسية للدين، بل يأمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتبيين ذلك. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يستدل ضمن احتجاجاته المختلفة على المعارف الإسلامية الأصيلة. فكان يستمد من الإعجاز أحياناً لتأمين أسباب إيمان الآخرين، وهكذا فعل الأئمة المعصومون عليهم السلام مستفيدين من هذين المنهجين لتأمين وسائل العلم والإيمان عند السائلين والمتحيرين. وإذا لم يكن الشخص من أهل الكرامة ليجعل الآخرين مؤمنين مباشرة، وليس من أهل البرهان ليوقظ الأغيار ويكون سبباً لإيمانهم من خلال العلم، وصار على أثر العجز عن العلم والعقل وفق شهوده القلبي قائلاً بفصل الدين عن العلم وانفكاكهما، وأن الدين لا يمكن الاستدلال عليه، فإنه يكون كمن أذعن بجبنه لسلطة العلم الحسي القاهرة، حيث سيشهد بعدها أضرار العلم الحسي المتعدي، دون أن يكون له أية قدرة على دفع طغيانه أو رفع تعدياته، لهذا فإنه يستمد بسلاح اللعن والسباب انطلاقاً من عقدته الباطنية وليس للدفاع عن الدين، بل لأجل رفع اضطراباته، وليس لأجل إزالة الأشواك من أمام طريق الإسلام، بل ليضعها حول رأسه وينشد قائلاً: أخاف أن أجرّ معهم.

فلننظر الآن إلى حالة من يقول بانفكاك الدين عن العلم بمعناه الأعم وأنه غير قابل للتعليل، كيف جرّد الإسلام من سلاحه وجعله في معرض هجوم العلم الحسي وحرابه، وكيف حاول في البداية رسمه ثم أزال اسمه فجعله ﴿نسياً منسياً.
فالعلم الحسي يقوم على أساس نفي وجود أي شي‏ء لا يدركه الحس واعتباره من التصورات الذهنية التي يحملها كل إنسان ويصنعها كما يحلو له وينميها في باطنه. ويقوم أصحاب هذا المذهب بتثبيت هذا الادعاء المشؤوم استناداً إلى مبادئه الخاصة وبالاعتماد على التطورات المادية الباهرة، ويهجمون على الدين بقوله: بما أن مسائله غير قابلة للحس، ولا يمكن إبطالها أو إثباتها حسياً فهي ليست علمية وبالنتيجة فهي فاقدة للعينية (الوجود) ولا تقتصر إلا على الذهن. مما يعني أنها تتبع الأذهان المختلفة في الظروف المتعددة دون متابعة علمية. أي أن قضية أم الكتاب، والكتاب المبين واللوح المحفوظ ونفس الأمر وأمثالها بما أنها غير قابلة للإثبات أو النفي بالحس والتجربة فلا يوجد طريق للاعتقاد بها وتحققها خارج حدود الذهن، بل هي ظواهر ذهنية لا غير.

وهكذا يصبح الإسلام منحصراً بالذهن بدل الواقع، ولا يتعدى اللفظ واللسان، ولا يبقى له أي مكان خارجهما. ثم يصدر هؤلاء أمراً آخر يحملونه على الإسلام المجرّد من السلاح وهو أن الظواهر الذهنية تابعة للظواهر العينية ولا استقلال لها. لهذا فإنها تختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية والإقليمية. وحيث أن مبدأ نشوء الظواهر الذهنية هو الحوادث العينية المتبدلة، فإن الأولى لن تكون ثابتة أبداً. فيصبح الدين عندهم في معرض التبدّل المستمر لكونه خواطر ذهنية محضة لا ثبا لها.

وحيث أن الظواهر الخارجية محدودة ومقيدة وليست مطلقة، والمحدود لا يمكن أن يكون سبباً لنشوء المطلق، فالدين كونه مسبباً من الظواهر المحدودة والمقيدة لا يمكن أن يكون مطلقاً أبداً.
ولأن الظواهر العينية تحدث متتالية على نحو الضرورة على أساس الجبر العجي والعلمي، ولا اختيار لأية واحدة منها، فالدين الناشئ من الظواهر الجبرية يظهر بجبر المحيط والظروف الإقليمية وأمثالها، ويكون على هذا القول تابعاً على نحو القهر في ثبوته أو سقوطه للطبيعة الجبرة وليس للإنسان الحر، وهو ينتعش في ذهنه بدون إرادته ويزول عنه كذلك.
فيكون الدين أمراً ذهنياً لا عينياً، ومتغيراً وليس ثابتاً ومقيداً لا مطلقاً وجبرياً لا اختيارياً، وغيرها من النتائج الأخرى التي تأتي إثر تجريد الإسلام من سلاحه وهجوم العلم الحسي.

وهنا لن يكون للخاتمية وثبات الشريعة وتنزهها عن النسخ والزوال، وكذلك بقاء الحلال الإلهي والحرام الديني على حالهما فرسالة القرآن في الجانب الثقافي هي في فصل العلوم عن بعضها، وتبيين معارفه الأصيلة في دائرة العلم العقلي والشهود القلبي، وكذلك في الحد من تطاول يد العلم الحسي، وتسليح الإسلام الأصيل بسلاح العقل والشهود، ومدّ ظلها الرؤوف على العلم الحسي، وتشجيع الجميع وحثهم على تعلمه وتحصيله والاستفادة منه في إطار الطبيعة، واعتبار النظام الفاعلي والنظام الغائي ضرورياً لمعرفة النظام الداخلي للأشياء وأن أسرار الطبيعة آيات آفاقية على الحق، وأن الرموز النفسانية علامات أنفسية تدل على الله، وأن شهود ذات الحق بمشاهدة ذاته كان قبل السير في الآيات الآفاقية والأنفسية، والصالحين الموحدين كالملائكة شهود وحدانية الله، ومعرفة حضراته في الشعور بالنقص والغناء.

وكما أشرنا في طيات فصل رسالة القرآن في المعرفة، فإن سعي القرآن الذي هو عصارة رسالة الأنبياء لم ينحصر في البرهنة على معارف العقل النظري بتبيان الحدود الوسطى، أو إيصال أصحاب النظر إلى مقام إدراك المعاني العقلية لينالوا الاحتجاج بالاجتهاد.. (ويثيروا لهم دفائن العقول"، بل بالإضافة إلى تعليم مبادئ‏ البرهان وإظهار نتائجه القطعية، يسعى إلى رفع ستار الظن من إمام عين القلب، وإيصال الإنسان السالك الصالح إلى مقام شهود الغيب المنيع، وإراءة باطن الدنيا التي يعتبر حبّها رأس كل خطيئة، وإظهار خصوصية النفس الأمارة التي هي أعدى عدو للإنسان، وإراءة خصومة الشيطان الذي هو عدو الإنسان المبين، لكي يتجلى ما أودع في باطنه بالإلهام الإلهي: ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، ويصبح عالماً بما لم يكن عالماً، بل يصل فيه إلى مقام الشهود، ومما مر يتضح سر تطبيق الكوثر على القرآن الكريم لأن أي عطش ثقافي ينطفئ بتحطيم جدار حصر العلم في التجربة والحس، أي أنه يروي أرض الأفكار أولاً، ويغرس شجرة طوبى في الأرض الخصبة والمرتوية ثانية ثم يقدم ثمار تلك الشجرة المباركة إلى السالكين كما قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "جعله الله رياً لعطش العلماء وبيعاً لقلوب الفقهاء ومنهاجاً لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده داء ونوراً ليس معه ظلمة... وبرهاناً لمن تكلم به... وعلماً لمن وعى..." (نهج البلاغة). فالتأمّل في هذا الكلام يبين أن رسالة القرآن لا تنحصر في بعد العلم العقلي أو الفقهي الذي لا يروي إلا العطش العلمي للعلماء، أو في إرواء عطش قلوب المحققين بالاقتصار على الزينة الثقافية في قلوبهم، بل يسعى لجني ثمار العمل الصالح من مزارع القلوب الخصبة والقيام للسير والسلوك حتى يتضح طريق ارتباط العلم بالعمل ومعالمه. كما ورد في أوصاف الكوثر بأن كل من يشرب منه يشفى من كل عطش وجوع، فقد ذكر هذا حول القرآن المجيد الذي يشفي من كل مرض وظلمة.

وفي الختام لا بد من ذكر هذه النقطة الحساسة وهي أن كافة رسالات القرآن التي تحدثنا عن بعضها في الفصول السابقة لا يمكن تطبيقها إلا في ظل العترة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وإلا فإن أياً من تلك الأهداف السامية لا يمكن أن يتحقق بهذا الظن الباطل الذي يقول حسبنا كتاب الله، كما جاء في الحديث المشهور بالثقلين عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنهما لن يفترقا أبداً. أما من يتوهم افتراقهما أو انفصالهما عن بعضهما فإنه يكون كمن جزأ البسيط فنفى البساطة من أصله.
ويقول القرآن الناطق الإمام أمير المؤمنين عليهم السلام حول ضرورة الرجوع إلى أهل البيت العصمة والطهارة عليهم السلام: "واعلموا أنهم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتسموا ذلك من عند أهله".
راجين من المولى تعالى أن يجعل قلوب الجميع ساحة لأنوار القرآن والعترة عليهم السلام.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع