نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

حقيقة الدنيا في نهج البلاغة

الدنيا والآخرة ضرّتان، والإنسان خلق للآخرة لا للدنيا. وهي العقبة الكؤود التي ينبغي أن نعبرها لنصل إلى ما خلقنا له.

فما هي هذه الدنيا وما حقيقتها؟
لن نجد مثل أمير المؤمنين عليه السلام واصفاً للدنيا مبيناً لحقيقتها. فلقد بيّن حتى بلغ ووعظ حتى حذر، وكان عصر خلافته إرثاً ثقيلاً للعصور السابقة التي خلّفت جيلاً محباً للدنيا بعيداً عن المعنويات مكباً على المشتهيات والملذات.
فوقف كالطود العظيم شامخاً بعز وإباء يلملم ما تبقى فيهم في روحانيات الصدر الأول يذكرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المنتجبين الذين تركوا الدنيا ورفضوها وآثروا الآخرة وعمروها فوصلوا إلى عز اللقاء ووردوا مناهل البقاء.

* حقيقة الدنيا: الفناء والزوال‏
"أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، ألا وإن اليوم المضمار، وغداً السباق والسبقة الجنة...".
"فتلكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ1 وقراضة الجلم2" و"الدنيا دار مّني لها الفناء، لأهلها منها الجلاء، وهي حلوة خضرة. وقد عجلت للطالب، والتبست بقلب الناظر، فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد...".
هي الدنيا إذاً، بحقيقتها الفناء، وكل ما ظهر منها زينة زائلة سرعان ما يخبو وهجها، ويكتشف طلابها خدعها ويعلمون أنهم لحقوا بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
"إلا وأن الدنيا قد تصرمت وآذنت بوداع، وتنكر معروفها، وأدبرت حذّاء، فهي تحفز بالفناء سكانها، وتحدو بالموت جيرانها، وقد أمرّ منها ما كان حلواً، وكدر منها ما كان صفواً، فلم يبق منها إلا سملة كسملة الإداوة3، أو جرعة كجرعة المقلة4، لو تمززها الصديان لم ينقع5".
"فإنها عند ذوي العقول كفي‏ء الظل بينا تراه سابغاً حتى قلص وزائداً حتى نقص".

وقال عليه السلام:
"ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها فتن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته".
ولربما فرّط آخرون فرأوا الدنيا عدواً في غير محله، فتركوها ترك الرافضين لنعم الله وابتلاءاته، وآثروا الانزواء على الجهاد وعاشوا عيشة الصوفية، وظنوا أن الزهد أن لا تملك شيئاً فأجابهم أمير المؤمنين عليه السلام بكلمة قال عنها الشريف الرضي: "وإذا تأمل المتأمل قوله عليه السلام وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غايته ولا يدرك غوره".
قال عليه السلام: "ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته".
فهي مبصرة لمن تبصر بها تريه حقائق الأمور، وبها يعتبر من الفناء والزوال فتتوق نفسه إلى دار الخلد وحقيقة البقاء. أما من يجعلها غاية آماله ومنتهى تطلعاته (أبصر إليها)، فإنها تعميه وتزين له أنه خلق لها لا لغيرها.

ومن جميل ما ذكره أمير المؤمنين في بيان حدود الدنيا:
"الناس في الدنيا عاملان: عامل عمل في الدنيا للدنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلفه الفقر، ويأمنه على نفسه فيغني عمره في منفعة غيره. وعامل عمل في الدنيا لما بعدها، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز الحظين معاً، وملك الدارين جميعاً، فأصبح وجيهاً عند الله لا يسأل الله حاجة فيمنعه".
وفي هذا النص الرائع يتبين لنا أن العمل في الدنيا ينبغي أن يكون لغير الدنيا (ومن مصاديقه الجهاد في سبيل الله) وتكون النتيجة القطعية أن يرزق العامل هنا ما يحتاجه في الدنيا، وبما أن الدنيا لا تساوي إلا ما يحتاجه الإنسان، فإنه يكون قد رزق الدنيا جميعاً. أما الآخرة فإنها تقاس على موازين العلم الإلهي الذي هو عطاء غير مجذوذ، فيرزق العامل في سبيل الله كل الآخرة التي فيها خير لا ينفذ وعطاء لا ينقطع فيحصل على الدنيا والآخرة جميعاً.

أما عندما تتعارض الدنيا والآخرة على مستوى العمل فأيهما نقدم؟
يقول عليه السلام:
"لا يترك الناس شيئاً من أمور دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه".
فحتى لو كانت الدنيا عند الإنسان خراب، بمعنى أن أوضاعه المعيشية سيئة وحالته الاقتصادية مزرية، ثم ترك التكليف الشرعي - مهما كان - لأجل إصلاح دنياه، فإن النتيجة تكون أن يناله ما هو أشد خراباً وضرراً عليه.
وقال عليه السلام:
"إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة، وعاداها. وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر، وها بعدُ ضرتان".
وقال عليه السلام:
"مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة".

ثم يرجع عليه السلام ليبين للسامع المتبصر أن المشكلة هنا في إرادة الإنسان واختياره، أما الدنيا فإنها لا تمثل - بحد ذاتها - إلا قنطرة ومعبراً، وأن السالك يمكن أن يتزود منها بأفضل زاد ليصل إلى أعلى عليين:
فقال عليه السلام: وقد سمع رجلاً يذم الدنيا:
"أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، المخدوع بأباطيلها، أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟
أبمصارع آبائك من البلى؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟
إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن أتعظ بها، ومسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله. ومهبط وحي الله. ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة...".
وقال عليه السلام:
"الدنيا دار مر لا دار مقر، والناس فيها رجلان، رجل باع فيها نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها".


1- حثالة القرظ: قشرة النبتة الفاسدة.
2- قراشة الجلم: ما يسقط عند تنظيف الصوف.
3- سملة الإدواة: بقية الماء في الوعاء.
4- جرعة المقلة: جرعة قليلة جداً.
5- تمززها الصديان: تذوقها العطشان.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع